اللهم انك عفو تحب العفو فإعف عني

اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فإعف عني وعنا

Translate الترجمة

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 8 مايو 2023

أفلا تتذكرون المؤلف عبد العزيز بن ناصر الجليل

أفلا تتذكرون المؤلف عبد العزيز بن ناصر الجليل 

تمهيد

يبين الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - أنواع الفكر والتفكير: نافعة ورديئة فيقول: « أصل الخير والشرِّ من قِبَل التفكر؛ فإن الفِكْرَ مبدأ الإرادة والطلب في الزهد والترك والحب والبغض. وأنفعُ الفِكْرِ الفكرُ في مصالح المعاد، وفي طريق اجتلابها، وفي دفع مفاسد المعاد، وفي طرق اجتنابها، فهذه أربعة أفكار هي أجَلّ الأفكار. ويليها أربعة: فكر في مصالح الدنيا، وطرق تحصيلها، وفكر في مفاسد الدنيا، وطرق الاحتراز منها.

فعلى هذه الأقسام الثمانية دارت أفكار العقلاء، ورأس القسم الأول الفكر في آلاء اللّه ونِعَمِهِ، وأمرِهِ ونهيه، وطرُق العلم به وبأسمائه وصفاته من كتابه وسُنة نبيه _صلى الله عليه وسلم_ وما والاهما، وهذا الفكر يثمر لصاحبه المحبة والمعرفة. فإذا فكَّر في الآخرة وشرفها ودوامها، وفي الدنيا وخِسَّتِهَا وفَنَائِها، أثمر له ذلك الرغبة في الآخرة، والزهد في الدنيا، وكلما فكَّر في قصر الأمل، وضيق الوقت، أورثه ذلك الجدَّ والاجتهاد، وبذل الوسع في اغتنام الوقت.

وهذه الأفكار تُعْلي همته، وتُحْييها بعد موتها وسُفولها، وتجعله في وادٍ والناس في واد. وبإزاء هذه الأفكارِ: الأفكارُ الرديئة التي تجول في قلوب أكثر هذا الخلق؛ كالفكر فيما لم يُكلَّف الفكر فيه، ولا أُعطي الإحاطة به من فضول العلم الذي لا ينفع، كالفكر في كيفية ذات الرب وصفاته، مما لا سبيل للعقول إلى إدراكه.

ومنها الفكر في الصناعات الدقيقة التي لا تنفع بل تضرّ؛ كالفكر في الشطرنج والموسيقى وأنواع الأشكال والتصاوير.

ومنها الفكر في العلوم التي لو كانت صحيحة لم يُعْطِ الفكرُ فيها النفس كمالاً ولا شرفًا؛ كالفكر في دقائق المنطق والعلم الرياضي والطبيعي، وأكثر علوم الفلاسفة التي لو بلغ الإنسان غاياتها لم يكمل بذلك ولم يُزَكِّ نفسَه.

ومنها الفكر في الشهوات واللذات وطرق تحصيلها، وهذا وإن كان للنفس فيه لذة لكن لا عاقبة له، ومضرَّته في عاقبة الدنيا قبل الآخرة أضعافُ مسرَّته.

ومنها الفكر فيما لم يكن لو كان كيف كان يكون؛ كالفكر فيما إذا صار مَلِكًا، أو وجَدَ كنزًا، أو مَلَك ضيعة، ماذا يصنع؟ وكيف يتصرف، ويأخذ، ويعطي، وينتقم؟ ونحو ذلك من أفكار السفل.

ومنها الفكر في جزئيات أحوال الناس وما جَرَاياتهم ومداخلهم ومخارجهم، وتوابع ذلك من فكر النفوس المبطلة الفارغة من الله ورسوله والدار الآخرة.

ومنها الفِكر في دقائق الحِيَل والمَكْر التي يتوصّلَ بها إلى أغراضه وهواه؛ مُباحة كانت أو محرَّمة.

ومنها الفكر في أنواع الشِعْر وصروفه وأفانينه في المدح والهجاء والغزل والمراثي ونحوها؛ فإنه يَشْغَل الإنسان عن الفكر فيما فيه سعادته وحياته الدائمة.

ومنها الفكر في المقدَّرات الذهنية التي لا وجود لها في الخارج ولا بالناس حاجة إليها البتَّة، وذلك موجود في كل علم حتى في علم الفقه والأصول والطب؛ فكل هذه الأفكار مضرَّتها أرجح من منفعتها، ويكفي في مضرَّتها شُغْلها عن الفكر فيما هو أوْلى به وأعْوَدُ عليه بالنفع عاجلاً وآجلاً» (1) ا.هـ.

ويقول في موطن آخر: «مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار؛ فإنها توجب التصوُّرات، والتصوُّرات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرةُ تكراره تعطي العادة. فصلاحُ هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار، وفسادُها بفسادها. فصلاح الخواطر بأن تكون مراقبة لوليِّها وإلهها صاعدة إليه، دائرةً على مرضاته ومَحابِّه؛ فإنه _سبحانه_ به كلُّ صلاح، ومن عندِه كل هدى، ومن توفيقه كل رشد، ومن تولِّيه لعبده كل حفظ، ومن تولِّيه وإعراضه عنه كل ضلال وشقاء. فيظفر العبد بكل خير وهدى ورشد بقدر إثبات عين فكرته في آلائه ونِعَمه وتوحيده، وطرق معرفته، وطرق عبوديته، وإنزاله إياه حاضراً معه، مشاهدًا له، ناظرًا إليه، رقيبًا عليه، مُطَّلعًا على خواطره وإرادته وهمِّه. فحينئذٍ يستحيي منه، ويجلُّه أن يُطْلِعَه منه على عورة يكره أن يَطّلِعَ عليها مخلوق مثله، أو يرى في نفسه خاطرًا يمقته عليه. واعلم أن الخطرات والوساوس تؤدِّي متعلقاتها إلى الفكر، فيأخذها الفكر فيؤدِّيها إلى التذكر، فيأخذها الذكر فيؤدِّيها إلى الإرادة، فتأخذها الإرادة فتؤدِّيها إلى الجوارح والعمل، فتستحكم فتصير عادة، فرَدُّها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوَّتها وتمامها ... ومن المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار، وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات، وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتداركه أسهل من قطع العوائد.فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا يعنيك؛ فالفكر فيما لا يعني باب كل شر،ومَن فكَّرَ فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه،واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه، فالفكر والخواطر، والإرادة والهمَّة أحق شيء بإصلاحه من نفسك، فإن هذه خاصتك وحقيقتك التي تبتعد بها أو تقرب من إلهك ومعبودك الذي لا سعادة لك إلا في قربه ورضاه عنك، وكلُّ الشقاء في بُعدك عنه وسخطه عليك. ومَن كان في خواطره ومجالات فكره دنيئًا خسيسًا لم يكن في سائر أمره إلا كذلك ... وجماع إصلاح ذلك: أن تشغَلَ فكرك في باب العلوم والتصوُّرات بمعرفة ما يلزمك من التوحيد وحقوقه، وفي الموت وما بعده إلى دخول الجنة والنار. وفي آفات الأعمال وطرق التحرُّز منها، وفي باب الإرادات والعُزوم أن تشغل نفسك بإرادة ما ينفعك إرادته، وطرح إرادة ما يضرُّك إرادته. وعند العارفين أنّ تمنّي الخيانة وإشغالَ الفكر والقلب بها أضر على القلب من نفس الخيانة،ولا سيما إذا فرغ قلبه منها بعد مباشرتها، فإنّ تمنّيها يشغل القلب بها ويملؤه منها ويجعلها همّه ومُراده»(2) ا.هـ.

وقد ورد للفكر والتفكير معان متقاربة، منها:

التذكر، والنظر، والاعتبار، والتدبر، والاستبصار ... إلى غيرها من المعاني المتقاربة. وعندما أورد الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - هذه المرادفات للتفكر عقَّب على ذلك بقوله: «وهذه معان متقاربة تجتمع في شيء وتتفرق في آخر، ويُسمَّى تفكرًا؛ لأنه استعمال الفكر في ذلك وإحضاره عنده، ويُسمَّى تذكرًا؛ لأنه إحضار للعلم الذي يجب مراعاته بعد ذهوله وغيبته عنه، ومنه قوله _تعالى_: ((إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)) (الأعراف:201).

ويُسمَّى نظرًا؛ لأنه التفات بالقلب إلى المنظور فيه، ويُسمَّى تأمّلاً؛ لأنه مراجعة للنظر كرّة بعد كرّة حتى يتجلّى له وينكشف لقلبه، ويُسمَّى اعتبارًا وهو افتعال من العبور؛ لأنه يعبر منه إلى غيره فيعبر من ذلك الذي قد فكّر فيه إلى معرفة ثالثة وهي المقصود من الاعتبار، ولهذا يسمى عبرة. وهي على بناء الحالات - كالجلسة والقتلة - إيذانًا بأن هذا العلم والمعرفة قد صار حالاً لصاحبه يعبر منه إلى المقصود منه، وقال الله _تعالى_:((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى)) (النازعـات:26)، وقال: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ)) (آل عمران: من الآية13).

ويُسمَّى تدبرًا؛ لأنه نظر في أدبار الأمور - وهي أواخرها وعواقبها - ومنه تدبّر القول، وقال _تعالى_: ((أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ)) (المؤمنون: من الآية68)؟ ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)) (النساء:82)، وتدبّر الكلام أن ينظر في أوله وآخره، ثم يعيد نظره مرة بعد مرة، ولهذا جاء على بناء التفعّل كالتجرّع والتفهّم والتبيّن.

وسمّي استبصارًا وهو استفعال من التبصّر؛ وهو تبيّن الأمر وانكشافه وتجلّيه للبصيرة. وكلٌّ من التذكّر والتفكّر له فائدة غير فائدة الآخر؛ فالتذكّر يفيد تكرار القلب على ما علمه وعرفه ليرسخ فيه وليثبت ولا ينمحي فيذهب أثره من القلب جملةً،والتفكّر يفيد تكثير العلم واستجلاب ما ليس حاصلاً عند القلب.

فالتفكّر يحصِّله والتذكّر يحفظه. ولهذا قال الحسن: «ما زال أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكّر، وبالتفكّر على التذكّر ويناطقون القلوب حتى نطقت بالحكمة»، فالتفكّر والتذكّر بذار العلم، وسقيه مطارحته، ومذاكرته تلقيحه. كما قال بعض السّلف: «ملاقاة الرجال تلقيح لألبابها». فالمذاكرة بها لقاح العقل؛ فالخير والسعادة في خزانة مفتاحها التفكّر؛ فإنه لا بدّ من تفكّر، وعلم يكون نتيجته الفكر، وحال يحدث للقلب من ذلك العلم؛ فإن كلّ مَن علم شيئًا من المحبوب أو المكروه لا بدّ أن يبقى لقلبه حالة وينصبغ بصبغة من علمه، وتلك الحال تُوجِب له إرادة، وتلك الإرادة تُوجِب وقوع العمل، فهاهنا خمسة أمور:

الفكر وثمرته العلم، وثمرتهما الحالة التي تحدث للقلب، وثمرة ذلك الإرادة، وثمرتها العمل. فالفكر إذن هو المبدأ والمِفتاح للخيرات كلها، وهذا يكشف لك عن فضل التفكّر وشرفه وأنه من أفضل أعمال القلب وأنفعها له حتى قيل: تفكُّر ساعة خير من عبادة سنة، فالفكر هو الذي ينقل من موت الفطنة إلى حياة اليقظة، ومن المكاره إلى المحابّ، ومن الرغبة والحرص إلى الزهد والقناعة، ومن سجن الدنيا إلى فضاء الآخرة،ومن ضيق الجهل إلى سعة العلم ورحبه، ومن مرض الشهوة والإخلاد إلى هذه الدار إلى شفاء الإنابة إلى الله والتجافي عن دار الغرور، ومن مصيبة العمى والصّمَم والبكْم إلى نعمة البصر والسمع والفهم عن الله والعقل عنه، ومن أمراض الشُّبُهات إلى برد اليقين وثلج الصدور. وبالجملة فأصل كل طاعة إنما هي الفكر، وكذلك أصل كل معصية إنما يحدث من جانب الفكر»(3) ا.هـ.

الاشتقاق اللغوي للتفكر:

ذكر صاحب اللسان في مادة (فكر) قوله: «الفَكر والفِكر: إعمال الخاطر في الشيء ... والفكرة: كالفكر، وقد فكر في الشيء وأفكر فيه وتفكر بمعنى. ورجل فكيِّر. أي: فسيق. وفكير: كثير الفكر. وقال الجوهري: التفكر: التأمل. والاسم: الفكر والفكرة. والمصدر الفَكر بالفتح»(4) ا.هـ.

وقال في مفردات القرآن: «الفكرة: قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم. والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل، وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب. ولهذا روي «تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله؛ إذ كان الله منزهًا أن يوصف بصورة»(5) قال الله _عز وجل_: ((أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ)) (الروم:8).

ورجل فكيِّر: كثير الفكرة، قال بعض الأدباء: مقلوب عن الفرك لكن يستعمل الفكر في المعاني؛ وهو فرك الأمور وبحثها طلبًا للوصول إلى حقيقتها)(6).

 

_________________

(1) «الفوائد»: (ص 344-345).

(2) المصدر السابق: (ص 306-310) باختصار.

(3) «مفتاح دار السعادة»: (188، 189).

(4) «لسان العرب»: (5/3451).

(5) انظر تخريجه: ص 31.

(6) «المفردات في غريب القرآن» للراغب الأصفهاني: (ص 384).

 

 

 

 

 

 

المقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فلقد أنعم الله _عز وجل_ على بني آدم بنعم عظيمة سخرها لهم ليعرفوه بها _سبحانه_، فيعبدوه ويوحدوه، ويقوموا بمهمة الخلافة في هذه الأرض، ويحققوا الغاية التي من أجلها خلقهم الله عز وجل. وإن من أعظم هذه النعم نعمة العقل والتفكير التي هي خاصية من خصائص الإنسان التي يتميز بها عن سائر الجمادات والعجماوات.

