اللهم انك عفو تحب العفو فإعف عني

اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فإعف عني وعنا

Translate الترجمة

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 9 مايو 2023

تفسير سورة الأحقاف 3./الايات من 15 الي 20.



تفسير سورة الأحقاف ./الايات من 15 الي 20. 

مشاري الاحقاف

 

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20

 

الأحقاف - تفسير ابن كثير

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)

{ وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) } .

لما ذكر تعالى في الآية الأولى التوحيد له وإخلاص العبادة والاستقامة إليه، عطف بالوصية بالوالدين، كما هو مقرون في غير ما آية من القرآن، كقوله: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [الإسراء:23] وقال: { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } [لقمان: 14] ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. وقال هاهنا: { وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا } أي: أمرناه بالإحسان إليهما والحنو عليهما.

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، أخبرني سِمَاك بن حرب قال: سمعت مُصْعب بن سعد (1) يحدث عن سعد قال: قالت أم سعد لسعد: أليس قد أمر الله بطاعة الوالدين، فلا آكل طعاما، ولا أشرب شرابا حتى تكفر بالله. فامتنعت من الطعام والشراب، حتى جعلوا يفتحون فاها بالعصا، ونزلت هذه الآية: { وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا } الآية [العنكبوت: 8] .

__________

(1) في أ: "حرب".

(7/279)

ورواه مسلم وأهل السنن إلا ابن ماجه، من حديث شعبة بإسناده، نحوه وأطول منه (1) .

{ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا } أي: قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعبا، من وِحَام وغشيان وثقل وكرب، إلى غير ذلك مما تنال الحوامل من التعب والمشقة، { وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا } أي: بمشقة أيضا من الطلق وشدته، { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا }

وقد استدل علي، رضي الله عنه، بهذه الآية مع التي في لقمان: { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } [لقمان: 14] ، وقوله: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [البقرة: 233] ، على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وهو استنباط قوي صحيح. ووافقه عليه عثمان وجماعة من الصحابة، رضي الله عنهم.

قال محمد بن إسحاق بن يسار، عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيْط، عن بَعْجَةَ (2) بن عبد الله الجهني قال: تزوج رجل منا امرأة من جُهَيْنة، فولدت له لتمام ستة أشهر، فانطلق زوجها إلى عثمان فذكر ذلك له، فبعث إليها، فلما قامت لتلبس ثيابها بكت أختها، فقالت: ما يبكيك؟! فوالله ما التبس بي أحد من خلق الله غيره قط، فيقضي الله في ما شاء. فلما أتي بها عثمان أمر برجمها، فبلغ ذلك عليا فأتاه، فقال له: ما تصنع؟ قال: ولدت تماما لستة أشهر، وهل يكون ذلك؟ فقال له [علي] (3) أما تقرأ القرآن؟ قال: بلى. قال: أما سمعت الله يقول: { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا } وقال: { [يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ ] حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } (4) ، فلم نجده بقي إلا ستة أشهر، قال: فقال عثمان: والله ما فطنت لهذا، علي بالمرأة فوجدوها قد فُرِغَ منها، قال: فقال بَعْجَةُ: فوالله ما الغراب بالغراب، ولا البيضة بالبيضة بأشبه منه بأبيه. فلما رآه أبوه قال: ابني إني والله لا أشك فيه، قال: وأبلاه (5) الله بهذه القرحة قرحة الآكلة، فما زالت تأكله حتى مات (6) .

رواه ابن أبي حاتم، وقد أوردناه من وجه آخر عند قوله: { فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } [الزخرف: 81] .

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا فَرْوَة بن أبي المَغْرَاء، حدثنا علي بن مِسْهَر، عن داود بن أبي هند، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس (7) قال: إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر كفاه من الرضاع أحد وعشرون شهرا، وإذا وضعته لسبعة أشهر كفاه من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرًا، وإذا وضعته لستة أشهر فحولين كاملين؛ لأن الله تعالى يقول: { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا }

{ حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } أي: قوى وشب وارتجل { وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } أي: تناهى عقله وكمل فهمه وحلمه. ويقال: إنه لا يتغير غالبا عما يكون عليه ابن الأربعين.

__________

(1) مسند الطيالسي برقم (208) وصحيح مسلم يرقم (1748) وسنن أبي داود برقم (2740) وسنن الترمذي برقم (3079) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11196) لكن النسائي لم يرو الشاهد هنا وإنما روى أوله.

(2) في ت، أ: "معمر".

(3) زيادة من ت، أ.

(4) زيادة من أ.

(5) في ت، م، أ: "وابتلاه".

(6) ورواه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور للسيوطي 07/441).

(7) في ت: "عن عكرمة وروى عن ابن عباس".

(7/280)

قال أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن القاسم بن عبد الرحمن قال: قلت لمسروق: متى يؤخذ الرجل بذنوبه؟ قال: إذا بَلَغْتَ الأربعين، فَخُذْ حذرك.

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا عُبَيد الله القواريري، حدثنا عَزْرَة بن قيس الأزدي -وكان قد بلغ مائة سنة-حدثنا أبو الحسن السلولي (1) عنه وزادني (2) قال: قال محمد بن عمرو بن عثمان، عن عثمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العبد المسلم إذا بلغ أربعين سنة خفف الله حسابه، وإذا بلغ (3) ستين سنة رزقه الله الإنابة إليه، وإذا بلغ سبعين سنة أحبّه أهل السماء، وإذا بلغ ثمانين سنة ثبت الله حسناته ومحا سيئاته، وإذا بلغ تسعين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وشفَّعه الله في أهل بيته، وكتب في السماء: أسير (4) الله في أرضه" (5) .

وقد روي هذا من غير هذا الوجه، وهو في مسند الإمام أحمد (6) (7) .

وقد قال الحجاج بن عبد الله الحكمي أحد أمراء بني أمية بدمشق: تركت المعاصي والذنوب أربعين سنة حياء من الناس، ثم تركتها حياء من الله، عز وجل.

وما أحسن قول الشاعر:

صَبَا ما صَبَا حَتى عَلا الشَّيبُ رأسَهُ ... فلمَّا عَلاهُ قال للباطل: ابطُل (8)

{ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي } أي: ألهمني { أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ } أي: في المستقبل، { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي } أي: نسلي وعقبي، { إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدد التوبة والإنابة إلى الله، عز وجل، ويعزم عليها.

وقد روى أبو داود في سننه، عن ابن مسعود، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم أن يقولوا في التشهد: "اللهم، ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبُل (9) السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنّبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا، وأزواجنا، وذرياتنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها قابليها، وأتممها علينا" (10) .

قال الله تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ } أي: هؤلاء المتصفون بما ذكرنا، التائبون إلى الله المنيبون إليه، المستدركون ما فات بالتوبة والاستغفار، هم الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا، ويتجاوز عن سيئاتهم، فيغفر لهم الكثير من الزلل، ويتقبل منهم اليسير من العمل، { فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ } أي: هم في جملة أصحاب الجنة، وهذا حكمهم عند الله كما وعد

__________

(1) في م، أ: "أبو الحسن الكوفي- عمر بن أوس".