وقد جاء التنويه بهذه النعمة العظيمة التي يعرف بها الحق من الباطل، والنافع من الضار في أكثر من آية في كتاب الله _عز وجل_ كما في قوله _تعالى_: ((وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) (النحل:78)، وقوله _سبحانه_: ((قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ)) (الملك:23).

ونبَّه سبحانه في مواضع كثيرة من القرآن الكريم إلى أن آياته سبحانه المتلوة، والمشاهدة، وآياته في آلائه ونعمه لا ينتفع بها إلا أولو العقول والألباب والتفكير الصحيح؛ من ذلك قوله تعالى: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)) [النحل: 12]، [الروم: 24]، [الرعد: 4]، وقوله _سبحانه_: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) [الروم: 21]، [الزمر: 42]، [الجاثية: 13]، [الرعد: 3]، وقوله تعالى وهو يحض على التفكير في الفرق بين الهدى والضلال: ((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ)) (الأنعام: من الآية50)، وقوله _تعالى_: ((قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ)) (سبأ: من الآية46).

وقد شنَّع الله _عز وجل_ على أولئك الذين عطَّلوا عقولهم وبصائرهم وأفكارهم؛ فلم يستدلوا بها على خالقهم ورازقهم سبحانه، ولم ينتفعوا بما يشاهدونـه من آيـات الله سبحانـه في الآفـاق وفي الأنفس، ولم يتدبروا آياته المتلوة وما فيها من النور والهدى والشفاء.

قال الله _عز وجل_ عن هؤلاء المعطِّلين لعقولهم: ((وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)) (الأعراف:179)، وقال _عز وجل_: ((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)) (الحج:46)، وقال _تعالى_: ((أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ)) (الأعراف: من الآية184)، وقال _تعالى_ في الحث على إعمال العقل في تدبر القرآن: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)) (محمد:24)، وقال _عز وجل_: ((أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ)) (المؤمنون:68).

وفي ضوء الآيات السابقة يتبين لنا أن الله _عز وجل_ يدعو عباده إلى التعرف عليه وعلى أسمائه وصفاته وآثارها عن طريقين:

أحدهما: بالنظر في آيات الله المشاهدة في الآفاق والنفس وما فيها من العظمة والحكمة والرحمة والإتقان، والتي تدل على خالقها _سبحانه_ وعلى أسمائه وصفاته.

الثانـي: بالنظر في آياتـه المتلوة في كتابـه العزيز كما في قوله _تعالى_: ((كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)) (صّ:29)، وقوله _تعالى_: ((وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)) (النحل: من الآية44).

وهذان الطريقان من النظر والتفكير يؤديان إلى إدراك عظمة الخالق عز وجل، وحكمته ورحمته وسعة علمه وقدرته وقوته وعزته وسائر صفاته العليا وأسمائه الحسنى، وهذا بدوره يؤدي إلى إفراده سبحانه بالمحبة والتعظيم والـذل والخضوع والعبـادة، وإلى اليقيـن بـأن هـذا الكـون قائـم على الحـق وبالحـق، وأن الخلـق سيرجعون إلى ربهم سبحانه في يوم لا ريب فيه، فيستعدوا لذلك ويعملوا الفكر في الدنيا والآخرة وحقيقة كل منهما. قال تعالى: ((كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)) (البقرة: 219، 220).

وإن المتأمل في أحوالنـا اليـوم وأحوال الناس بعامـة - لا أقول الكفار منهم بل الكثير من المسلمين - يرى البعد الشديد عن التفكير الصحيح النافع الذي يقود صاحبه إلى الخير في الدنيا والآخرة، وإنما نجد أن جل التفكير وقوته وكثافته قد وجه في ما لا ينفع في الآخرة؛ بل فيما يضر صاحبه هنالك من التفكير في شهوات محرمة أو في خواطر وشبهات وأماني باطلة ورديئة.

والموفق من وفقه الله عز وجل فصرف فكره وهمه في معرفة ربه سبحانه، وذكره وشكره وعبادته، والاستعداد للقائه في الدار الآخرة، ولا يعني ذلك ترك التفكير في الدنيا وما فيها من المعاش والتمتع بما فيها من الطيبات، وإنما المقصود أن لا تكون هي الهم الشاغل الذي ينسي صاحبه الآخرة والاستعداد لها، أو تنسيه ربه سبحانه والتعبد له بأسمائه وصفاته. ثم إن استحضار النية في طلب الدنيا، والاستعانة بها على عبادة الله عز وجل يُصيِّر ذلك الطلب عبادة، ويكون التفكير فيها حينئذٍ ممدوحًا ونافعًا.

وإضافة إلى ما سبق بيانه من أهمية التفكر والتبصر أذكر فيما يلي بعض الدوافع التي دفعتني إلى الكتابة في هذا الموضوع المهم ومن ذلك:

أولاً: ندرة التفكير أو ضعفه عند كثير منا؛ وذلك فيما ينفع العبد في آخرته، وبخاصة بعد هذا الانفتاح الشديد على الدنيا مما أدى بكثير من الناس إلى أن تكون الدنيا هي الهم الشاغل، ومحل التفكير الدائم حتى أصبح الكثير في دوامة من التفكير فيها: شغلٌ في النهار وهَمٌّ في الليل، ولم يعد هناك مجال للتفكير النافع، فتشوَّشَت العبادات، وقلَّ التفكير والاهتمام بالآخرة، ونسي الكثير منا نفسه ومحاسبتها وتذكيرها بما خلقت له وإلى أين مصيرها؛ فلعل في هذه الدراسة ترشيدًا لتفكيرنا واهتماماتنا بما ينفعها في الدنيا والآخرة.

ثانيًا: تبلد التفكير والإحساس تجاه آيات الله عز وجل في الآفاق وفي الأنفس، وفي آيات الله المتلوة؛ حيث قل المتفكرون منا في هذه الآيات العظيمة التي تدل على عظمة خالقها سبحانه، وقل المتدبرون منا في آيات الله المتلوة وما فيها من الإعجاز والمصالح والوعظ والإصلاح والوعد والوعيد؛ فلعل في مثل هذه الدراسة تنبيهًا للنفوس إلى ضرورة التفكر في ملكوت الله عز وجل، والتدبر لآياته؛ لأن ذلك يزيد في الإيمان واليقين ويثمر في القلب محبة الله عز وجل ومعرفته بأسمائه وصفاته وإجلاله وتعظيمه، والإخلاص له والخوف منه والتوكل عليه وحده(1) مما من شأنه القيام بالعبادة الحقة لله عز وجل بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والرضا بأحكامه الدينية والقدرية، والاستعداد ليوم العرض الأكبر على الله تعالى.

ثالثًا: جنوح بعض الناس في تفكيرهم إلى ما وراء حدود العقل، واقتحامهم لأمور لم يعط العقل القدرة على إدراكها والتفكير فيها؛ مما نشأ عنه الحيرة والشكوك، والقول على الله تعالى بلا علم.

ومما هو معلوم ومسلم به عند أهل العلم والعقول السليمة أن للعقل مجالاً رحبًا يسمح له بالتفكير فيه، وإعمال الفهم والاستنباط، ومجالاً آخر يحظر على العقل اقتحامه والتفكير فيه؛ لعدم قدرته على ذلك، وعدم حاجته إليه، وهذا الجنوح والشطح في التفكير إنما نشأ من الغلو في العقل والغرور به، وممن جنح بالعقل عن وظيفته وغلا فيه من يُسَمَّون بأصحاب المدرسة العقلية، الذين جعلوا العقل ندًا للنقل بل مقدماً عليه، فإذا تعارض العقل والنقل عندهم - مع أنهما لا يتعارضان - قدموا العقل، وردوا النقل، أو أوَّلوه، فلعل في هذه الدراسة بيانًا لحدود العقل والتفكير السليم.

رابعًا: ما طرأ على بعض الناس من خلل في التفكير والتصور والنظرات؛ مما كان له دور في بعض المواقف والممارسات والمعالجات الخاطئة، وقد تسبب هذا في بروز بعض المواقف المتناقضة والمضطربة وعدم الثبات على حال واحدة، ومجانبة الوسطية في الأمور؛ إما إلى الإفراط أو التفريط، ولو أن الخلل في التفكير اقتصر على الأفراد لكان الأمر أهون، ولكنه تعدَّى إلى أن يكون في بعض المناهج والمواقف الجماعية، مما تسبب في إحداث الفرقة والاختلاف والمفاسد بين المسلمين.

خامسًا: تعطيل بعض الناس تفكيره، وإسلام عقله وتفكيره لعقل غيره وتفكيره؛ فلا يرى إلا بعين غيره ولا يفكر إلا بتفكير غيره. وهذا هو التقليد الذميم الذي لا ينشأ عنه إلا التعصب والتفرق والتحزب. ومنشأ هذا ضعف همة وتفكير من هذا شأنه، وغلوه في حب من يقلده، واتباعه في كل أفكاره ونظراته ومواقفه. كما أن التربية التي تربَّى عليها أمثال هؤلاء تكرس عندهم مثل هذا التفكير؛ لأنه لم يتربَّ على معرفة الحق بدليله، وإنما تربَّى على التقليد وتقديس الرجال والتعصب لهم.

سادسًا: ما خرج علينا في الآونة الأخيرة مما يسمى بالإبداع الفكري، والبرمجة العصبية مع ما تحمل من مخالفات وبُعدٍ عن المنهج الشرعي؛ لأن مصدرها من الشرق أو الغرب الكافرين الذين لا ينضبطون بدين ولا شرع، ومع ذلك تلقفها بعض أبناء المسلمين بالانبهار والقبول وشغلوا أوقاتهم وأذهانهم بها، كما فتن بعض أهل البدع بكتب الفلسفة والمنطق اليوناني في الخلافة العباسية، وبخاصة في عهد المأمون الذي ترجمت فيه هذه الكتب فصرفت الناس عن الكتاب والسنة وإتباع الأثر.

وبعد هذه المقدمة عن الموضوع وأهميته فإنه يمكن تقسيم الرسالة إلى تمهيد، وثلاثة أبواب وخاتمة.

الباب الأول: ذكر بعض ما ورد في الكتاب والسنة وأقوال السلف في فضل التفكر والحث عليه.

الباب الثاني: أقسام التفكر ومجاريه ومجالاته:

وتحته فصول:

الفصل الأول : التفكر في آيات الله عز وجل المتلوة وتدبرها.

الفصل الثاني: التفكر في آيات الله عز وجل في الآفاق.

الفصل الثالث: التفكر في آيات الله عز وجل في الأنفس.

الفصل الرابع: التفكر في آلاء الله عز وجل ونعمه المتواصلة الظاهرة والباطنة.

الفصل الخامس: التفكر في سير الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - مع أقوامهم وعاقبة الفريقين.

الفصل السادس: التفكر في النفس ومحاسبتها فيما قدمت وأخرَّت.

الفصل السابع: التفكر في الدنيا والآخرة والأمثال التي ضربت لهما.

الفصل الثامن : التفكر في آيات الله عز وجل الخارقة.

الباب الثالث : الخلل في التفكير مظاهره وأسبابه وعلاجه.

الخاتمة.

 

__________________

(1) وغير ذلك من مقامات العبودية وأعمال القلوب.


 

الباب الأول

في ذكر بعض ما ورد في الكتاب والسنة

وآثار السلف في فضل التفكر والحث عليه

أولاً: ذكر بعض ما ورد في كتاب الله عز وجل من ذلك(1):

يمكن تقسيم ما ورد في القرآن الكريم من الحث على التفكر وإعمال العقل والتدبر والتبصر في آيات الله عز وجل إلى المجموعات التالية:

المجموعة الأولى: بعض ما ورد في القرآن من الحث على التفكر والتدبر لآيات الله المتلوة، ومن ذلك:

قوله تعالى: ((كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)) (صّ:29).

وقوله تعالى: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)) (محمد:24).

وقوله تعالى: ((لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)) (الحشر:21).

وقوله تعالى: ((أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ)) (المؤمنون:68).

وقوله تعالى: ((وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)) (النحل: من الآية44).

وقوله تعالى: ((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)) (القمر:17).

وقوله تعالى: ((فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)) (الدخان:58).

وقوله تعالى: ((وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً)) (الفرقان:73).

وقوله تعالى: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)) (النساء:82).

وقوله تعالى: ((وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ)) (الحاقة:48).

وقوله تعالى: ((لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (الأنبياء:10).

المجموعة الثانية: بعض ما ورد في الحث على التفكر في آيات الله عز وجل في الآفاق؛ ومن ذلك:

قوله تعالى: ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) ) (آل عمران:190، 191).

وقوله تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) (الرعد:3).

وقوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) (النحل:10، 11).

وقوله تعالى: ((وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) (النحل:68، 69).

وقوله تعالى: ((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا... الآية))(الحج: من الآية46).

وقوله تعالى: ((وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)) (الروم:24).

وقوله تعالى: ((وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)) (الجاثية:5).

وقوله تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)) (المؤمنون:80).

وقوله تعالى: ((وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)) (النحل:12).

وقوله تعالى: ((أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ)) (السجدة:27).

وقوله تعالى: ((وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)) (النحل:66، 67).

وقوله تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ) (الذريات:20).

المجموعة الثالثة: بعض ما ورد في القرآن الكريم من الحث على التفكر والتبصر في الإنسان وخلقه؛ ومن ذلك:

قوله تعالى: ((أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ)) (الروم:8).

وقوله تعالى: ((وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)) (الروم:20-23)].

وقوله تعالى: ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) (فصلت:53).

وقوله تعالى: ((وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)) (الذريات:21).

وقوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمّىً وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)) (غافر:67).

وقوله تعالى: (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ) (يّـس:68).