(2) في ت: "وروى الحافظ".

(3) في ت، م: "رزقه".

(4) في ت، م، أ: "أمين".

(5) قال الهيثمي في المجمع (10/205): "رواه أبو يعلى في الكبير وفيه عزرة بن قيس الأزدي، وهو ضعيف".

(6) في ت: "وهذا الحديث في مسند الإمام أحمد".

(7) رواه الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، المسند (3/218).

(8) في ت، م، أ: "أبعد".

(9) في ت: "سبيل".

(10) سنن أبي داود برقم (969).

(7/281)

الله من تاب إليه وأناب؛ ولهذا قال: { وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ }

قال (1) ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا المُعْتَمِر بن سليمان، عن الحكم بن أبان، عن الغطْرِيف، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس (2) ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الروح الأمين، عليه (3) السلام، قال: "يؤتى (4) بحسنات العبد وسيئاته (5) ، فيقتص (6) بعضها ببعض، فإن بقيت حسنة وسع الله له في الجنة" قال: فدخلتُ على يزداد فَحُدّث بمثل هذا الحديث قال: قلت: فإن ذهبت الحسنة؟ قال: { أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } (7) .

وهكذا رواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، عن المعتمر بن سليمان، بإسناده مثله -وزاد عن الروح الأمين. قال: قال الرب، جل جلاله: يؤتى بحسنات العبد وسيئاته... فذكره، وهو حديث غريب، وإسنادٌ جيد لا بأس به.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سليمان بن مَعْبَد، حدثنا عمرو بن عاصم الكلائي، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر (8) جعفر بن أبي وَحْشية، عن يوسف بن سعد (9) ، عن محمد بن حاطب قال: ونزل في داري حيث ظهر علي على أهل البصرة، فقال لي يوما: لقد شهدتُ أمير المؤمنين عليا، وعنده عمارا وصعصعة والأشتر ومحمد بن أبي بكر، فذكروا عثمان فنالوا منه، وكان علي، رضي الله عنه، على السرير، ومعه عود في يده، فقال قائل منهم: إن عندكم من يفصل بينكم فسألوه، فقال علي: كان عثمان من الذين قال الله: { أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } قال: والله عثمان وأصحاب عثمان -قالها ثلاثا-قال يوسف: فقلت لمحمد بن حاطب: آلله لسمعت هذا من عليّ؟ قال: آلله لسمعت هذا من علي، رضي الله عنه.

__________

(1) في ت: "وروى".

(2) في ت: "ابن عباس رضي الله عنه".

(3) في م: "عليهما".

(4) في ت: "تؤتى".

(5) في أ: "وسيئاته يوم القيامة".

(6) في أ: "فيقبض".

(7) تفسير الطبري (26/12) ورواه أبو نعيم في الحلية (3/91) من طريق معتمر بن سليمان به، وقال أبو نعيم: "هذا حديث غريب من حديث جابر، والغطويف تفرد به عنه الحكم بن أبان العدني".

(8) في أ: "بشير".

(9) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".

(7/282)

وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)

{ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) } .

لما ذكر تعالى حال الداعين للوالدين البارين بهما وما لهم عنده من الفوز والنجاة، عطف بحال الأشقياء العاقين للوالدين فقال: { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا } -وهذا عام في كل من قال هذا، ومن زعم أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر فقوله ضعيف؛ لأن عبد الرحمن بن أبي بكر أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، وكان من خيار أهل زمانه.

وروى العَوْفي، عن ابن عباس: أنها نزلت في ابن لأبي بكر الصديق. وفي صحة هذا نظر، والله أعلم.

وقال ابن جُرَيْج، عن مجاهد: نزلت في عبد الله بن أبي بكر. وهذا أيضا قاله ابن جريج.

وقال آخرون: عبد الرحمن بن أبي بكر. وقاله (1) السدي. وإنما هذا عام في كل من عق والديه وكذب بالحق، فقال لوالديه: { أُفٍّ لَكُمَا } عقهما.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا يحيى بن أبي زائدة، عن إسماعيل بن أبي خالد، أخبرني عبد الله بن المديني قال: إني لفي المسجد حين خطب مَرْوان، فقال: إن الله أرى (2) أمير المؤمنين في يزيد رأيا حسنا، وإن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر عمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: أهرقلية؟! إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده، ولا أحدا من أهل بيته، ولا جعلها معاوية في ولده إلا رحمة وكرامة لولده. فقال مروان: ألست الذي قال لوالديه: أف لكما؟ فقال عبد الرحمن: ألست ابن اللعين الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباك؟ قال: وسمعتهما عائشة فقالت: يا مروان، أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا؟ كذبتَ، ما فيه نزلت، ولكن نزلت في فلان بن فلان. ثم انتحب مروان، ثم نزل عن المنبر حتى أتى باب حجرتها ،فجعل يكلمها حتى انصرف (3) .

وقد رواه البخاري بإسناد آخر ولفظ آخر، فقال: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عَوانة، عن أبي بِشْر، عن يوسف بن مَاهَك قال: كان مَرْوان على الحجاز، استعمله معاوية بن أبي سفيان، فخطب وجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا، فقال: خذوه. فدخل بيت عائشة، رضي الله عنها، فلم يقدروا عليه، فقال (4) مروان: إن هذا الذي أنزل فيه: { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي } فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن، إلا أن الله أنزل عُذرِي (5) .

طريق أخرى: قال النسائي: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أميَّة بن خالد، حدثنا شعبة، عن محمد بن زياد قال: لما بايع معاوية لابنه، قال مروان: سُنَّة أبي بكر وعمر. فقال عبد الرحمن بن أبي

__________

(1) في ت، م: "وهذا قول".

(2) في م، أ: "الله قد أرى".

(3) ورواه ابن مردويه فغي تفسيره كما في الدر المنثور (7/444).

(4) في أ: "فلم يقدر عليه فقام فقال".

(5) صحيح البخاري برقم (4827).

(7/283)

بكر: سُنَّة هرقل وقيصر. فقال مروان: هذا الذي أنزل الله فيه: { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا } الآية، فبلغ ذلك عائشة فقالت: كذب مروان! والله ما هو به، ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروانُ في صلبه، فمروان فَضَضٌ (1) من لعنة الله (2) .

وقوله: { أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ } أي: [أن] (3) أبعث { وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي } أن (4) قد مضى الناس فلم يرجع منهم مخبر، { وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ } أي: يسألان الله فيه أن يهديه ويقولان لولدهما: { وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ } قال الله [تعالى] (5) { أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ } أي: دخلوا في زمرة أشباههم وأضرابهم من الكافرين الخاسرين أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.

وقوله: { أولئك } بعد قوله: { وَالَّذِي قَالَ } دليل على ما ذكرناه من أنه جنس يعم كل من كان كذلك.

وقال الحسن وقتادة: هو الكافر الفاجر العاق لوالديه، المكذب بالبعث.

وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة سهل بن داود، من طريق هشام بن عمار: حدثنا حماد بن عبد الرحمن، حدثنا خالد بن الزبرقان الحلبي، عن سليمان بن حبيب المحاربي، عن أبي أمامة الباهلي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربعة لعنهم الله من فوق عرشه، وأَمَّنتْ عليهم الملائكة: مضل المساكين -قال خالد: الذي يهوي بيده إلى المسكين فيقول: هلم أعطيك، فإذا جاءه قال: ليس معي شيء-والذي يقول للمكفوف: اتق الدابة، وليس بين يديه شيء. والرجل يسأل عن دار القوم فيدلونه على غيرها، والذي يضرب الوالدين حتى يستغيثا" (6) . غريب جدا.

وقوله: { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا } أي: لكل عذاب بحسب عمله، { وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } أي: لا يظلمهم مثقال ذرة فما دونها.

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: درجات النار تذهب سفالا ودرجات الجنة تذهب علوا.

وقوله: { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } أي: يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا. وقد تورع [أمير المؤمنين] (7) عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عن (8) كثير من طيبات المآكل والمشارب، وتنزه عنها، ويقول: [إني] (9) أخاف أن أكون كالذين قال الله تعالى لهم وقَرَّعهم: { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا }

__________

(1) في أ: "بعض".

(2) النسائي في السنن الكبرى برقم (11491).

(3) زيادة من ت.

(4) في ت، أ: "أي".

(5) زيادة من ت، م.

(6) مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (10/221) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (4/251) من طريق هشام بن عمار به. قال ابن أبي حاتم في العلل (2/413): "سألت أبي عن هذا الحديث فقال: هذا حديث منكر". قال الهيثمي في المجمع (4/251): "حماد بن عبد الرحمن العكي عن خالد بن الزبرقان، وكلاهما ضعيف".

(7) زيادة من ت، م، أ.

(8) في أ: "على".

(9) زيادة من ت، م، أ.

(7/284)

وقال أبو مِجْلَز: ليتفقَّدَنّ أقوامٌ حَسَنات كانت لهم في الدنيا، فيقال لهم: { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا }

وقوله: { فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ } فجوزوا من جنس عملهم، فكما نَعَّموا أنفسهم واستكبروا عن اتباع الحق، وتعاطوا الفسق والمعاصي، جازاهم الله بعذاب الهون، وهو الإهانة والخزي والآلام الموجعة، والحسرات المتتابعة والمنازل في الدركات المفظعة، أجارنا الله من ذلك كله.

======================

الأحقاف - تفسير القرطبي

الآية: 15 {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}

فيه سبع مسائل:

الأولى: قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} بين اختلاف حال الإنسان مع أبويه، فقد يطيعهما وقد يخالفهما، أي فلا يبعد مثل هذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم وقومه حتى يستجيب له البعض ويكفر البعض. فهذا وجه اتصال الكلام بعضه ببعض، قاله القشيري.

الثانية: {حسنا} قراءة العامة {حُسناً} وكذا هو في مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام. وقرأ ابن عباس والكوفيون {إحسانا} وحجتهم قوله تعالى في سورة (الأنعام وبني إسرائيل): {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الأنعام: 151] وكذا هو في مصاحف الكوفة. وحجة القراءة الأولى قوله تعالى في سورة العنكبوت: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت: 8]

(16/192)

ولم يختلفوا فيها. والحسن خلاف القبح. والإحسان خلاف الإساءة. والتوصية الأمر. وقد مضى القول في هذا وفيمن نزلت.

الثالثة: قوله تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} أي بكره ومشقة. وقراءة العامة بفتح الكاف. واختاره أبو عبيد، قال: وكذلك لفظ الكره في كل القرآن بالفتح إلا التي في سورة البقرة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] لأن ذلك اسم وهذه كلها مصادر. وقرأ الكوفيون {كرها} بالضم. قيل: هما لغتان مثل الضعف والضعف والشهد والشهد، قاله الكسائي، وكذلك هو عند جميع البصريين. وقال الكسائي أيضا والفراء في الفرق بينهما: إن الكره (بالضم) ما حمل الإنسان على نفسه، وبالفتح ما حمل على غيره، أي قهرا وغضبا، ولهذا قال بعض أهل العربية إن كرها (بفتح الكاف) لحن.

الرابعة: قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} قال ابن عباس: إذا حملت تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهرا، وإن حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرا. وروي أن عثمان قد أتي بامرأة قد ولدت لستة أشهر، فأراد أن يقضي عليها بالحد، فقال له علي رضي الله عنه: ليس ذلك عليها، قال الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} وقال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] فالرضاع أربعة وعشرون شهرا والحمل ستة أشهر، فرجع عثمان عن قول ولم يحدها. وقد مضى في "البقرة". وقيل: لم يعد ثلاثة أشهر في ابتداء الحمل، لأن الولد فيها نطفة وعلقة ومضغة فلا يكون له ثقل يحس به، وهو معنى قوله تعالى: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ} [الأعراف: 189]. والفصال الفطام. وقد تقدم في "لقمان" الكلام فيه. وقرأ الحسن ويعقوب وغيرهما {وفَصْلِه} بفتح الفاء وسكون الصاد. وروي أن الآية نزلت في أبي بكر الصديق؛ وكان حمله وفصاله في ثلاثين شهرا، حملته أمه تسعة أشهر وأرضعته إحدى وعشرين شهرا. وفي الكلام إضمار،

(16/193)

أي ومدة حمله ومدة فصاله ثلاثون شهرا، ولو لا هذا الإضمار لنصب ثلاثون على الظرف وتغير المعنى.

الخامسة: قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} قال ابن عباس: {أَشُدَّهُ} ثماني عشرة سنة. وقال في رواية عطاء عنه: إن أبا بكر صحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة والنبي صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة، وهم يريدون الشام للتجارة، فنزلوا منزلا فيه سدرة، فقعد النبي صلى الله عليه وسلم في ظلها، ومضى أبو بكر إلى راهب هناك فسأله عن الدين. فقال الراهب: من الرجل الذي في ظل الشجرة؟ فقال: ذاك محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب. فقال: هذا والله نبي، وما استظل أحد تحتها بعد عيسى. فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، وكان لا يكاد يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره وحضره. فلما نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة، صدق أبو بكر رضى الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانية وثلاثين سنة. فلما بلغ أربعين سنة قال: {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} الآية. وقال الشعبي وابن زيد: الأشد الحلم. وقال الحسن: هو بلوغ الأربعين. وعنه قيام الحجة عليه. وقد مضى في "الأنعام" الكلام في الآية. وقال السدي والضحاك: نزلت في سعد بن أبي وقاص. وقد تقدم. وقال الحسن: هي مرسلة نزلت على العموم. والله أعلم.