وقوله تعالى: (أَوَلا يَذْكُرُ الْإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) (مريم:67).

وقوله تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ) (الطارق:5، 6).

المجموعة الرابعة: بعض ما ورد في القرآن الكريم من الحث على التفكر والتبصر في آلاء الله ونعمه؛ ومن ذلك:

قوله تعالى: ((اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) (الجاثـية:12، 13).

وقوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)) (النحل:10-13).

وقوله تعالى: ((وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ)) (النحل:81).

وقوله تعالى: ((وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)) (إبراهيم:33، 34).

وقوله تعالى: ((أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)) (النحل:17، 18).

وقوله تعالى: ((أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ)) (لقمان:20).

وقوله تعالى: ((وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ)) (البقرة: من الآية231).

وقوله تعالى: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) (القصص:71-73).

وقوله تعالى: ((أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ)) (السجدة:27).

وقوله تعالى: ((لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ)) (الزخرف:13).

المجموعة الخامسة: بعض ما ورد في القرآن الكريم من الحث على التفكر في سير الأنبياء مع أقوامهم؛ ومن ذلك:

قوله تعالى: ((لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) (يوسف:111).

وقوله تعالى: ((وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)) (الصافات:137، 138).

وقوله تعالى: ((وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)) (العنكبوت:35).

وقوله تعالى: ((وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)) (القمر:15).

وقوله تعالى: ((فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)) (الأعراف: من الآية176).

وقوله تعالى: ((وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)) (القمر:51).

وقوله تعالى: ((وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ))(إبراهيم: من الآية5).

وقوله تعالى: ((مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ)) (هود:24).

وقوله تعالى: ((وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ)) (الشعراء:208، 209).

وقوله تعالى: ((إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)) (الحاقة:11، 12).

وقوله تعالى: ((وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)) (هود:120).

وقوله تعالى: ((قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)) (الأنعام:11).

وقوله تعالى عن إجلاء بني النضير: ((فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)) (الحشر: من الآية2).

المجموعة السادسة: بعض ما ورد في القرآن الكريم من الحث على التفكر في النفس ومحاسبتها ومدى قبولها للحق والنظر فيما قدمت وأخرت من الخير والشر؛ ومن ذلك:

قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)) (الحشر:18).

وقوله تعالى: ((قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)) (سـبأ:46).

وقوله تعالى: ((أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)) (فاطر: من الآية37).

وقوله تعالى: ((وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)) (البقرة:281).

وقوله تعالى: ((يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً)) (النبأ: من الآية40).

وقوله تعالى: ((أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)) (الأعراف:185).

وقوله تعالى: ((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ)) (الأنعام: من الآية50).

وقوله تعالى: ((أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)) (البقرة:44).

المجموعة السابعة: بعض ما ورد في القرآن الكريم في الحث على التفكر في الدنيا والآخرة وحقيقة كل منهما؛ ومن ذلك:

قوله تعالى: ((كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)) (البقرة: 219، 220).

وقوله تعالى: ((وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)) (الأعراف: من الآية169).

وقوله تعالى: ((وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)) (الأنعام:32).

وقوله تعالى: ((وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ)) (القصص: من الآية60).

وقوله تعالى: ((إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) (يونس:24).

وقوله تعالى: ((أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)) (الزمر:9).

المجموعة الثامنة: بعض ما ورد في القرآن الكريم من الحث على التفكر في آيات الله عز وجل الخارقة؛ ومن ذلك:

قوله تعالى: ((وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)) (البقرة:72، 73).

وقوله تعالى: ((وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)) (البقرة:65، 66).

وقوله تعالى: ((فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)) (الشعراء:63-68).

وقد ختمت بالآيتين الأخيرتين قصة كل نبي في سورة الشعراء؛ وذلك بعد ذكر إنجاء المؤمنين وأخذ المكذبين بالعذاب الشديد الذي هو خارقة وآية للمعتبرين.

وقوله تعالى: ((وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)) (الأعراف:143).

وقوله تعالى: ((وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)) (آل عمران:49).

وقوله تعالى: ((فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ)) (العنكبوت:15).

وقوله تعالى: ((فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) (العنكبوت:24).

ثانياً : ذكر بعض ما ورد في السنة من فضل التفكر والحث عليه :

لم أجد في المراجع المتاحة لي من كتب الحديث نصوصًا كثيرة تنص على الأمر بالتفكر، ولذا سأذكر ما وقفت عليه من ذلك وما في معنى التفكر كالتبصر والتذكر والتعقل والتدبر.

الحديث الأول: عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تفكَّروا في آلاء الله ولا تفكَّروا في الله عز وجل"(2).

الحديث الثاني: عن عطاء، قال: دخلت أنا وعُبيدُ بن عُمير على عائشة، فقالت لعُبيد بن عُمير: قد آن لك أن تزورنا، فقال: أقول يا أُمَّه كما قال الأول: زُر غِبًا تَزْدَدْ حُبًا. قال: فقلت: دعونا من رطانتكم هذه. قال ابنُ عمير: أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فسكتت ثم قالت: لما كان ليلةٌ من الليالي قال: «يا عائشة ذريني أتَعَبَّد اللَّيْلَةَ لِرَبِّي». قُلت: والله إني لأحب قُرْبَكَ، وأحب ما سرك. قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي. قالت: فلم يزل يبكي حتى بل حجْرَهُ، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيتهُ، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، فجاءَ بلالٌ يؤذنُهُ بالصلاة، فلما رآهُ يبكي، قال: يا رسول الله، لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبداً شكورًا؟! لقد نزلت عليَّ الليلة آيَةٌ، وَيْلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (آل عمران:190)»(3).

الحديث الثالث: عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور فقد أُذِنَ لمحمد في زيارة قبر أمه فزوروها فإنها تذكركم الآخرة»(4).

الحديث الرابع: عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله»(5).

الحديث الخامس: حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ وذكر منهم: «ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه»(6).

الحديث السادس: صلاته صلى الله عليه وسلم في الليل «وأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ مترسلاً؛ إذا مر بآية فيها تسبيح سبَّح، وإذا مر بآية فيها سؤال سأل، وإذا مر بتعوُّذ تعوذ»(7).

ثالثاً: الآثار الواردة في ذلك :

وأما الآثار الواردة عن السلف في فضل التفكر والحث عليه فكثيرة أذكر منها ما أورده الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى - في تفسيره عند قوله تعالى: (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (آل عمران: من الآية191).

حيث قال - رحمه الله تعالى -: «وعن الحسن البصري أنه قال: تَفكُّر ساعة خير من قيام ليلة(8).

وقال الفضيل: قال الحسن: الفكرة مرآة تريك حَسَناتك وسيئاتك(8).

وقال سفيان بن عيينة: الفكرة نور يدخل قلبك، وربما تمثل بهذا البيت:

إذا المرء كانت له فكـرةٌ                ففي كل شيء له عبرَةٌ(8)

وعن عيسى عليه السلام أنه قال: طوبى لمن كان قيلهُ تذكرًا، وصَمْته تفكرًا، ونظره عبرًا»(8).

وعن لقمان الحكيم: إن طول الوحدة ألهَمُ للفكرة، وطولَ الفكرة دليل على طَرْق باب الجنة(9).

وقال وهب بن مُنبَه: ما طالت فكرة امرئ قَط إلا فهم، وما فهم امرؤ قط إلا علم، وما علم امرؤ قط إلا عمل(9).

وقال عمر بن عبدالعزيز: الكلام بذكر الله عز وجل، حَسَن، والفكرة في نعم الله أفضل العبادة(9).

وقال مغيث الأسود: زوروا القبور كل يوم تفكركم، وشاهدوا الموقف بقلوبكم، وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة أو النار، وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكرَ النار ومقامعَها وأطباقها(9).

وعن ابن عمر رضي الله عنه: أنه كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه، يأتي الخَرِبة فيقف على بابها، فينادي بصوت حزين فيقول: أين أهلك؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (القصص: من الآية88)(9).

وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ركعتان مقتصدتان في تفكُّر، خير من قيام ليلة والقلب ساه(9).

وقال الحسن: يا ابن آدم، كل في ثلث بطنك، واشرب في ثلثه، ودع ثلثه الآخر تتنفس للفكرة(9).

وقال بعض الحكماء: من نظر إلى الدنيا بغير العبرة انطمس من بَصَرِ قلبه بقدر تلك الغفلة(9).

وقال بشر بن الحارث الحافي: لو تفكَّر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه(10).

وقال الحسن، عن عامر بن عبد قيس قال: سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: إن ضياء الإيمان، أو نور الإيمان، التفكر(10).

وعن عيسى عليه السلام أنه قال: يا ابن آدم الضعيف، اتق الله حيث ما كنت، وكن في الدنيا ضيفًا، واتخذ المساجد بيتًا، وعلِّم عينيك البكاء، وجسدك الصبر، وقلبك الفكر، ولا تهتم برزق غد(10).

وعن أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه أنه بكى يومًا بين أصحابه، فسُئل عن ذلك، فقال: فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها، فاعتبرت منها بها. ما تكاد شهواتنا تَنْقَضي حتى تكدرها مرارتُها، ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إن فيها مواعظ لمن ادْكر(10).

وقال ابن أبي الدنيا: أنشدني الحُسَين بن عبدالرحمن:

نُزْهَـة المؤمن الفِكَـرْ                      لَـذّة المؤْمــن العِبَــرْ

نحمـدُ الله وَحْــدَه                    نَحْــنُ كلٌّ عَلَـى خَطـرْ

رُبّ لاهٍ وعُـمْــرُه                      قد تَقَضّـــَى وما شَعَـرْ

رُبّ عيش قَدْ كانَ فو                      ق المُنَى مُونـــق الزّهَرْ

في خَريـر من العُيــو                   ن    وَظـل مـن الشَّجَـرْ

وسُـــرُور مــن النبـا                  ت  وَطيَّب منَ الثَمَــرْ

غَيَّـرَتْـــــه وَأَهْلَــهُ                   سرعةُ الدّهْــر بالغَيـر

نَحْمَــــدُ الله وحـده إنَّ                   فـــي ذا لمعتبـــر

إنّ فــــي ذَا لعبـــرةً                   للبيــب إن اعْتَبَـــرْ(11)

وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: (بينما رجل ممن كان قبلكم كان في مملكته فتفكر فعلم أن ذلك منقطع عنه، وأن ما هو فيه قد شغله عن عبادة ربه ... الأثر)(12).

وعن عباد بن عباد الخواص الشامي قال: «أما بعد: اعقلوا والعقل نعمة فرب ذي عقل قد انشغل قلبه بالتعمق فيما هو عليه ضرر عن الانتفاع بما يحتاج إليه حتى صار عن ذلك ساهيًا»(13).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بينما رجل مستلق ينظر إلى السماء وإلى النجوم فقال: والله إني لأعلم أن لك خالقًا وربًا اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له)(14).

وسأل رجل أم الدرداء بعد موت أبي الدرداء عن عبادته فقالت: كان نهاره أجمعه في بادية التفكر(15).

وكان سفيان كثيرًا ما يتمثل:

إذا المرء كانت له فكرة                 ففي كل شيء له عبرة(15)

وقال بعض العارفين: لو طالَعَتْ قلوبُ المتقين بفكرها إلى ما قدر في حجب الغيب من خير الآخرة لم يصف لهم في الدنيا عيش، ولم تقر لهم فيها عين(16).

وقال الحسن: طول الوحدة أتم للفكرة، وطول الفكرة دليل على طريق الجنة(16).

وعن ابن خبيق قال: «قال لي يوسف بن أسباط: قال الثوري وأنا وهو في المسجد: يا يوسف، ناولني المطهرة أتوضأ؛ فناولته، فأخذها بيمينه، ووضع يساره على خده، ونمت؛ فاستيقظت وقد طلع الفجر، فنظرت إليه فإذا المطهرة في يده على حالها؛ فقلت: يا أبا عبدالله، قد طلع الفجر. قال: لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الآخرة إلى هذه الساعة»(17).

وعن عبد الأعلى بن زياد الأسلمي قال: «رأيت داود الطائي يومًا قائمًا على شاطئ الفرات مبهوتًا؛ فقلت: يا أبا سليمان، ما يوقفك هنا؟ قال: انظر إلى الفلك، كيف تجري في البحر مسخرات بأمر الله تعالى؟»(18).

وعن أبي عصام بن يزيد قال: «ربما كان يأخذ سفيان في التفكر، فينظر إليه الناظر، فيقول: مجنون»(19).

وعن كعب قال: «من أراد أن يبلغ شرف الآخرة فليكثر التفكر يكن عالمًا، وليرض بقوت يومه يكن غنيًا، وليكثر البكاء عند ذكر خطاياه يطفئ الله عنه بحور جهنم»(20).

ومر الربيع بن أبي راشد برجل به زمانة، فجلس يحمد الله ويبكي، فمر به رجل فقال: ما يبكيك رحمك الله؟ قال: ذكرت أهل الجنة وأهل النار، فشبهت أهل الجنة بأهل العافية، وأهل النار بأهل البلاء؛ فذلك الذي أبكاني»(21).

وعن أبي سليمان الداراني قال: «عوِّدوا أعينكم البكاء، وقلوبكم التفكر»(22).

وعن سلام قال: «أُتي الحسن بكوز من ماء ليفطر عليه، فلما أدناه إلى فيه بكى؛ وقال: ذكرت أمنية أهل النار؛ قولهم: (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ) (الأعراف: من الآية50)، وذكرت ما أجيبوا: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) (الأعراف: من الآية50)»(23).

وقال عبدالله بن المبارك لبعض أصحابه وقد رآه مفكراً: «أين بلغت؟ قال: الصراط»(24).

وقال بشر: «لو فكر الناس في عظمة الله ما عصوه»(25).

وقال الحسن: «إن أهل العلم لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر، والفكر على الذكر ويناطقون القلوب حتى نطقت بالحكمة»(26).