السادسة: قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} أي ألهمني. {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} في موضع نصب على المصدر، أي شكر نعمتك {عَلَيَّ} أي ما أنعمت به علي من الهداية {وَعَلَى وَالِدَيَّ} بالتحنن والشفقة حتى ربياني صغيرا. وقيل: أنعمت علي بالصحة والعافية وعلى والدي بالغنى والثروة. وقال علي رضي الله عنه: هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أسلم أبواه جميعا ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره، فأوصاه الله بهما ولزم ذلك من بعده. ووالده هو قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم. وأمه

(16/194)

أم الخير، واسمها سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد. وأم أبيه أبي قحافة "قيلة" "بالياء المعجمة باثنتين من تحتها". وامرأة أبي بكر الصديق اسمها "قتيلة" "بالتاء المعجمة باثنتين من فوقها" بنت عبد العزى. {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ } قال ابن عباس: فأجابه الله فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله منهم بلال وعامر بن فهيرة، ولم يدع شيئا من الخير إلا أعانه الله عليه. وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم اليوم صائما" ؟ قال أبو بكر أنا. قال: "فمن تبع منكم اليوم جنازة" ؟ قال أبو بكر أنا. قال: "فمن أطعم منكم اليوم مسكينا" ؟ قال أبو بكر أنا. قال: "فمن عاد منكم اليوم مريضا" ؟ قال أبو بكر أنا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة" .

السابعة: قوله تعالى: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} أي اجعل ذريتي صالحين. قال ابن عباس: فلم يبق له ولد ولا والد ولا والدة إلا امنوا بالله وحده. ولم يكن أحد من أصحاب رسول الله أسلم هو وأبواه وأولاده وبناته كلهم إلا أبو بكر. وقال سهل بن عبدالله: المعنى اجعلهم لي خلف صدق، ولك عبيد حق. وقال أبو عثمان: اجعلهم أبرارا لي مطيعين لك. وقال ابن عطاء: وفقهم لصالح أعمال ترضى بها عنهم. وقال محمد بن علي: لا تجعل للشيطان والنفس والهوى عليهم سبيلا. وقال مالك بن مقول: اشتكى أبو معشر ابنه إلى طلحة بن مصرف، فقال: استعن عليه بهذه الآية، وتلا: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}. {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ} قال ابن عباس: رجعت عن الأمر الذي كنت عليه. {وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي المخلصين بالتوحيد.

الآية: 16 {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ}

(16/195)

قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} قراءة العامة بضم الياء فيهما. وقرئ {يَتَقَبَّلُ} و {يَتَجَاوَزُ} بفتح الياء، والضمير فيهما يرجع لله عز وجل. وقرأ حفص وحمزة والكسائي {نَتَقَبَّلُ، وَنَتَجَاوَزُ } النون فيهما، أي نغفرها ونصفح عنها. والتجاوز أصله من جزت الشيء إذا لم تقف عليه. وهذه الآية تدل على أن الآية التي قبلها {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ} إلى آخرها مرسلة نزلت على العموم. وهو قول الحسن. ومعنى {نتقبل عنهم} أي نتقبل منهم الحسنات ونتجاوز عن السيئات. قال زيد بن أسلم - ويحكيه مرفوعا -: إنهم إذا أسلموا قبلت حسناتهم وغفرت سيئاتهم. وقيل: الأحسن ما يقتضى الثواب من الطاعات، وليس في الحسن المباح ثواب ولا عقاب، حكاه ابن عيسى. {فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} {في} بمعنى مع، أي مع أصحاب الجنة، تقول: أكرمك وأحسن إليك في جميع أهل البلد، أي مع جميعهم. {وعد الصدق} نصب لأنه مصدر مؤكد لما قبله، أي وعد الله أهل الإيمان أن يتقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم وعد الصدق. وهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه، لأن الصدق هو ذلك الوعد الذي وعده الله، وهو كقوله تعالى: {حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة: 95]. وهذا عند الكوفيين، فأما عند البصريين فتقديره: وعد الكلام الصدق أو الكتاب الصدق، فحذف الموصوف. وقد مضى هذا في غير موضع. {الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} في الدنيا على ألسنة الرسل، وذلك الجنة.

الآية: 17 - 18 {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ

قوله تعالى: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} أي أن أبعث. {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} قراءة نافع وحفص وغيرهما {أُفٍّ} مكسور منون. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وابن عامر والمفضل عن عاصم {أُفَّ} بالفتح من غير تنوين. الباقون بالكسر غير منون، وكلها لغات، وقد مضى في "بني إسرائيل". وقراءة العامة {أَتَعِدَانِنِي} بنونين مخففتين. وفتح ياءه أهل المدينة ومكة. وأسكن الباقون. وقرأ أبو حيوة والمغيرة وهشام {أَتَعِدَانِّي} بنون واحدة مشددة، وكذلك هي في مصاحف أهل الشام. والعامة على ضم الألف وفتح الراء من {أَنْ أُخْرَجَ}. وقرأ الحسن ونصر وأبو العالية والأعمش وأبو معمر بفتح الألف وضم الراء. قال ابن عباس والسدي وأبو العالية ومجاهد: نزلت في عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنهما، وكان يدعوه أبواه إلى الإسلام فيجيبهما بما أخبر الله عز وجل.

وقال قتادة والسدي أيضا: هو عبدالرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه، وكان أبوه وأمه أم رومان يدعوانه إلى الإسلام ويعدانه بالبعث، فيرد عليهما بما حكاه الله عز وجل عنه، وكان هذا منه قبل إسلامه. وروي أن عائشة رضي الله عنها أنكرت أن تكون نزلت في عبدالرحمن. وقال الحسن وقتادة أيضا: هي نعت عبد كافر عاق لوالديه. وقال الزجاج: كيف يقال نزلت في عبدالرحمن قبل إسلامه والله عز وجل يقول: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ} أي العذاب، ومن ضرورته عدم الإيمان، وعبدالرحمن من أفاضل المؤمنين، فالصحيح أنها نزلت في عبد كافر عاق لوالديه. وقال محمد بن زياد: كتب معاوية إلى مروان بن الحكم حتى يبايع الناس ليزيد، فقال عبدالرحمن بن أبي بكر: لقد جئتم بها هرقلية، أتبايعون لأبنائكم فقال مروان: هو الذي يقول الله فيه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} الآية. فقال: والله ما هو به. ولو شئت لسميت، ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه، فأنت فضض من لعنة الله. قال المهدوي: ومن جعل الآية في عبدالرحمن كان قوله بعد ذلك {أُولَئِكَ الَّذِينَ  حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} يراد به من اعتقد ما تقدم ذكره، فأول الآية خاص وآخرها عام. وقيل إن عبدالرحمن لما قال: {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} قال مع ذلك: فأين عبدالله بن جدعان، وأين عثمان بن عمرو، وأين عامر بن كعب ومشايخ قريش حتى أسألهم عما يقولون. فقول: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} يرجع إلى أولئك الأقوام.

قلت: قد مضى من خبر عبدالرحمن بن أبي بكر في سورة (الأنعام) عند قوله: {لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} [الأنعام: 71] ما يدل على نزول هذه الآية فيه، إذ كان كافرا وعند إسلامه وفضله تعين أنه ليس المراد بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ}. {وَهُمَا} يعني والديه. {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ} أي يدعوان الله له بالهداية. أو يستغيثان بالله من كفره، فلما حذف الجار وصل الفعل فنصب. وقيل: الاستغاثة الدعاء، فلا حاجة إلى الباء. قال الفراء: أجاب الله دعاءه وغواثه. {وَيْلَكَ آمِنْ} أي صدق بالبعث. {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي صدق لا خلف فيه. {فَيَقُولُ مَا هَذَا} أي ما يقوله والداه. {إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أي أحاديثهم وما سطروه مما لا أصل له. {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} يعني الذين أشار إليهم ابن أبي بكر في قوله أحيوا لي مشايخ قريش، وهم المعنيون بقوله: {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} . فأما ابن أبي بكر عبدالله أو عبدالرحمن فقد أجاب الله فيه دعاء أبيه في قوله: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف: 15] على ما تقدم. ومعنى: {حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} أي وجب عليهم العذاب، وهي كلمة الله: "هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي". {فِي أُمَمٍ} أي مع أمم {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ} تقدمت ومضت. {مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} الكافرين {إِنَّهُمْ} أي تلك الأمم الكافرة {كَانُوا خَاسِرِينَ} لأعمالهم، أي ضاع سعيهم وخسروا الجنة.

الآية: 19 {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}

(16/198)

قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} أي ولكل واحد من الفريقين المؤمنين والكافرين من الجن والإنس مراتب عند الله يوم القيامة بأعمالهم. قال ابن زيد: درجات أهل النار في هذه الآية تذهب سفالا، ودرج أهل الجنة علوا. {وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} قرأ ابن كثير وابن محيصن وعاصم وأبو عمرو ويعقوب بالياء لذكر الله قبله، وهو قوله تعالى: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} واختاره أبو حاتم. الباقون بالنون ردا على قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} وهو اختيار أبي عبيد. {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي لا يزاد على مسيء ولا ينقص من محسن.

الآية: 20 {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ}

قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ} أي ذكرهم يا محمد يوم يعرض. {عَلَى النَّارِ} أي يكشف الغطاء فيقربون من النار وينظرون إليها. {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} أي يقال لهم أذهبتم، فالقول مضمر. وقرأ الحسن ونصر وأبو العال ويعقوب وابن كثير {أأذهبتم} بهمزتين مخففتين، واختاره أبو حاتم. وقرأ أبو حيوة وهشام {آذهبتم} بهمزة واحدة مطولة على الاستفهام. الباقون بهمزة واحدة من غير مد على الخبر، وكلها لغات فصيحة ومعناها التوبيخ، والعرب توبخ بالاستفهام وبغير الاستفهام، وقد تقدم. واختار أبو عبيد ترك الاستفهام لأنه قراءة أكثر أئمة السبعة نافع وعاصم وأبي عمرو وحمزة والكسائي، مع من وافقهم شيبة والزهري وابن محيصن والمغيرة بن أبي شهاب ويحيى بن الحارث والأعمش ويحيى بن وثاب وغيرهم، فهذه عليها جلة الناس. وترك الاستفهام أحسن، لأن إثباته يوهم أنهم لم يفعلوا ذلك، كما تقول: أنا ظلمتك؟ تريد أنا لم أظلمك. وإثباته حسن أيضا، يقول القائل: ذهبت فعلت كذا، يوبخ ويقول: أذهبت فعلت كل ذلك جائز. ومعنى

(16/199)

{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} أي تمتعتم بالطيبات في الدنيا واتبعتم الشهوات واللذات، يعني المعاصي. {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} أي عذاب الخزي والفضيحة. قال مجاهد: الهون الهوان. قتادة: بلغة قريش. {بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي تستعلون على أهلها بغير استحقاق. {وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} في أفعالكم بغيا وظلما. وقيل: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} أي أفنيتم شبابكم في الكفر والمعاصي. قال ابن بحر: الطيبات الشباب والقوة، مأخوذ من قولهم: ذهب أطيباه، أي شبابه وقوته. قال الماوردي: ووجدت الضحاك قاله أيضا.

قلت: القول الأول أظهر، روى الحسن عن الأحنف بن قيس أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لأنا أعلم بخفض العيش، ولو شئت لجعلت أكبادا وصلاء وصنابا وصلائق، ولكني أستبقي حسناتي، فإن الله عز وجل وصف أقواما فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} وقال أبو عبيد في حديث عمر: لو شئت لدعوت بصلائق وصناب وكراكر وأسنمة. وفي بعض الحديث: وأفلاذ. قال أبو عمرو وغيره: الصلاء (بالمد والكسر): الشواء، سمي بذلك لأنه يصلى بالنار. والصلاء أيضا: صلاء النار، فإن فتحت الصاد قصرت وقلت: صلى النار. والصناب: الأصبغة المتخذة من الخردل والزبيب. قال أبو عمرو: ولهذا قيل للبرذون: صنابي، وإنما شبه لونه بذلك. قال: والسلائق (بالسين" هو ما يسلق من البقول وغيرها. وقال غيره: هي الصلائق بالصاد، قال جرير:

تكلفني معيشة آل زيد ... ومن لي بالصلائق والصناب

والصلائق: الخبز الرقاق العريض. وقد مضى هذا المعنى في (الأعراف). وأما الكراكر فكراكر الإبل، واحدتها كركرة وهي معروفة، هذا قول أبي عبيد.

وفي الصحاح: والكركرة رحى زور البعير، وهي إحدى النفثات الخمس. والكركرة أيضا الجماعة من

(16/200)

الناس. وأبو مالك عمرو بن كركرة رجل من علماء اللغة. قال أبو عبيد: وأما الأفلاذ فإن واحدها فلذ، وهي القطعة من الكبد. قال أعشى باهلة:

تكفيه حزة فلذ إن ألم بها ... من الشواء ويروي شربه الغمر

وقال قتادة: ذكر لنا أن عمر رضي الله عنه قال: لو شئت كنت أطيبكم طعاما، وألينكم لباسا، ولكني أستبقي طيباتي للآخرة. ولما قدم عمر الشام صنع له طعام لم ير قط مثله قال: هذا لنا! فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وما شبعوا من خبز الشعير فقال خالد بن الوليد: لهم الجنة، فاغرورقت عينا عمر بالدموع وقال: لئن كان حظنا من الدنيا هذا الحطام، وذهبوا هم في حظهم بالجنة فلقد باينونا بونا بعيدا.