ومن كلام الشافعي: «استعينوا على الكلام بالصمت وعلى الاستنباط بالفكرة»(27).

ويعلق الإمام ابن القيم على ذلك بقوله: «لأن الفكرة عمل القلب، والعبادة عمل الجوارح. والقلب أشرف من الجوارح، فكان عمله أشرف من عمل الجوارح. وأيضًا فالتفكر يوقِع صاحبه من الإيمان على ما لا يوقعه عليه العمل المجرّد؛ فإن التفكّر يوجب له من انكشاف حقائق الأمور وظهورها له، وتميّز مراتبها في الخير والشرّ ومعرفة مفضولها من فاضلها وأقبحها من قبيحها، ومعرفة أسبابها الموصلة إليها، وما يقاوم تلك الأسباب ويدفع موجبها، والتمييز بين ما ينبغي السعي في تحصيله وبين ما ينبغي السعي في دفع أسبابه، والفرق بين الوهم والخيال المانع لأكثر النفوس من انتهاز الفرص بعد إمكانها وبين السبب المانع حقيقة؛ فيشتغل به دون الأول؛ فما قطع العبد عن كماله وفلاحه وسعادته العاجلة والآجلة قاطع أعظم من الوهم الغالب على النفس والخيال الذي هو مركبها، بل بحرها الذي لا تنفك سابحة فيه. وإنما يقطع هذا العارض بفكرة صحيحة وعزم صادق يميّز به بين الوهم والحقيقة. وكذلك إذا فكر في عواقب الأمور، وتجاوز فكره مبادئها وضعها مواضعها وعلم مراتبها، فإذا ورد عليه وارد الذنب والشهوة، فتجاوز فكره لذّة وفرح النفس به إلى سوء عاقبته، وما يترتب عليه من الألم والحزن الذي لا يقاوم تلك اللذّة والفرحة، ومن فكر في ذلك فإنه لا يكاد يُقدِم عليه. وكذلك إذا ورد على قلبه وارد الراحة والدّعة والكسل والتقاعد عن مشقّة الطاعات وتعبها حتى عبر بفكره إلى ما يتربّ عليها من اللذّات والخيرات، والأفراح التي تغمر تلك الآلام في مبادئها بالنسبة إلى كمال عواقبها، وكلما غاص فكره في ذلك اشتد طلبه لها وسهل عليه معاناتها واستقبلها بنشاط وقوة وعزيمة. وكذلك إذا فكر في منتهى ما يستعبده من المال والجاه والصور، ونظر إلى غاية ذلك بعين فكره استحيا من عقله ونفسه أن يكون عبدًا كذلك ...»(28).

وقال الغزالي - رحمه الله تعالى -: «كثر الحَثُّ في كتاب الله تعالى على التدبُّر والاعتبار والنظر والافتكار، ولا يخفى أن الفكر هو مفتاح الأنوار ومبدأ الاستبصار، وهو شبكة العلوم ومصيدة المعارف والفهوم، وأكثر الناس قد عرفوا فضله ورُتْبَتَه لكن جهلوا حقيقته وثمرته ومصدرهُ»(29).

وعن وهب بن منبه قال: «المؤمن مفكر مذكر فمن ذكر تفكر فَعَلَتْه السكينة وقنع فلم يهتم ورفض الشهوات فصار حرًا، وألقى الحسد فظهرت له المحبـة، وزهـد في كـل فـان فاستكمل العقل، ورغب في كل شيء باقٍ فعقل المعرفة»(30).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «من تدبر القرآن طالبًا للهدى منه تبين له طريق الحق»(31).


هوامش:-

(1) تعود الكثير منا أثناء قراءته لبحث ما فيه كثير من النصوص القرآنية أن يتجاوز
قراءة الآيات القرآنية، ويقفزها إلى ما بعدها من كلام البشر. وهذا خلل كبير في
القراءة التي يرجى فائدتها؛ لأن المتعين الوقوف مع كلام الله تعالى والذي هو أحسن
الكلام وأصدقه وأبلغه. وسيجد القارئ لهذا البحث حشدًا كبيرًا من الآيات القرآنية
أنصح نفسي وإخواني القراء أن نقف عندها ونتدبرها ونعطيها حقها من الوقوف
والتفكر أكثر مما نعطيه لكلام البشر.

(2) رواه الطبراني في الأوسط: (6456)، والبيهقي في الشعب: (1/75)، وحسنه
الألباني بشواهده في السلسلة الصحيحة: (4/395) رقم (1788).

(3) الإحسان في تقريب ابـن حبـان: (2/387)، وقـال المحقق: إسنـاده قـوي على شرط مسلم.

(4) مسلم في الجنائز: (977)، والترمذي: (1054)، واللفظ للترمذي.

(5) الترمذي في أبواب صفة القيامة باب (14) وقال حديث حسن، ومعنى (دان نفسه) أي:
حاسبها وأذلها وقهرها حتى صارت مطيعة منقادة. انظر تحفة الأحوذي: (7/132).
وقد ذهب الألباني رحمه الله تعالى إلى تضعيفه. انظر ضعيف الترمذي، الحديث رقم: (436).

(6) البخاري: (1423)، ومسلم: (1031).

(7) مسلم: (772).

(8) تفسير ابن كثير عند الآية (191) من سورة آل عمران.

(9) المصدر السابق.

(10) انظر تفسير ابن كثير عند الآية (191) من سورة آل عمران.

(11) المصدر السابق.

(12) المسند: (1/451) وصححه أحمد شاكر. وسيأتي بتمامه (ص 319).

(13) سنن الدارمي، المقدمة: (ص 105)، دار الكتب العلمية.

(14) الدر المنثور: (1/196) وعزاه إلى الديلمي وأبي الشيخ.

(15) مفتاح دار السعادة: (1/185، 186).

(16) المصدر السابق.

(17) «حلية الأولياء»: (7/53).

(18) «حلية الأولياء»: (7/356).

(19) «حلية الأولياء»: (6/392).

(20) «حلية الأولياء»: (5/376)، (6/14).

(21) «حلية الأولياء»: (5/78).

(22) «حلية الأولياء»: (9/274).

(23) «حلية الأولياء»: (6/189).

(24) «مفتاح دار السعـادة»: (1/186، 187).

(25) المرجع السابق.

(26) «مفتاح دار السعادة»: (1/186، 187).

(27) المرجع السابق.

(28) «مفتاح دار السعادة»: (1/186، 187).

(29) «الإحياء»: (4/423).

(30) «العقل وفضله» لابن أبي الدنيا: (ص 35).

(31) «مجموع الفتاوى»: 3/137.


 

البــاب الثاني

أقسام التفكر ومجاريه ومجالاته

إن أصل كل خيرٍ وشر مبدؤه الفكر والتفكير؛ فمن الناس من تفكيره في ما يضره في الدنيا والآخرة، ومنهم من يصرف تفكيره في ما ينفعه في الدنيا والآخرة. والفكر يثمر إرادة فعزيمة فعمل. ولما كان عمر الإنسان قصيراً، والموت يأتي بغتة، فلا جرم كان على العبد أن ينتهز دقائق عمره وساعاته فيما ينفعه في آخرته، وأن يحافظ على أفكاره من أن تذهب سدى لا ينتفع منها، فضلاً عن أن تكون فيما من شأنه ضرره وهلاكه.

وقد ذكر الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - مجاري الفكر وأصوله التي لا يخرج تفكير الإنسان عنها؛ يقول - رحمه الله تعالى - «فإن قيل: قد ذكرتم الفكر ومنفعته وعظم تأثيره في الخير والشرّ، فما متعلقه الذي ينبغي أن يوقع عليـه ويجري فيـه؟ فإنـه لا يتم المقصود منـه إلاّ بذكر متعلّقه الذي يقع الفكر فيه، وإلاّ ففكر بغير مُتفَكَّر فيه مُحال.

قيل: مجرى الفكر ومتعلقه أربعة أمور:

أحدها: غاية محبوبة مُرادة الحصول.

الثاني: طريق مُوصِلة إلى تلك الغاية.

الثالث: مضرة مطلوبة الإعدام مكروهة الحصول.

الرابع: الطريق المُفضي إليها المُوقع عليها.

فلا تتجاوز أفكار العقلاء هذه الأمور الأربعة. وأي فكر تخطّاها فهو من الأفكار الردِيّة والخيالات والأماني الباطلة؛ كما يتخيل الفقير المعدم نفسه من أغنى البشر، وهو يأخذ ويعطي وينعم ويحرم،وكما يتخيل العاجز نفسه من أقوى الملوك وهو يتصرّف في البلاد والرعيّة، ونظير ذلك من أفكار القلوب الباطولية التي من جنس أفكار السكران والمحشوش والضعيف العقل. فالأفكار الرديّة هي قوت الأنفس الخسيسة التي هي في غاية الدناءة؛ فإنها قد قنعت بالخيال ورضيت بالمُحال، ثم لا تزال هذه الأفكار تقوى بها وتتزايد حتى توجب لها آثارًا ردّية ووساوس وأمراضًا بطيئة الزوال.

وإذا كان الفكر النافع لا يخرج عن الأقسام الأربعة التي ذكرناها فله أيضاً محلاّن ومنزلان: أحدهما: هذه الدار، والآخر: دار القرار.

فأبناء الدنيا الذين ليس لهم في الآخرة من خلاق عمّروا بيوت أفكارهم بتلك الأقسام الأربعة في هذه الدار، فأثمرت فهم أفكارهم فيها ما أثمرت، ولكن إذا حقّت الحقائق، وبطلت الدنيا، وقامت الآخرة تبيّن الرابح من المغبون، وخسر هنالك المبطلون. وأبناء الآخرة الذين خلقوا لها عمّروا بيوت أفكارهم على تلك الأقسام الأربعة فيها.

ونحن نفصّل ذلك بعون الله وفضله فنقول: كل طالب لشيء فهو مُحبّ له مؤثر لقربه، ساعٍ في طريق تحصيله، متوصّل إليه بجهده، وهذا يُوجِب له تعلّق أفكاره بجمال محبوبه وكماله وصفاته التي يُحَبّ لأجلها وتعلّقها بما يناله به من الخير والفرح والسرور؛ ففكره في حال محبوبه دائر بين الجمال والإجمال والحسن والإحسان، فكلما قويت محبّته ازداد هذا الفكر وقوي وتضاعف حتى يستغرق أجزاء القلب، فلا يبقى فيه فضل لغيره بل يصير بين الناس بقالبه وقلبه كله في حضرة محبوبه، فإن كان هذا المحبوب هو المحبوب الحقّ الذي لا تنبغي المحبة إلا له، ولا يحبّ غيره إلاّ تبعًا لمحبته فهو أسعد المحبّين به، وقد وضع الحبّ موضعه وتهيأت نفسه لكمالها الذي خلقت له والذي لا كمال لها بدونه بوجه.

وإن كانت تلك المحبة لغيره من المحبوبات الباطلة المتلاشية التي تفنى وتبقى حزازات القلوب بها على حالها، فقد وضع المحبة في غير موضعها، وظلم نفسه أعظم ظلم وأقبحه وتهيّأت بذلك نفسه لغاية شقائها وألمها.

وإذا عُرِف هذا عُرِف أن تعلّق المحبّة بغير الإله الحق هو عين شقاء العبد وخسرانه؛ فأفكاره المتعلقة بها كلها باطلة، وهي مُضِرّة عليه في حياته وبعد موته. والمُحِبّ الذي قد ملك المحبوب أفكارَه قلبُه لا يخرج فكره عن تعلّقه بمحبوبه أو بنفسه. ثم فكره في محبوبه لا يخرج من حالتين: أحدهما: فكرته في جماله وأوصافه. والثانية: فكرته في أفعاله وإحسانه وبرّه ولطفه الدالة على كمال صفاته.

وإن تعلّق فكره بنفسه لم يخرج أيضًا عن حالتين: إما أن يفكر في أوصافه المسخوطة التي يبغضها محبوبه ويمقته عليها ويسقطه من عينه؛ فهو دائمًا يقع بفكره عليها ليتجنبها ويبعد منها.

والثانية: أن يفكّر في الصفات والأخلاق والأفعال التي تقرّبه منه وتحبّبه إليه حتى يتّصف بها؛ فالفكرتان الأولتان تُوجِب له زيادة محبته وقوتها وتضاعفها، والفكرتان الآخرتان توجب محبة محبوبه له وإقباله عليه وقربه منه وعطفه عليه، وإيثاره على غيره؛ فالمحبة التامّة مستلزمة لهذه الأفكار الأربعة.

فالفكرة الأولى والثانية تتعلق بعلم التوحيد، وصفات الإله المعبود سبحانه وأفعاله.

والثالثة والرابعة تتعلق بالطريق الموصلة إليه، وقواطعها وآفاتها، ومـا يمنع من السيـر فيها إليـه؛ فتفكره في صفـات نفسـه يميّـز لـه المحبوب لربّه منها من المكروه له، وهذه الفكرة توجب ثلاثة أمور:

أحدهـا: أن هـذا الوصف هل هو مكـروه مبغوض لله أم لا. الثانـي: هل العبـد متّصف به أم لا. والثالث: إذا كان متّصفًا به فما طريق دفعه والعافية منه، وإن لم يكن متّصفًا به فما طريق حفظ الصحة وبقائه على العافية والاحتراز منه.

وكذلك الفكرة في الصفة المحبوبة تستدعي ثلاثة أمور:

أحدها: أن هذه الصفة هل هي محبوبة لله مرضية له أم لا. الثاني: هل العبد متّصف بها أم لا. الثالث: أنه إذا كان متصفًا بها فما طريق حفظها ودوامها، وإن لم يكن متصفًا بها فما طريق اجتلابها والتخلّق بها. ثم فكرته في الأفعال على هذين الوجهين أيضًا سواء، ومجـاري هـذه الأفكـار ومواقعها كثيرة جـدًا لا تكاد تنضبط وإنمـا يحصرها ستّة أجناس: الطاعات الظاهرة والباطنة، والمعاصي الظاهرة والباطنة، والصفات والأخلاق الحميدة، والأخلاق والصفات الذميمة، فهذه مجاري الفكرة في صفات نفسها وأفعالها. وأما الفكرة في صفات المعبود وأفعاله وأحكامه، فتوجب له التمييز بين الإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، والإقرار والتعطيل، وتنزيه الربّ عمّا لا يليق به ووصفه بما هو أهله من الجلال والإكرام»(1).