وفي صحيح مسلم وغيره أن عمر رضي الله عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مشربته حين هجر نساءه قال: فالتفت فلم أر شيئا يرد البصر إلا أهبا جلودا معطونة قد سطع ريحها، فقلت: يا رسول الله، أنت رسول الله وخيرته، وهذا كسرى وقيصر في الديباج والحرير؟ قال: فاستوى جالسا وقال: "أفي شك أنت يا ابن الخطاب. أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا" فقلت: استغفر لي فقال: "اللهم اغفر له" . وقال حفص بن أبي العاص: كنت أتغدى عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخبز والزيت، والخبز والخل، والخبز واللبن، والخبز والقديد، وأقل ذلك اللحم الغريض. وكان يقول: لا تنخلوا الدقيق فإنه طعام كله، فجيء بخبز متفلع غليظ، فجعل يأكل ويقول: كلوا، فجعلنا لا نأكل، فقال: ما لكم لا تأكلون؟ فقلنا: والله يا أمير المؤمنين نرجع إلى طعام ألين من طعامك هذا، فقال: يا بن أبي العاص أما ترى بأني عالم أن لو أمرت بعناق سمينة فيلقى عنها شعرها ثم تخرج مصلية كأنها كذا وكذا،

(16/201)

أما ترى بأني عالم أن لو أمرت بصاع أو صاعين من زبيب فأجعله في سقاء ثم أشن عليه من الماء فيصبح كأنه دم غزال، فقلت: يا أمير المؤمنين، أجل ما تنعت العيش، قال: أجل والله الذي لا إله إلا هو لولا أني أخاف أن تنقص حسناتي يوم القيامة لشاركناكم في العيش ولكني سمعت الله تعالى يقول لأقوام: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}. {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} أي الهوان. {بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي تتعظمون عن طاعة الله وعلى عباد الله. {وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} تخرجون عن طاعة الله. وقال جابر: اشتهى أهلي لحما فاشتريته لهم فمررت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: ما هذا يا جابر؟ فأخبرته، فقال: أو كلما اشتهى أحدكم شيئا جعله في بطنه أما يخشى أن يكون من أهل هذه الآية: {أذهبتم طيباتكم} الآية.

قال ابن العربي: وهذا عتاب منه له على التوسع بابتياع اللحم والخروج عن جلف الخبز والماء، فإن تعاطي الطيبات من الحلال تستشره لها الطباع وتستمرئها العادة فإذا فقدتها استسهلت في تحصيلها بالشبهات حتى تقع في الحرام المحض بغلبة العادة واستشراه الهوى على النفس الأمارة بالسوء. فأخذ عمر الأمر من أوله وحماه من ابتدائه كما يفعله مثله. والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه: على المرء أن يأكل ما وجد، طيبا كان أو قفارا، ولا يتكلف الطيب ويتخذه عادة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشبع إذا وجد، ويصبر إذا عدم، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها، ويشرب العسل إذا اتفق له، ويأكل اللحم إذا تيسر، ولا يعتمد أصلا، ولا يجعله ديدنا. ومعيشة النبي صلى الله عليه وسلم معلومة، وطريقة الصحابة منقولة، فأما اليوم عند استيلاء الحرام وفساد الحطام فالخلاص عسير، والله يهب الإخلاص، ويعين على الخلاص برحمته. وقيل: إن التوبيخ واقع على ترك الشكر لا على تناول الطيبات المحللة، وهو حسن، فإن

(16/202)

تناول الطيب الحلال مأذون فيه، فإذا ترك الشكر عليه واستعان به على ما لا يحل له فقد أذهبه. والله أعلم.

===============

ت الطبري

الأحقاف - تفسير الطبري

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي

(22/111)

إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) }

يقول تعالى ذكره: ووصينا ابن آدم بوالديه الحسن في صحبته إياهما أيام حياتهما، والبرّ بهما في حياتهما وبعد مماتهما.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله(حُسنا) فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة "حُسنا" بضمّ الحاء على التأويل الذي وصف. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة(إحْسانا) بالألف، بمعنى: ووصيناه بالإحسان إليهما، وبأيّ ذلك قرأ القارئ فمصيب، لتقارب معاني ذلك ، واستفاضة القراءة بكل واحدة منهما في القرّاء.

وقوله( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ) يقول تعالى ذكره: ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا برّا بهما، لما كان منهما إليه حملا ووليدا وناشئا، ثم وصف جلّ ثناؤه ما لديه من نعمة أمه، وما لاقت منه في حال حمله ووضعه، ونبهه على الواجب لها عليه من البرّ، واستحقاقها عليه من الكرامة وجميل الصحبة، فقال:( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ ) يعني في بطنها كرها، يعني مشقة،( وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ) يقول: وولدته كرها يعني مشقة.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ) يقول: حملته مشقة، ووضعته مشقة.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة والحسن ، في قوله( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ) قالا حملته في مشقة، ووضعته في مشقة.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد، قوله( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا ) قال: مشقة عليها.

اختلف القرّاء في قراءة قوله(كُرْها) فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة

(22/112)

"كَرها" بفتح الكاف. وقرأته عامة قرّاء الكوفة(كُرها) بضمها، وقد بينت اختلاف المختلفين في ذلك قبل إذا فتح وإذا ضمّ في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان، متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.

وقوله( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ) يقول تعالى ذكره: وحمل أمه إياه جنينا في بطنها، وفصالها إياه من الرضاع، وفطمها إياه، شرب اللبن ثلاثون شهرا.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله(وَفِصَالُهُ) ، فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار غير الحسن البصري:(وحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ) بمعنى: فاصلته أمه فصالا ومفاصلة. وذُكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه: "وحَمْلُهُ وَفَصْلُهُ" بفتح الفاء بغير ألف، بمعنى: وفصل أمه إياه.

والصواب من القول في ذلك عندنا، ما عليه قرّاء الأمصار، لإجماع الحجة من القراء عليه، وشذوذ ما خالف.

وقوله( حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ ) اختلف أهل التأويل في مبلغ حد ذلك من السنين، فقال بعضهم: هو ثلاث وثلاثون سنة.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: أشدّه: ثلاث وثلاثون سنة، واستواؤه أربعون سنة، والعذر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة( حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ ) قال: ثلاثا وثلاثين.

وقال آخرون: هو بلوغ الحلم.

(22/113)

* ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مجالد، عن الشعبيّ، قال: الأشدّ: الحلم إذا كتبت له الحسنات، وكتبت عليه السيئات.

وقد بيَّنا فيما مضى الأشدّ جمع شدّ، وأنه تناهي قوّته واستوائه. وإذا كان ذلك كذلك، كان الثلاث والثلاثون به أشبه من الحلم، لأن المرء لا يبلغ في حال حُلمه كمال قواه، ونهاية شدّته، فإن العرب إذا ذكرت مثل هذا من الكلام، فعطفت ببعض على بعض جعلت كلا الوقتين قريبا أحدهما من صاحبه، كما قال جلّ ثناؤه:( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ ) ولا تكاد تقول أنا أعلم أنك تقوم قريبا من ساعة من الليل وكله، ولا أخذت قليلا من مال أو كله، ولكن تقول: أخذت عامة مالي أو كله، فكذلك ذلك في قوله( حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ) لا شك أن نسق الأربعين على الثلاث والثلاثين أحسن وأشبه، إذ كان يراد بذلك تقريب أحدهما من الآخر من النسق على الخمس عشرة أو الثمان عشرة.