من هذا الكلام النفيس للإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - يتبين لنا أن أصول التفكير ومجاريه التي لا يخرج عنها تفكير الناس إنما هي في المجاري التالية:

الأول : في غاية محبوبة مرادة الحصول.

الثانـي: في الطريق الموصلة إلى هذه الغاية المحبوبة.

الثالث: في مضرة مطلوبة الإعدام مكروهة الحصول.

الرابـع: في الطريق المفضية إلى هذه الغاية المكروهة.

والموفق من عباد الله تعالى من صرف فكره وهمه في الغاية المحبوبة الممدوحة وهي رضا الله تعالى وجنته، وفي الطريق الموصلة إلى ذلك؛ كمـا صرف فكـره إلى المضرة المطلوب إعدامها، وهي سخط الله عز وجل وعذابه، وفي الطريق المفضية إلى ذلك فيسخطها ويتجنبها. وينقسم التفكير من حيث متعلقاته إلى قسمين كبيرين:

الأول: تفكير ممدوح يحبه الله عز وجل ويأمر به ويحث عليه؛ وهو ما ندب إليه القرآن الكريم وختمه بقوله تعالى: (أَفَلا تَعْقِلُونَ)، (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) ... الخ، وهي المجالات التي تؤدي إلى الوصول إلى محبة الله عز وجل ومرضاته وجنته. وسيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى.

الثاني: تفكير مذموم يسخطه الله عز وجل وينهى عنه وهو التفكير في المجالات التي لم يعط الإنسان القدرة على التفكير فيها وإدراكها؛ كالأمور المغيبة وكيفياتها؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذات الله»(2). وكذلك الإغراق في هذه الدنيا الفانية ومتاعها الزائل، وقصر الفكر والهم عليها والانشغال بها عن الدار الآخرة دار البقاء والقرار.

ومن التفكير المذموم المنهي عنه: تلك الخواطر الرديئة، والوساوس الشيطانية، والأماني الباطلة التي لا تثمر إلا الأمراض القلبية والشكوك والشبهات والشهوات.

وفيما يلي من المباحث تفصيل للقسم الأول من التفكير لأنه هو الذي يهمنا في هذه الرسالة وسيتم فيها تناول أهم المجالات التي ندب الله تعالى إلى إعمال الفكر فيها وتدبرها لإفضائها إلى الغاية المحبوبة؛ وهي رضا الله تعالى وجنته، والبعد عن سخطه وعقابه. وسيكون الحديث عن هذه المجالات بشيء من التفصيل حسب الفصول التالية إن شاء الله تعالى:

الفصل الأول: التفكر في كتاب الله الكريم وآياته المتلوة وتدبرها.

الفصل الثاني: التفكر في آيات الله عز وجل المشهودة في الآفاق.

الفصل الثالـث : التفكر في آيات الله عز وجل المشهودة في الأنفس.

الفصل الرابــع : التفكر في آلاء الله عز وجل ونعمه الظاهرة والباطنة.

الفصل الخامس: التفكر في سير الأنبياء مع أقوامهم وعاقبة الفريقين.

الفصل السادس: التفكر في النفس ومحاسبتها والنظر فيما قدَّمت وأخَّرت.

الفصل السابــع: التفكر في الدنيا والآخرة والأمثال التي ضربت لهما.

الفصل الثامــن: التفكر في آيات الله عز وجل الخارقة.

وقد ذكر أكثر هذه الأقسام الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتابه الجواب الكافي؛ حيث يقول - رحمه الله تعالى -: «وأعلى الفكر وأجلها وأنفعها ما كان لله والدار الآخرة، فما كان لله فهو أنواع:

أحدها: الفكرة في آياته المنزلة وتعلقها، وفهم مراده منها، ولذلك أنزلها تعالى، لا لمجرد تلاوتها، بل التلاوة وسيلة.

قال بعض السلف: أنزل القرآن ليعمل به، فاتخذوا تلاوته عملاً.

الثاني: الفكرة في آياته المشهودة والاعتبار بها، والاستدلال بها على أسمائه وصفاته، وحكمته وإحسانه، وبره وجوده،وقد حضَّ الله سبحانه عباده على التفكر في آياته وتدبرها وتعلقها وذم الغافل عن ذلك.

الثالث: الفكرة في آلائه وإحسانه، وإنعامه على خلقه بأصناف النعم وسعة رحمته ومغفرته وحلمه.

وهذه الأنواع الثلاثة تستخرج من القلب معرفة الله ومحبته وخوفه ورجاءه. ودوام الفكرة في ذلك مع الذكر يصبغ القلب في المعرفة والمحبة صبغة تامة.

الرابع: الفكرة في عيوب النفس وآفاتها. وفي عيوب العمل، وهذه الفكرة عظيمة النفع، وهي باب لكل خير، وتأثيرها في كسر النفس الأمارة بالسوء، ومتى كسرت عاشت النفس المطمئنة، وانبعثت وصار الحكم لها، فحيى القلب، ودارت كلمته في مملكته، وبث أمراءه وجنوده في مصالحه.

الخامس: الفكرة في واجب الوقت ووظيفته وجمع الهم كله عليه. فالعارف ابن وقته؛ فإن أضاعه ضاعت عليه مصالحه كلها؛ فجميع المصالح إنَّما تنشأ من الوقت، وإن ضيعه لم يستدركه أبدًا.

وما عدا هذه الأقسام من الخطرات والفكر فإما وساوس شيطانية، وإما أماني باطلة وخدع كاذبة؛ بمنزلة خواطر المصابين في عقولهم من السكارى والمحشوشين والموسوسين»(3).


 

الفصل الأول

التفكر في آيات الله عز وجل المتلوة وتدبرها

يقول الله عز وجل: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (صّ:29).

وقد مر بنا في الباب السابق ذكر جملة من الآيات التي تحث على تدبر كتاب الله عز وجل، وما يتضمن من الآيات الباهرة في إقامـة الدلائل على التوحيـد والمعـاد، والإيمان بالرسل، والكتب، ولفت الأنظـار والأفكـار إلى آيـات ذلك في الآفـاق والأنفس والآلاء والآيات الخارقة، وكذلك ما فيه من الأحكام والتشريعات التي تحقق للعباد مصالحهم العظيمة في معاشهم ومعادهم.

ومن ذلك قوله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد:24). وقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) (المؤمنون:68).وقوله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء:82)، وقوله تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر:17)، وغير ذلك من الآيات التي سبق ذكرها.

«والتدبر عند أهل اللغة هو التفكر، ولكن مادة الكلمة تدور حول أواخر الأمور وعواقبها وأدبارها؛ فالتدبر هو النظر في عواقب الأمور وما تؤول إليه. ومن هذا نستطيع أن نفهم أن التدبر هو: التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلام ومراميه البعيدة»(4).

وقد اخترت البدأ بالتفكر في هذا المجال من مجالات التفكير الممدوح والمحبوب لله عز وجل لأن كتاب الله عز وجل يتضمن ذكر كل المجالات التي سيرد ذكرها في الفصول التالية، وهو منبعها ومصدرها؛ فالمتدبر لكتاب الله عز وجل يجد فيه الأمر والحض على النظر والتفكير في آيات الله تعالى المشهودة في الآفاق والأنفس، والآلاء والنعم، وسير الأنبياء مع أقوامهم، والنظر في ما قدمت النفس ليوم معادها، والتفكر في الدنيا والآخرة وحقيقة كل منهما، كما يجد المتدبر لكتاب الله عز وجل آيات عظيمة وكثيرة لعظمته سبحانه وقدرته في الخوارق التي يريها الناس، وينصر بها أنبياءه وأولياءه، كما يجد الحكم الباهرة في شرعه وأحكامه. كل ذلك يتضمنه كتاب الله عز وجل ويجده المتدبر والمتفكر في آياته الكريمة.

وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «ومجاري هذه الفكرة تدبّر كلامه، وما تعرَّف به سبحانه إلى عباده على ألسنة رسله من أسمائه وصفاته وأفعاله، وما نزّه نفسه عنه مما لا ينبغي له ولا يليق به سبحانه، وتدبّر أيامه وأفعاله في أوليائه وأعدائه التي قصّها على عباده، وأشهدهم إياها ليستدلّوا بها على أنه إلههم الحقّ المبين الذي لا تنبغي العبادة إلاّ له، ويستدلّوا بها على أنه على كل شيء قدير، وأنه بكل شيء عليم، وأنه شديد العقاب، وأنه غفور رحيم، وأنه العزيز الحكيم، وأنه الفعّال لما يريد، وأنه الذي وَسِعَ كل شيء رحمةً وعلمًا، وأن أفعاله كلها دائرة بين الحكمة، والرحمة والعدل والمصلحة لا يخرج شيء منها عن ذلك، وهذه الثمرة لا سبيل إلى تحصيلها إلاّ بتدبّر كلامه والنظر إلى آثار أفعاله»(5).

ومن النصح لكتاب الله عز وجل تدبره وفهم معانيه والاتعاظ بها؛ قال صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة» قلنا لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»(6).

وفي ذلك يقول الإمام النووي - رحمه الله تعالى -: «قال العلماء رحمهم الله: النصيحة لكتاب الله تعالى هي الإيمان بأنه كلام الله تعالى ... ثم نعظمه، وتلاوته حق تلاوته وتحسينها والخشوع عندها وإقامة حروفه في التلاوة ... والوقوف مع أحكامه وتفهم علومه وأمثاله، والاعتبار بمواعظه، والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه والتسليم بمتشابهه ... والدعاء إليه»(7).

ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «التفكر في القرآن نوعان: تفكر فيه ليقع على مراد الرب تعالى منه. وتفكر في معاني ما دعا عباده إلى التفكر فيه. فالأول تفكر في الدليل القرآني، والثاني تفكر في الدليل العياني. فالأول تفكر في آياته المسموعة، والثاني تفكر في آياته المشهودة، ولهذا أنزل الله القرآن ليتدبر ويتفكر فيه ويعمل به، لا لمجرد التلاوة مع الإعراض عنه»(8).

ويقول الزركشي: «القرآن كله لم ينزله منزله تعالى إلا ليُفْقَه ويُعْلم ويُفْهـم، ولذلك خاطب بـه أولي الألبـاب الذيـن يعقلـون، والذيـن يعلمون، والذين يفقهون، والذين يتفكرون ليدَّبروا آياته وليتذكر أولو الألباب»(9).

وتدبر كتاب الله عز وجل من الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى، وقـد نـص علـى ذلـك الإمـام ابـن القيـم - رحمه الله تعالى - فـي كتابـه القيم مدارج السالكين؛ وذلك في قولـه: «ولقـد كـان السلـف - رحمهم الله تعالى - يستشعرون هذا المعنى وهم يقرأون القرآن حتى أنهم كانوا يتلقونه تلقي الغائب الغريب لرسالة جاءت على شوق من الحبيب»(10).

قال الحسن بن علي رضي الله عنه: «إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل ويتفقدونها في النهار»(11).

ومن باب الفائدة في هذا المقام ننقل ما كتبه بعض المفسرين حول آيات التدبر الواردة في القرآن الكريم:

أولاً: عند قوله تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (صّ:29).

يقول الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى -: «(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ) فيه خير كثير، وعلم غزير. فيه كل هدى من ضلالة وشفاء من داء، ونور يستضاء به في الظلمات. وفيه كل حكم يحتاج إليه المكلفون، وفيه من الأدلة القطعية على كل مطلوب ما كان به أجل كتاب طرق العالم منذ أنشأه الله.

(لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) أي: هذه الحكمة من إنزاله ليتدبر الناس آياته، فيستخرجوا علمها ويتأملوا أسرارها وحكمها؛ فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه، وإعادة الفكر فيها مرة بعد مرة تدرك بركته وخيره. وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن، وأنه من أفضل الأعمال، وأن القراءة المشتملة على التدبر أفضل من سرعة التلاوة التي لا يحصل بها هذا المقصود.

(وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ( أي: أولو العقول الصحيحة؛ يتذكرون بتدبرهم لها كل علم ومطلوب. فدل هذا على أن بحسب لب الإنسان وعقله يحصل له التذكر والانتفاع بهذا الكتاب»(12).

ويقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية ومثيلاتها في القرآن: «وأمـا التأمـل في القـرآن: فهو تحديق ناظـر القلب إلى معانيه، وجمع الفكـر على تدبـره وتعقله. وهو المقصود بإنزاله، لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر؛ قال الله تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (صّ:29)، وقال تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد:24)، وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) (المؤمنون: من الآية68)، وقال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف:3). وقال الحسن: «نزل القرآن ليُتدبر ويعمل به، فاتخذوا تلاوته عملا». فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن، وإطالة التأمل، وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تُطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما، وعلى طرقاتهما وأسبابهما وغاياتهما وثمراتهما، ومآل أهلهما، وتَتُلّ في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتشيد بنيانه، وتوطِّد أركانه.، وتريه صورة الدنيا والآخرة، والجنة والنار في قلبه، وتُحْضِره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتُبَصِّره مواقع العبر، وتُشْهِدُه عدل الله وفضله، وتعرفه ذاته، وأسماءه وصفاته وأفعاله، وما يحبه وما يبغضه، وصراطه الموصل إليه، وما لسالكيه بعد الوصول والقدوم عليه، وقواطع الطريق وآفاتها. وتعرفه النفس وصفاتها، ومفسدات الأعمال ومصححاتها. وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم، وأحوالهم وسيماهم، ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأقسام الخلق واجتماعهم فيما يجتمعون فيه، وافتراقهم فيما يفترقون فيه.