وقوله( وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ) ذلك حين تكاملت حجة الله عليه، وسير عنه جهالة شبابه وعرف الواجب لله من الحق في بر والديه.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ) وقد مضى من سيئ عمله.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة( وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي ) حتى بلغ( مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) وقد مضى من سيئ عمله ما مضى.

وقوله( قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ) يقول تعالى ذكره: قال هذا الإنسان الذي هداه الله لرشده، وعرف حقّ الله عليه فيما ألزمه من برّ والديه( رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ) يقول: أغرني بشكر نعمتك التي أنعمت عليّ في تعريفك إياي توحيدك وهدايتك

(22/114)

أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)

لي للإقرار بذلك، والعمل بطاعتك( وَعَلَى وَالِدَيَّ ) من قبلي، وغير ذلك من نعمتك علينا، وألهمني ذلك. وأصله من وزعت الرجل على كذا: إذا دفعته عليه.

وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله( أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ) قال: اجعلني أشكر نعمتك، وهذا الذي قاله ابن زيد في قوله( رَبِّ أَوْزِعْنِي ) وإن كان يئول إليه معنى الكلمة، فليس بمعنى الإيزاع على الصحة.

وقوله( وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ ) يقول تعالى ذكره: أوزعني أن أعمل صالحا من الأعمال التي ترضاها، وذلك العمل بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .

وقوله( وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ) يقول: وأصلح لي أموري في ذرّيتي الذين وهبتهم، بأن تجعلهم هداة للإيمان بك، واتباع مرضاتك، والعمل بطاعتك، فوصفه (1) جل ثناؤه بالبرّ بالآباء والأمهات والبنين والبنات. وذُكر أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه .

وقوله( إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هذا الإنسان.( إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ ) يقول: تبت من ذنوبي التي سلفت مني في سالف أيامي إليك( وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) يقول: وإني من الخاضعين لك بالطاعة، المستسلمين لأمرك ونهيك، المنقادين لحكمك.

القول في تأويل قوله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) }

__________

(1) لعله فوصاه .

(22/115)

يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين هذه الصفة صفتهم، هم الذين يُتقبل عنهم أحسن ما عملوا في الدنيا من صالحات الأعمال، فيجازيهم به، ويثيبهم عليه( وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ ) يقول: ويصفح لهم عن سيئات أعمالهم التي عملوها في الدنيا، فلا يعاقبهم عليها( فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ ) يقول: نفعل ذلك بهم فعلنا مثل ذلك في أصحاب الجنة وأهلها الذين هم أهلها.

كما حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن الحكم بن أبان، عن الغطريف، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس. عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عن الروح الأمين، قال: "يؤتي بحسنات العبد وسيئاته، فيقتص بعضها ببعض، فإن بقيت حسنة وسع الله له في الجنة- قال: فدخلت على يزداد، فحدث بمثل هذا الحديث، قال: قلت: فإن ذهبت الحسنة؟ قال:( أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ )... الآية .

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، قال: دعا أبو بكر عمر رضي الله عنهما ، فقال له: إني أوصيك بوصية أن تحفظها: إن لله في الليل حقا لا يقبله بالنهار، وبالنهار حقا لا يقبله بالليل، إنه ليس لأحد نافلة حتى يؤدّي الفريضة، إنه إنما ثقُلت موازين من ثقُلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحقّ في الدنيا، وثقُل ذلك عليهم، وحقّ لميزان لا يوضع فيه إلا الحقّ أن يثقل، وخفَّت موازين من خفَّت موازينه يوم القيامة، لاتباعهم الباطل في الدنيا، وخفته عليهم، وحقّ لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف.

ألم تر أن الله ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم، فيقول قائل: أين يبلغ عملي من عمل هؤلاء، وذلك أن الله عزّ وجلّ تجاوز عن أسوأ أعمالهم فلم يبده، ألم تر أن الله ذكر أهل النار بأسوأ أعمالهم حتى يقول قائل: أنا خير عملا من هؤلاء، وذلك بأن الله ردّ عليهم أحسن أعمالهم، ألم تر أن الله عزّ وجلّ أنزل أية الشدّة عند آية الرخاء، وآية الرخاء عند آية الشدّة، ليكون المؤمن راغبا راهبا، لئلا يُلقي

(22/116)

وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)

بيده إلى التهلكة، ولا يتمنى على الله أمنية يتمنى على الله فيها غير الحقّ.

واختلفت القراء في قراءة قوله( أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة(يُتَقَبَّلُ وَيُتَجَاوَزُ) بضم الياء منهما، على ما لم يسمّ فاعله، ورفع(أحْسَنُ). وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة(نَتَقَبَّلُ، وَنَتَجَاوَزُ) بالنون وفتحها، ونصب(أحسنَ) على معنى إخبار الله جلّ ثناؤه عن نفسه أنه يفعل ذلك بهم،

وردّا للكلام على قوله( وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ ) ونحن نتقبل منهم أحسن ما عملوا ونتجاوز، وهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.

وقوله( وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ) يقول: وعدهم الله هذا الوعد، وعد الحقّ لا شك فيه أنه موفّ لهم به، الذي كانوا إياه في الدنيا يعدهم الله تعالى، ونصب قوله( وَعْدَ الصِّدْقِ ) لأنه مصدر خارج من قوله( نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ ) ، وإنما أخرج من هذا الكلام مصدر وعد وعدا، لأن قوله( يَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ - وَيَتَجاوَز ُ) وعد من الله لهم، فقال: وعد الصدق، على ذلك المعنى.

القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (17) }

وهذا نعت من الله تعالى ذكره نعت ضالّ به كافر، وبوالديه عاقّ، وهما مجتهدان في نصيحته ودعائه إلى الله، فلا يزيده دعاؤهما إياه إلى الحقّ، ونصيحتهما له إلا عتوًا وتمرّدا على الله، وتماديا في جهله، يقول الله جلّ ثناؤه( وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ ) أن دعواه إلى الإيمان بالله، والإقرار ببعث الله خلقه من قبورهم، ومجازاته إياهم بأعمالهم(أُفٍّ لَكُمَا) يقول: قذرا لكما ونتنا( أَتَعِدَانِنِي أَنْ

(22/117)

أُخْرَجَ ) يقول أتعدانني أن أخرج من قبري من بعد فنائي وبلائي فيه حيا.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ ) أن أبعث بعد الموت.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله( أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ ) قال: يعني البعث بعد الموت.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله( وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي )... إلى آخر الآية; قال: الذي قال هذا ابن لأبي بكر رضي الله عنه ، قال:( أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ ) أتعدانني أن أبعث بعد الموت.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في قوله( وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ ) قال: هو الكافر الفاجر العاقّ لوالديه، المكذب بالبعث.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ثم نعت عبد سوء عاقا لوالديه فاجرا فقال:( وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا )... إلى قوله( أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ) .

وقوله( وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي ) يقول: أتعدانني أن أبعث، وقد مضت قرون من الأمم قبلي، فهلكوا، فلم يبعث منهم أحدا، ولو كنت مبعوثا بعد وفاتي كما تقولان، لكان قد بعث من هلك قبلي من القرون( وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ ) يقول تعالى ذكره ووالداه يستصرخان الله عليه، ويستغيثانه عليه أن يؤمن بالله، ويقرّ بالبعث ويقولان له:( وَيْلَكَ آمِنْ ) ، أي صدّق بوعد الله، وأقر أنك مبعوث من بعد وفاتك، إن وعد الله الذي وعد خلقه أنه باعثهم من قبورهم، ومخرجهم منها إلى موقف الحساب لمجازاتهم بأعمالهم حقّ لا شكّ فيه، فيقول عدوّ الله مجيبا لوالديه، وردًّا عليهما نصيحتهما، وتكذيبا بوعد الله: ما هذا الذي تقولان لي وتدعواني إليه من التصديق بأني مبعوث من بعد وفاتي من

(22/118)

أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)

قبري، إلا ما سطره الأوّلون من الناس من الأباطيل، فكتبوه، فأصبتماه أنتما فصدّقتما.

القول في تأويل قوله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) }

يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين هذه الصفة صفتهم، الذين وجب عليهم عذاب الله، وحلَّت بهم عقوبته وسخطه، فيمن حلّ به عذاب الله على مثل الذي حلّ بهؤلاء من الأمم الذين مضوا قبلهم من الجنّ والإنس، الذين كذّبوا رسل الله، وعتوا عن أمر ربهم.

وقوله(إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ) يقول تعالى ذكره: إنهم كانوا المغبونين ببيعهم الهدى بالضلال والنعيم بالعقاب. 2

حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثنا أبي، عن قتادة، عن الحسن، قال: الجنّ لا يموتون، قال قتادة: فقلت( أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ )... الآية.

وقوله( وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ) يقول تعالى ذكره: ولكلّ هؤلاء الفريقين: فريق الإيمان بالله واليوم الآخر، والبرّ بالوالدين، وفريق الكفر بالله واليوم الآخر، وعقوق الوالدين اللذين وصف صفتهم ربنا عزّ وجلّ في هذه الآيات منازل ومراتب عند الله يوم القيامة، مما عملوا، يعني من عملهم الذي عملوه في الدنيا من صالح وحسن وسيىء يجازيهم الله به.

وقد حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله( وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ) قال: درج أهل النار يذهب سفالا ودرج أهل الجنة يذهب علوا( وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ ) يقول جلّ ثناؤه: وليعطى جميعهم

(22/119)

وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)

أجور أعمالهم التي عملوها في الدنيا، المحسن منهم بإحسانه ما وعد الله من الكرامة، والمسيء منهم بإساءته ما أعدّه من الجزاء( وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) يقول: وجميعهم لا يظلمون: لا يجازى المسيء منهم إلا عقوبة على ذنبه، لا على ما لم يعمل، ولا يحمل عليه ذنب غيره، ولا يبخس المحسن منهم ثوابَ إحسانه.

القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) }

يقول تعالى ذكره:( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ عَلَى النَّارِ ) يقال لهم( أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ) فيها.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ) قرأ يزيد حتى بلغ( وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ) تعلمون والله أن أقواما يشترطون حسناتهم استبقى رجل طيباته إن استطاع، ولا قوّة إلا بالله. ذُكر أن عمر بن الخطاب كان يقول: لو شئت كنت أطيبكم طعاما، وألينكم لباسا، ولكني أستبقي طيباتي. وذُكر لنا أنه لما قدم الشأم، صنع له طعام لم ير قبله مثله، قال: هذا لنا، فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير؟ قال خالد بن الوليد: لهم الجنة، فاغرورقت عينا عمر، وقال: لئن كان حظنا في الحطام، وذهبوا- قال أبو جعفر فيما أرى أنا- بالجنة، لقد باينونا بونا بعيدا.

وذُكر لنا "أن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم دخل على أهل الصفة مكانا يجتمع - فيه فقراء المسلمين، وهم يرقَعون ثيابهم بالأدَم، ما يجدون لها رقاعا، قال: أنتم اليوم خير، أو يوم يغدو أحدكم في حلة، ويروح في أُخرى، ويغدى عليه بحفنة، ويُراح عليه بأخرى، ويستر بيته كما تستر الكعبة. قالوا: نحن يومئذ

(22/120)

خير، قال: " بل أنتم اليوم خير" .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: حدثنا صاحب لنا عن أبي هريرة، قال: إنما كان طعامنا مع النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم الأسودين: الماء، والتمر، والله ما كنا نرى سمراءكم هذه، ولا ندري ما هي.

قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي بردة بن عبد الله بن قيس الأشعريّ، عن أبيه، قال: أي بنيّ لو شهدتنا مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ونحن مع نبينا إذا أصابتنا السماء، حسبت أن ريحنا ريح الضأن، إنما كان لباسنا الصوف.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله عزّ وجلّ( أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا )... إلى آخر الآية، ثم قرأ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ ) وقرأ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا ) وقرأ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ )... إلى آخر الآية، وقال: هؤلاء الذين أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله( أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ ) ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار(أَذْهَبْتُمْ) بغير استفهام، سوى أبي جعفر القارئ، فإنه قرأه بالاستفهام، والعرب تستفهم بالتوبيخ، وتترك الاستفهام فيه، فتقول: أذهبت ففعلت كذا وكذا، وذهبت ففعلت وفعلت. وأعجب القراءتين إليّ ترك الاستفهام فيه، لإجماع الحجة من القرّاء عليه، ولأنه أفصح اللغتين.

وقوله( فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ) يقول تعالى ذكره: يقال لهم: فاليوم أيها الكافرون الذين أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا تجزون: أي تثابون عذاب الهون، يعني عذاب الهوان، وذلك عذاب النار الذي يهينهم. كما حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى;

(22/121)

وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد( عَذَابَ الْهُونِ ) قال: الهوان( بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) يقول: بما كنتم تتكبرون في الدنيا على ظهر الأرض على ربكم، فتأبون أن تخلصوا له العبادة، وأن تذعنوا لأمره ونهيه بغير الحقّ، أي بغير ما أباح لكم ربكم، وأذن لكم به( وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ) يقول: بما كنتم فيها تخالفون طاعته فتعصونه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تفسير سورة النمل

تفسير سورة النمل     تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ قَدْ اِخْتَلَفَ الْمُف...