وبالجملة تعرفه الرب المدعو إليه، وطريق الوصول إليه، وما له من الكرامة إذا قدم عليه.

وتعرفه في مقابل ذلك ثلاثة أخرى: ما يدعو إليه الشيطان، والطريق الموصلة إليه، وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب بعد الوصول إليه.

فهذه ستة أمور ضروري للعبد معرفتها، ومشاهدتها ومطالعتها. فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها، وتُمَيِّز له بين الحق والباطل في كل ما اختلف فيه العالم، فتريه الحق حقًا والباطل باطلاً، وتعطيه فرقانًا ونورًا يفرق به بين الهدى والضلال، والغي والرشاد، وتعطيه قوة في قلبه، وحياة وسعة وانشراحًا وبهجة وسرورًا؛ فيصير في شأنٍ والناس في شأن آخر.

فإن معاني القرآن دائرة على التوحيد وبراهينه، والعلم بالله وما له من أوصاف الكمال، وما ينزه عنه من سمات النقص. وعلى الإيمان بالرسل، وذكر براهين صدقهم، وأدلة صحة نبوتهم. والتعريف بحقوقهم، وحقوق مرسلهم. وعلى الإيمان بملائكته، وهم رسله في خلقه وأمره، وتدبيرهم الأمور بإذنه ومشيئته، وما جعلوا عليه من أمر العالم العلوي والسفلي،وما يختص بالنوع الإنساني منهم، من حين يستقر في رحم أمه إلى يوم يوافي ربه ويقدم عليه. وعلى الإيمان باليوم الآخر وما أَعدَّ الله فيه لأوليائه من دار النعيم المطلق، التي لا يشعرون فيها بألم ولا نكد وتنغيص، وما أعد لأعدائه من دار العقاب الوبيل، التي لا يخالطها سرور ولا رخاء ولا راحة ولا فرح. وتفاصيل ذلك أتم تفصيل وأبينه.وعلى تفاصيل الأمر والنهي، والشرع والقدر، والحلال والحرام، والمواعظ والعبر، والقصص والأمثال، والأسباب والحكم، والمبادئ والغايات في خلقه وأمره.

فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل، وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتحثه على التضمر والتخفف للقاء اليوم الثقيل، وتهديه في ظلم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل، وتصده عن اقتحام البدع والأضاليل، وتبعثه على الازدياد من النعم بشكر ربه الجليل، وتبصره بحدود الحلال والحرام، وتوقفه عليها لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل، وتثبت قلبه عن الزيغ والميل عن الحق والتحويل، وتسهل عليه الأمور الصعاب والعقبات الشاقة غاية التسهيل، وتناديه كلما فترت عزماته، وونَى في سيره: تقدم الركب وفاتك الدليل، فاللحاقَ اللحاقَ، والرحيل الرحيل. وتَحْدُو به وتسير أمامه سير الدليل،وكلما خرج عليه كمين من كمائن العدو، أو قاطع من قطاع الطريق نادته: الحذر الحذر! فاعْتَصِمْ واستعن به، وقل: حسبي الله ونعم الوكيل.

وفي تأمل القرآن وتدبره، وتفهمه، أضعاف أضعاف ما ذكرنا من الحكم والفوائد»(131).

ثانيـًا: عنـد قوله تعالـى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد:24).

يقـول السعدي - رحمه الله تعالى -: «أي: فهلا يتدبـر هؤلاء المعرضون لكتاب الله، ويتأملونه حق التأمل.

فإنهم لو تدبروه، لَدلَّهُمْ على كل خير، ولَحَذَّرَهُمْ من كل شر، ولَملأ قلوبهم من الإيمان، وأفئدتهم من الإيقان، ولأوصلهم إلى المطالب العالية، والمواهب الغالية،ولبَيَّنَ لهم الطريق الموصلة إلى الله، وإلى جنته ومكملاتها ومفسداتها، والطريق الموصلة إلى العذاب، وبأي شيء يُحذر، ولعرَّفهم بربهم، وأسمائه وصفاته، وإحسانه، ولشوَّقهم إلى الثواب الجزيل، ورهَّبهم من العقاب الوبيل»(14).

ويقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «ويتساءل في استنكار: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ).. وتدبر القرآن يزيل الغشاوة، ويفتح النوافذ، ويسكب النور،ويحرك المشاعر، ويستجيش القلوب، ويخلص الضمير، وينشئ حياة للروح تنبض بها وتشرق وتستنير. (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) فهي تحول بينها وبين القرآن وبينها وبين النور؟ فإن استغلاق قلوبهم كاستغلاق الأقفال التي لا تسمح بالهواء والنور!»(15).

ثالثًا: عند قوله تعالى: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) (النجم:59-62).

يقول السعدي - رحمه الله تعالى -: «ثم توعد المنكرين لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، المكذبين لما جاء به من القرآن الكريم فقال: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ)؟ أي: أفمن هذا الحديث، الذي هو خير الكلام وأفضله، وأشرفه، تتعجبون، وتجعلونه من الأمور المخالفة للعادة، الخارقة للأمور والحقائق المعروفة؟ هذا من جهلهم، وضلالهم، وعنادهم. وإلا فهو الحديث الذي إذا حدث صدق، وإذا قال قولاً فهو القول الفصل، ليس بالهزل، وهو القرآن العظيم، الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله. الذي يزيد ذوي الإصلاح رأيًا وعقلاً، وتسديدًا، وثباتًا، وإيقانًا، وإيمانًا. بل الذي ينبغي العجب من عقل من تعجب منه وسفهه وضلاله.

(وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ) أي: تستعجلون الضحك والاستهزاء به، مع أنه الذي ينبغي أن تتأثر منه النفوس، وتلين له القلوب، وتبكي له العيون؛ سماعًا لأمره ونهيه، وإصغاء لوعده ووعيده، والتفاتا لأخباره الصادقة الحسنة.

(وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ) أي: غافلون لاهون عنه وعن تدبره، وهذا من قلة عقولكم وزيف أديانكم. فلو عبدتم الله وطلبتم رضاه في جميع الأحوال، لما كنت بهذه المثابة التي يأنف منها أولو الألباب؛ ولهذا قال تعالى: (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) الأمر بالسجود لله خصوصًا يدل علـى فضـله وأنـه سر العبادة ولبها؛ فـإن روحها الخشوع لله، والخضوع له. والسجود أعظم حالة يخضع بها العبد؛ فإنه يخضع قلبه وبدنه، ويجعل أشرف أعضائه على الأرض المهينة، موضع وطء الأقدام. ثم أمر بالعبادة عمومًا، الشاملة لجميع ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة»(16).

ويحكي سيد قطب - رحمه الله تعالى - تأثره بهذه الآية وما قبلها في سورة النجم محاولاً تفسير سجود المشركين بعد قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه السورة فيقول: «كنت بين رفقة نسمر حينما طرق أسماعنا صوت قارئ للقرآن من قريب يتلو سورة النجم، فانقطع بيننا الحديث لنستمع وننصت للقرآن الكريم، وكان صوت القارئ مؤثرًا وهو يرتل القرآن ترتيلاً حسنًا.

وشيئًا فشيئًا عشت معه فيما يتلوه؛ عشت مع قلب محمد صلى الله عليه وسلم في رحلته إلى الملأ الأعلى. عشت معه وهو يشهد جبريل - عليه السلام - في صورته الملائكية التي خلقه الله عليها؛ ذلك الحادث العجيب المدهش حين يتدبره الإنسان ويحاول تخيله! وعشت معه وهو في رحلته العلوية الطليقة عند سدرة المنتهى وجنة المأوى. عشت معه بقدر ما يسعفني خيالي، وتحلق بي رؤاي، وبقدر ما تطيق مشاعري وأحاسيسي، وتابعته في الإحساس بتهافت أساطير المشركين حول الملائكة وعبادتها وبنوتها وأنوثتها إلى آخر هذه الأوهام الخرفة المضحكة، التي تتهاوى عند اللمسة الأولى.

ووقفت أمام الكائن البشري ينشأ من الأرض، وأمام الأجنة في بطون الأمهات، وعلم الله يتابعها ويحيط بها. وارتجف كياني تحت وقع اللمسات المتتابعة في المقطع الأخير من السورة .. الغيب المحجوب لا يراه إلا الله، والعمل المكتوب لا يند ولا يغيب عن الحساب والجزاء، والمنتهى إلى الله في نهاية كل طريق يسلكه العبيد. والحشود الضاحكة والحشود الباكية، وحشود الموتى، وحشود الأحياء، والنطفة تهتدي في الظلمات إلى طريقها، وتخطو خطواتها وتبرز أسرارها فإذا هي ذكر أو أنثى، والنشأة الأخرى، ومصارع الغابرين، والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى!

واستمعت إلى صوت النذير الأخير قبل الكارثة الداهمة: (هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى أَزِفَتِ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ) (النجم:56-58).

ثم جاءت الصيحة الأخيرة. واهتز كياني كله أمام التبكيت الرعيب: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) (النجم:59-61).

فلما سمعت: (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا).. كانت الرجفة قد سرت من قلبي حقًا إلى أوصالي، واستحالت رجفة عضلية مادية ذات مظهر مادي، لم أملك مقاومته؛ فظل جسمي كله يختلج،ولا أتمالك أن أثبته، ولا أن أكفكف دموعًا هاتنة، لا أملك احتباسها مع الجهد والمحاولة!

وأدركت في هذه اللحظة أن حادث السجود صحيح(17)، وأن تعليله قريب؛ إنه كامن في ذلك السلطان العجيب لهذا القرآن، ولهذه الإيقاعات المزلزلة في سياق هذه السورة. ولم تكن هذه أول مرة أقرأ فيها سورة النجم أو أسمعها.ولكنها في هذه المرة كان لها هذا الوقع، وكانت مني هذه الاستجابة. وذلك سر القرآن؛ فهناك لحظات خاصة موعودة غير مرقوبة تمس الآية أو السورة فيها موضع الاستجابة، وتقع اللمسة التي تصل القلب بمصدر القوة فيها والتأثير؛ فيكون منها ما يكون!»(18).

مسألة :

درج بعض أهل البدع على قولهم في أسماء الله عز وجل وصفاته وتشريعاته أنها غير مفهومة المعنى، وأن الأحكام غير معللة بالحكم والمصالح، بل هي محض تكاليف مستندة إلى محض المشيئة لا لغرض ولا لفائدة بل مجرد قهر وتكليف، وليست سببًا لشيء من مصالح الدنيا والآخرة.

ولا يخفى ما في هذا القول الشنيع من تعطيل معاني أسماء الله عز وجل وصفاته وآثارهما، وتعطيل لتدبر كتاب الله تعالى، وما فيه من ذكر لأسمائه سبحانه وتعالى وصفاته التي هي مفهومة المعنى، وكذلك ما فيه من الآيات الباهرات والتنبيه إليها في الآفاق والأنفس والخوارق والمعجزات، وما فيه من الأحكام والتشريعات التي هي مقتضى الحكمة والمصلحة، والتي تدل على عظمة الله عز وجل واستحقاقه للعبادة وحده لا شريك له.

فكل هذه المعاني تتعطل بهذا القول المقيت، وقد رد على مثل هذه الأقوال أئمة السلف رحمهم الله تعالى، وبينوا أن القرآن الكريم ميسر للذكر، مفهوم المعاني، وفيه من الأحكام ما يتوصل بتدبرها إلى معرفة حِكمِهَا وعللها ومصالحها.

ومن هؤلاء الأئمة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - حيث يقول: «يجب أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن لأصحابه معاني القرآن، كما بين لهم ألفاظه؛ فقوله تعالى: (لٌتٍبّيٌَنّ لٌلنَّاسٌ مّا نٍزٌَلّ إلّيًهٌمً) [النحل: 44] يتناول هذا وهذا.

وقد قال أبو عبدالرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن، كعثمان بن عفان، وعبدالله بن مسعود، وغيرهما: أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل؛ قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا. ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة.

وقال أنس رضي الله عنه: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جل في أعيننا.

وأقام ابن عمر على حفظ البقرة عدة سنين؛ قيل ثمان سنين، ذكره مالك.

وذلك أن الله تعالى قال: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) (صّ: من الآية29)، وقال: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) (محمد: من الآية24)، وقال: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) (المؤمنون: من الآية68)؛ وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن!

وكذلك قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف:2)، وعقل الكلام متضمن لفهمه.

ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك.

وأيضًا فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابًا في فن من العلم، كالطب والحساب، ولا يستشرحوه؛ فكيف بكلام الله تعالى الذي هو عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم، وقيام دينهم وديناهم»(19) ا.هـ.

ويقول الإمام الشاطبي - رحمه الله تعالى -: «إن الكتاب قد تقرر أنه كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه. وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه لأنه معلوم من دين الأمة. وإذا كان كذلك لزم ضرورة لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة، وطمع في إدراك مقاصدها، واللحاق بأهلها أن يتخذه سميره وأنيسه، وأن يجعله جليسه على مر الأيام والليالي نظرًا وعملاً لا اقتصارًا على أحدهما. فيوشك أن يفوز بالبغية وأن يظفر بالطلبة، ويجد نفسه من السابقين وفي الرعيل الأول؛ فإن كان قادرًا على ذلك، ولا يقدر عليه إلا من زاول ما يعينه على ذلك من السنة المبينة للكتاب، وإلا فكلام الأئمة السابقين والسلف المتقدمين آخذ بيده في هذا المقصد الشريف والمرتبة المنيفة.

وأيضًا فمن حيث كان القرآن معجزًا أفحم الفصحاء وأعجز البلغاء أن يأتوا بمثله فذلك لا يخرجه عن كونه عربيًا جاريًا على أساليب كلام العرب، ميسرًا للفهم فيه عن الله ما أمر به ونهى، لكن بشرط الدربة في اللسان العربي، كما تبين في كتاب الاجتهاد؛ إذ لو خرج بالإعجاز عن إدراك العقول معانيه لكان خطابهم به من تكليف ما لا يطاق، وذلك مرفوع عن الأمة. وهذا من جمل الوجوه الإعجازية فيه؛ إذ من العجب إيراد كلام من جنس كلام البشر في اللسان، والمعاني، والأساليب، مفهوم معقول، ثم لا يقدر البشر على الإتيان بسورة مثله ولو اجتمعوا وكان بعضهم لبعض ظهيرًا؛ فهم أقدر ما كانوا على معارضة الأمثال، أعجز ما كانوا عن معارضته.

وقد قال تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر:17)، وقال: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً) (مريم:97)، وقال: (قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (فصلت: من الآية3)، وقال: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (الشعراء:195)، وعلى أي وجه فرض إعجازه فذلك غير مانع من الوصول إلى فهمه وتعقل معانيه: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (صّ:29)؛ فهذا يستلزم امكان الوصول إلى التدبر والتفهم ..»(20).

ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «أنزل الله سبحانه الكتاب شفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين، ولذلك كانت معانيه أشرف المعاني، وألفاظه أفصح الألفاظ وأبينها وأعظمها، مطابقة لمعانيها المرادة منها، كما وصف سبحانه به كتابه في قوله: (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) (الفرقان:33).

فالحق: هو المعنى والمدلول الذي تضمنه الكتاب، والتفسير الأحسن: هو الألفاظ الدالة على ذلك الحق فهي تفسيره وبيانه.

والتفسير أصله في الظهور والبيان، وباقيه في الاشتقاق الأكبر: الإسفار ومنه أسفر الفجر إذا أضاء ووضح، ومنه السفَرَ لبروز المسافر من البيوت وظهوره، ومنه السِّفْر الذي يتضمن إظهار ما فيه من العلم وبيانه، فلا بد من أن يكون التفسير مطابقًا للمفسر مفهمًا له، وكلما كان فهم المعنى منه أوضح وأبين كان التفسير أكمل وأحسن، ولهذا لا تجد كلامًا أحسن تفسيرًا، ولا أتم بيانًا، من كلام الله سبحانه، ولهذا سماه سبحانه بيانًا، وأخبر أنه يسَّره للذكر، وتيسيره للذكر يتضمن أنواعًا من التيسير:

إحداها: تيسير ألفاظه للحفظ.

الثانـي: تيسير معانيه للفهم.

الثالث: تيسير أوامره ونواهيه للامتثال.

ومعلوم أنه لو كان بألفاظ لايفهمها المخاطب لم يكن ميسرًا له، بل كـان معسـرًا عليه، فهكـذا إذا أريـد من المخاطـب أن يفهـم من ألفاظه ما لا يدل عليه من المعاني، أو يدل على خلافه، فهذا من أشد التعسير»(21).

ويقول في موطن آخر: «والله تعالى أنزل كتابه - ألفاظه ومعانيه - وأرسل رسوله ليبين اللفظ والمعنى؛ فكما أنا نقطع ونتيقن أنه بين اللفظ، فكذلك نقطع ونتيقن أنه بين المعنى، بل كانت عنايته ببيان المعنى أشد من عنايته ببيان اللفظ، وهذا هو الذي ينبغي؛ فإن المعنى هو المقصود، وأما اللفظ فوسيلة إليه ودليل عليه؛ فكيف تكون عنايته بالوسيلة أهم من عنايته بالمقصود؟ وكيف نتيقن بيانه للوسيلة، ولا نتيقن بيانه للمقصود؟ وهل هذا إلا من أبين المحال»(22).

ويقول في موطن ثالث: «ومن ظن به - سبحانه - أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل، وتشبيه، وتمثيل، وترك الحقَّ لم يُخبر به، وإنما رَمزَ إليه رموزًا بعيدة، وأشار إليه إشاراتٍ مُلْغِزةً لم يُصرح به، وصرَّح دائمًا بالتشبيه والتمثيل والباطل، وأراد مِن خلقه أن يُتعِبُوا أذهانَهم وقُواهم وأفكارَهم في تحريفِ كلامه عن مواضعه، وتأويلهِ على غير تأويله، ويتطلَّبوا له وجوهَ الاحتمالات المستكرهة، والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم، لا على كتابه، بل أراد منهم أن لا يحملوا كلامه على ما يعرفون من خطابهم ولغتهم، مع قدرته على أن يُصَرِّحَ لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به، ويُريحَهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل، فلم يفعل، بل سلك بهم خلافَ طريقِ الهدى والبيان، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوْءِ؛ فإنه إن قال: إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبَّر به هو وسلفُه، فقد ظن بقُدرته العجز، وإن قال: إنه قادِرٌ ولم يُبَيِّنْ، وعدَلَ عن البيان، وعن التصريح بالحقِّ إلى ما يُوهم، بل يُوقِعُ في الباطل المحال، والاعتقاد الفاسد، فقد ظنَّ بحكمته ورحمته ظَنَّ السَّوءِ، وظنَّ أنه هو وسلفُه عبَّروا عن الحقِّ بصريحه دُونَ الله ورسوله، وأن الهُدى والحقَّ في كلامهم وعباراتهم. وأما كلام الله، فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه، والتمثيل، والضلال، وظاهِر كلام المتهوِّكين الحيارى، هو الهُدى والحق. وهذا من أسوأ الظن بالله؛ فكُلُّ هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء، ومن الظانين به غير الحق ظن الجاهلية»(23) ا.هـ.

ويقول في موطن رابع وهو يرد على نفاة الحكمة والتعليل في أحكام الله تعالى القدرية والشرعية وذلك من وجوه عدة منها قوله:

«النوع الثالث عشر: أمره سبحانه بتدبر كلامه والتفكر فيه وفي أوامره وزواجره. ولولا ما تضمنه من الحكم والمصالح والغايات المطلوبة والعواقب الحميدة التي هل محلُّ الفكر لما كان للتفكر فيه معنى. وإنما دعاهم إلى التفكير والتدبر ليُطلعهم ذلك على حِكمته البالغة وما فيه من الغايات والمصالح المحمودة التي تُوجب لمن عَرَفها إقرارَه بأنه تنزيلٌ من حكيم حميد. فلو كان الحقُّ ما يقوله النُّفاة، وأن مرجع ذلك وتصوره مجرد القدرة والمشيئة التي يجوز عليها تأييد الكاذب بالمعجزة ونصرُه وإعلاؤه، وإهانة الحق وإذلالُه وكَسْرُه، لما كان في التدبر والتفكر ما يدلهم على صدق رسله ويقيمُ عليهم حجته، وكان غاية ما دُعوا إليه القدَرُ المحض، وذلك مشتركُ بين الصادق والكاذب والبَر والفاجر.

فهؤلاء بإنكارهم الحكمةَ والتعليلَ سدّوا على نفوسهم باب الإيمان والهدى، وفتحوا عليهم باب المكابرة وجَحْدِ الضروريات؛ فإنّ ما في خلق الله وأمره من الحكم والمصالح المقصودة بالخلق والأمر والغايات الحميدة أمرٌ تشهدُ به الفطر والعقول ولا ينكره سليم الفطرة. وهم لا ينكرون ذلك وإنما يقولون وقع بطريق الاتفاق لا بالقصد، كما تسقطُ خشبةٌ عظيمة فيتفق عبور حيوان مؤذٍ تحتها فتهلكُه.

ولا ريب أن هذا ينفي حمدَ الرب سبحانه على حصول هذه المنافع والحكم؛ لأنها لم تحصل بقصده وإرادته، بل بطريق الاتفاق الذي لا يُحمد عليه صاحبُه ولا يُثنى عليه، بل هو عندَهم بمثابة ما لَوْ رَمَى رجل درهمًا لا لغرض ولا لفائدة، بل لمجرد قدرته ومشيئته على طَرْحه، فاتفق أن وقع في يد محتاج انتفع به. فهذا من شأن الحكم والمصالح عند المنكرين»(24) ا.هـ.

ويقول شاه ولي الله الدهلوي في كتابه «حجة الله البالغة»: «قد يُظَن أن الأحكام الشرعية غير متضمنة لشيء من المصالح، وأنه ليس بين الأعمال وبين ما جعل الله جزاء لها مناسبة، وأن مثل التكليف بالشرائع كمثل سيد أراد أن يختبر طاعة عبده فأمره برفع حجر أو لمس شجرة مما لا فائدة فيه غير الاختبار، فلما اطاع أو عصى جوزي بعمله، وهذا ظن فاسد تكذبه السنة وإجماع القرون المشهود لها بالخير. ومن(25) عجز أن يعرف أن الأعمال معتبرة بالنيات، والهيئات النفسانية التي صدرت منها؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات»(26)، وقال الله تعالى: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) (الحج: من الآية37)، وأن الصلاة شرعت لذكر الله ومناجاته كما قال الله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (طـه: من الآية14)، ولتكون معدة لرؤية الله تعالى ومشاهدته في الآخرة؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته؛ فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها فافعلوا»(27).

وأن الزكاة شرعت دفعًا لرذيلة البخل وكفاية لحاجة الفقراء؛ كما قـال الله تعالى في مانعـي الزكـاة: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (آل عمران: من الآية180)، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فأخبرهم أن الله تعالى قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم»(28).

وأن الصوم شرع لقهر النفس؛ كما قال الله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: من الآية183)، وكما قال صلى الله عليه وسلم: «فإن الصوم له وجاء»(29).

وأن الحج شرع لتعظيم شعائر الله كما قال الله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) (آل عمران: من الآية96)، وقال: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) (البقرة: من الآية158).

وأن القصاص شرع زاجرًا عن القتل؛ كما قال الله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) (البقرة: من الآية179)، وأن الحدود والكفارات شرعت زواجر عن المعاصي كما قال الله تعالى: (لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ) (المائدة: من الآية95).

وأن الجهاد شرع لإعلاء كلمة الله وإزالة الفتنة كما قال الله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (الأنفال: من الآية39).

وأن أحكام المعاملات والمناكحات شرعت لإقامة العدل فيهم، إلى غير ذلك مما دلت الآيات والأحاديث عليه ولهج به غير واحد من العلماء في كل قرن، فإنه(30) لم يمسه من العلم إلا كما يمس الإبرة من الماء حين تغمس في البحر وتخرج، وهو بأن يبكي على نفسه أحق من أن يعتد بقوله ... إلى غير ذلك من المواضع التي يعسر إحصاؤها.

وبين ابن عباس رضي الله عنه سر مشروعية غسل الجمعة، وزيد بن ثابت سبب النهي عن بيع الثمار قبل بدوِّ صلاحها، وبين ابن عمر سر الاقتصار على استلام ركن من أركان البيت ثم لم يزل التابعون ثم من بعدهم العلماء المجتهدون يعللون الأحكام بالمصالح، ويفهمون معانيها، ويخرجون للحكم المنصوص مناطًا مناسبًا لدفع ضر أو جلب نفع كما هو مبسوط في كتبهم ومذاهبهم. ثم أتى العزالي والخطابي وابن عبدالسلام وأمثالهم - شكر الله مساعيهم - بنكت لطيفة وتحقيقات شريفة»(31).

ويتحدث ابن القيم - رحمه الله تعالى - عن عظمة الشريعة والحكم الباهرة فيها فيقول: «الحكمة الباهرة في هذا الدين القويم، والملة الحنيفية، والشريعة المحمدية التي لا تنال العبارة كمالها ولا يدرك الوصف حُسنها، ولا تقترح عقول العقلاء ولو اجتمعت وكانت على أكمل عقل رجل منهم فوقها.

وحسب العقول الكاملة الفاضلة أن أدركت حُسنها، وشهدت بفضلها، وأنه ما طرق العالم شريعة أكمل ولا أجلّ ولا أعظم منها؛ فهي نفسها الشاهد والمشهود له، والحجّة والمحتجّ له، والدعوى والبرهان. ولو لم يأت الرسول ببرهان عليها لكفى بها برهانًا وآيًة وشاهدًا على أنها من عند الله. وكلها شاهدة له بكمال العلم وكمال الحكمة وسِعَة الرحمة والبّر والإحسان، والإحاطة بالغيب والشهادة، والعلم بالمبادئ والعواقب، وأنها من أعظم نِعَم الله التي أنعم بها على عباده؛ فما أنعم عليهم بنعمة أجلّ من أن هداهم لها، وجعلهم من أهلها، وممّن ارتضاهم لها فلهذا امتّن على عباده بأن هداهم لها قال الله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (آل عمران:164)، وقال مُعَرِّفًا لعباده ومُذَكِّرًا لهم عظيم نعمته عليهم مستدعيًا منهم شكره على أن جعلهم من أهلها (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ... الآية) (المائدة: من الآية3).

وتأمل كيف وصف الدين الذي اختاره لهم بالكمال، والنعمة التي أسبغها عليهم بالتمام؛ إيذانًا في الدين بأنه لا نقص فيه، ولا عيب ولا خلل، ولا شيء خارجًا عن الحكمة بوجه بل هو الكامل في حُسنه وجلالته.

ووصف النّعمة بالتمام إيذانًا بدوامها واتصالها، وأنه لا يسلبهم إياها بعد إذ أعطاهموها، بل يتّمها لهم بالدوام في هذه الدار وفي دار القرار.

وتأمّل حُسْن اقتران التمام بالنعمة وحُسْن اقتران الكمال بالدين وإضافة الدين إليهم؛ إذ هم القائمون به المقيمون له، وأضاف النعمة إليه؛ إذ هو وليّها ومُسدِيها والمُنِعم بها عليهم؛ فهي نعمته حقًا، وهم قابلوها. وأتى في الكمال باللاّم المؤذنة بالاختصاص وأنه شيء خُصُّوا به دون الأمم، وفي إتمام النعمة بعلى المؤذنة بالاستعلاء والاشتمال والإحاطة؛ فجاء (أتممت) في مقابلة (أكملت)، و (عليكم) في مقابلة (لكم) و (نعمتي) في مقابلة (دينكم)، وأكد ذلك وزاده تقريرًا وكمالاً وإتمامًا للنعمة بقوله: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً) (المائدة: من الآية3)(32).

ذكر بعض الأمور التي تعين على تدبر القرآن الكريم:

أولاً : معايشة معاني الآيات والملابسات التي صاحبت نزولها:

وقد كان للصحابة رضي الله عنهم أوفر الحظ والنصيب من هذه المعايشة ولذلك كانوا أعظم الناس تدبرًا للقرآن؛ لما شاهدوه من القرآئن والأحوال التي اختصوا بها، فحصل لهم الفهم التام والعلم الصحيح(33).

وبقدر ما يعيش المسلم تلك الأجواء والظروف والملابسات التي تنزَّل فيها القرآن يحصل له من التأثر والتدبر ما لا يحصل للخلي من ذلك.

وفي ذلك يقول سيد قطب - رحمه الله تعالى -: «ولا يفهم النصوص القرآنية حق الفهم إلا من يواجه مثل هذه الظروف التي واجهتها أول مرة؛ هنا تتفتح النصوص عن رصيدها المذخور،وتتفتح القلوب لإدراك مضامينها الكاملة، وهنا تتحول تلك النصوص من كلمات وسطور إلى قوى وطاقات، وتنتفض الأحداث والوقائع المصورة فيها؛ تنتفض خلائق حية موحية، دافعة، دافقة، تعمل في واقع الحياة، وتدفع بها إلى حركة حقيقية في عالم الواقع وعالم الضمير ...

وإن الإنسان ليقرأ النص القرآني مئات المرات، ثم يقف الموقف أو يواجه الحادث؛ فإذا النص القرآني جديد يوحي إليه بما لم يوح من قبل قط، ويجيب على السؤال الحائر،ويفتي في المشكلة المعقدة، ويكشف الطريق الخافي، ويرسم الاتجاه القاصد، ويفيء بالقلب إلى اليقين الجازم في الأمر الذي يواجهه، وإلى الاطمئنان العميق، وليس ذلك لغير القرآن في قديم ولا حديث»(34).

وإذا لم يمكن العيش مع معاني القرآن، وما عاناه المسلمون مدة نزول القـرآن، وما فيهـا من جهـاد ودعـوة، وبذل وتضحيـة، وصبـر ومصابـرة، فلا أقل أن يتصور حـال الدعوة عنـد نزول الآيـات وما لابسها من أحداث. ومما يعين على هذا التصور: الإحاطة بأسباب نزول الآيات، ولا سيما ما صح منها.

يقول الشاطبي - رحمه الله تعالى -: «معرفة أسباب النزول لازمة لمن أراد علم القرآن، والدليل على ذلك أمران:

أحدهما: أن علم المعاني والبيان الذي يُعرف به إعجاز نظم القرآن - فضلاً عن معرفة مقاصد كلام العرب - إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس الخطاب أو المخاطِب أو المخاطَب أو الجميع؛ إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطبين،وبحسب غير ذلك؛ كالاستفهام لفظه واحد ويدخله معان أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك، وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد، والتعجيز، وأشباهها، ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة؛ وعمدتها مقتضيات الأحوال، وليس كل حال تنقل، ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول. وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه. ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط؛ فهي من المهمات في فهم الكتاب ولا بد، ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال.

الوجه الثاني: وهو أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه والإشكالات، ومُورِد للنصوص الظاهرة مَوردَ الإجمال حتى يقع الاختلاف»(35).

ويقول الميداني في سياق بيانه لأهمية معرفة بيئة نزول النص البشرية والزمانية والمكانية: «على متدبر كتاب الله أن يضع في اعتباره لدى تدبر نص منه ملاحظة الأمور التالية:

الأول: تصور العصر الإسلامي الأول وواقع حال الذين كانت تنزل عليهم الآيات القرآنية لتعليمهم وتوجيههم وتربيتهم، ويدخل في هذا تصور بيئتهم العامة، ومفاهيمهم التي كانت سائدة بينهم بوجه عام.

الثاني: تصور الحالة النفسية والفكرية والاجتماعية التي كانوا عليها حين نزول الآيات الموضوعة للدراسة؛ وذلك بشكل خاص.

الثالث: تصور الظرفين الزماني والمكاني ... فكثيرًا ما يقع الباحث عن معنى نص في الخطأ؛ لأنه فهم النص وهو يضع في اعتباره واقع حال المجتمع الذي يعيش فيه، والبيئة المحيطة به، لا واقع حال البيئة والمجتمع الذي نزل فيه النص ... وتصور الظرفين الزماني والمكاني اللذين أنزلت فيهما الآيات يقدم للمتدبر نفعًا جليلاً، ويهديه إلى مفاهيم أكثر دقة، وأقرب إلى المراد؛ وذلك لأن من الأساليب البيانية ما يلائم ظرفًا من الظروف الزمانية أو المكانية ...»(36).

ثانياً: فهم المعاني ودلالات الألفاظ والوقوف عند الآيات وإحضار القلب عندها:

وهذا أمر لا بد منه لتدبر كتاب الله عز وجل،ومن رحمة الله تعالى وفضله أن جعل كلامه ميسرًا للفهم والإدراك؛ قال تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر:17)، ولكن يبقى بعض الآيات تحتاج من المتدبر إلى فهم معانيها والرجوع إلى كتب التفسير وإلى أهل العلم ليتجلى المعنى المراد منها، وليس العلم بمعنى الآيات مقصودًا لذاته، وإنما هو وسيلة لتدبر كلام الله عز وجل وإحضار القلب والفكر، والتأثر باطنًا وظاهرًا بمعاني كلام الله عز وجل؛ قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (قّ:37)(37).

ويلزم على هذا إحضار القلب عند سماع القرآن أو تلاوته حضور من يخاطبه القرآن، وتصور عظمة من تكلم بهذا القرآن، وعظمة مخلوقاته في الآفاق وفي النفس الدالة على عظمته سبحانه وجلاله وعلى أسمائه سبحانه وصفاته.

يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: (إذا أردت الانتفاع بالقرآن، فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألق سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه، منه إليه؛ فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (قّ:37)؛ وذلك أن تمام التأثير لمَّا كان موقوفًا على مؤثر مقتضٍ، ومحلٍ قابل، وشرط لحصول الأثر، وانتفاء المانع الذي يمنع منه؛ تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه وأدله على المراد؛ فقوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى) إشارة إلى ما تقدم من أول السورة إلى ههنا، وهذا هو المؤثر. وقوله: (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) فهذا هو المحل القابل؛ والمراد به القلب الحي الذي يعقل عن الله، كما قال تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً) (يّـس: 69، 70)، أي: حي القلب. وقوله تعالى: (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) أي: وجه السمع، وأصغى حاسة سمعه إلى ما يقال له، وهذا شرط التأثر بالكلام. وقوله تعالى: (وَهُوَ شَهِيدٌ) أي: شاهد القلب والفهم، ليس بغافل ولا ساهٍ، وهو إشارة إلى المانع من حصول التأثير وهو سهو القلب وغيابه عن تعقل ما يقال له والنظر فيه وتأمله. فإذا حصل المؤثر - وهو القرآن - والمحل القابل - وهو القلب الحي - ووجد الشرط - وهو الإصغاء - وانتفى المانع - وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلى شيء آخر - حصل الأثر، وهو الانتفاع والتذكر»(38).

ويقول شيخ الإسلام ابن يتيمة - رحمه الله تعالى -: «ومما ينبغي أن يعلم أن فضل القراءة والذكر والدعاء والصلاة وغير ذلك قد يختلف باختلاف حال الرجال؛ فالقراءة بتدبر أفضل من القراءة بلا تدبر، والصلاة بخشوع وحضور قلب أفضل من الصلاة بدون ذلك. وفي الأثر: «إن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدًا، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض)(39). وكان بعض الشيوخ يرقى بـ (قل هو الله أحد) وكان لها بركة عظيمة، فيرقي بها غيرُه فلا يحصل ذلك فيقول: ليس (قل هو الله أحد) من كل أحد تنفع كل أحد.

وإذا عرف ذلك فقد يكون تسبيح بعض الناس أفضل من قراءة غيره، ويكون قراءة بعض السور من بعض الناس أفضل من قراءة غيره لـ (قل هو الله أحد) وغيرها. والإنسان الواحد يختلف أيضًا حاله؛ فقد يفعل العمل المفضول على وجه كامل فيكون به أفضل من سائر أعماله الفاضله»(40).

ويقول أحمد بن قدامة رحمه الله تعالى: «وينبغي للتالي أن يستوضح من كل آية ما يليق بها، ويتفهم ذلك، فإذا تلا قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) (الأنعام: من الآية1)، فليعلم عظمته ويتلمح قدرته في كل ما يريد، وإذا تلا: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ) (الواقعة:58)، فليتفكر في نطفة متشابهة الأجزاء كيف تنقسم إلى لحم وعظم، ... وإذا تلا أحوال المعذبين فليستشعر الخوف من السطوة إن غفل عن امتثال الأمر ... وينبغي لتالي القرآن أن يعلم أنه المقصود بخطاب القرآن ووعيده، وأن القصص لم يرد بها السمر بل العبر، فحينئذ يتلو تلاوة عبد كاتَبَهُ سيده بمقصود، وليتأمل الكتاب وليعمل بمقتضاه»(41).

ثالثاً : هجر المعاصي والذنوب والتقرب إلى الله عز وجل بالطاعات:

فإن مما يحول بين القلب وبين تدبر كلام الله عز وجل كثرة الذنوب والمعاصي، حتى يقسو بها القلب، ويحـرم صاحبـه من لـذة الطاعـة والمناجاة لله سبحانه بذكره وكلامه؛ فكلما تخفَّف العبد من المعاصي وتقرب إلى الله عز وجل بالطاعات بدايةً بالفرائض، ثم النوافل كان حظه من تدبر كلام الله عز وجل والتأثر به أكثر وأعظم.

يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «ومن عقوبات المعاصي أنهـا تعمـي القلـوب؛ فـإن لـم تعمـه أضعفت بصيرتـه ولا بـد ... قال الله تعالى: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ... الآيات) (الزخرف:36-39)؛ فأخبر سبحانه أن من عشا عن ذكره وهو كتابه الذي أنزله على رسوله، فأعرض عنه، وعمي عنه، وعشت بصيرته عن فهمه وتدبره ومعرفة مراد الله منه قيض الله له شيطانًا عقوبة له بإعراضه عن كتابه»(42).

رابعاً : خلو القلب من هم الدنيا وعدم التعلق بما فيها من مال أو رئاسة أو صورة والتعلق بالآخرة:

فإن القلب إذا امتلأ من الدنيا والاهتمام بها، وضعف فيه هم الآخرة والاستعداد لها، لم يكن فيه محل لتدبر كلام الله عز وجل. فالتعلق بالآخرة وعدم الانشغال بالدنيا هو رأس كل خير.

وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «اعلم أن القلب إذا خلى من الاهتمام بالدنيا والتعلق بما فيها من مال أو رياسة أو صورة، وتعلقَ بالآخرة والاهتمام بها من تحصيل العُدَّة، والتأهب للقدوم على الله عز وجل: فذلك أول فتوحه، وتباشير فجره. فعند ذلك يتحرك قلبه لمعرفة ما يرضى به ربه منه، فيفعله ويتقرب به إليه، وما يسخطه منه فيجتنبه. وهذا عنوان صدق إرادته؛ فإن كل من أيقن بلقاء الله، وأنه سائله عن كلمتين - يُسأل عنهما الأولون والآخرون - ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ لا بد أن يتنبه لطلب معرفة معبوده، والطريق الموصلة إليه. فإذا تمكن في ذلك فتح له باب الأنس بالخلوة والوحدة والأماكن الخالية التي تهدأ فيها الأصوات والحركات، فلا شيء أشوق إليه من ذلك؛ فإنها تجمع عليه قوى قلبه وإرادته، وتسد عليه الأبواب التي تفرق هَمَّه وتشتت قلبه؛ فيأنس بها ويستوحش من الخلق.

ثم يفتح له باب حلاوة العبادة بحيث لا يكاد يشبع منها، ويجد فيها من اللذة والراحة أضعاف ما كان يجده في لذة اللهو واللعب، ونيل الشهوات؛ بحيث إنه إذا دخل في الصلاة ودَّ أن لا يخرج منها. ثم يفتح له باب حلاوة استماع كلام الله؛ فلا يشبع منه. وإذا سمعه هدأ قلبه به كما يهدأ الصبي إذا أعطي ما هو شديد المحبة له. ثم يفتح له باب شهود عظمة الله المتكلم به وجلاله، وكمال نعوته وصفاته وحكمته، ومعاني خطابه، بحيث يستغرق قلبه في ذلك حتى يغيب فيه، ويحس بقلبه وقد دخل في عالم آخر غير ما الناس فيه.

ثم يفتح له باب الحياء من الله، وهو أول شواهد المعرفة، وهو نور يقع في القلب، يُريه ذلك النور أنه واقف بين يدى ربه عز وجل. فيستحيي منه في خلواته، وجلواته. ويرزق عند ذلك دوام المراقبة للرقيب، ودوام التطلع إلى حضرة العلي الأعلى، حتى كأنه يراه ويشاهده فوق سماواته، مستويًا على عرشه، ناظرًا إلى خلقه، سامعًا لأصواتهم، مشاهدًا لبواطنهم. فإذا استولى عليه هذا الشاهد غطى عليه كثيرًا من الهموم بالدنيا وما فيها؛ فهو في وجود والناس في وجود آخر؛ هو في وجود بين يدي ربه ووليه، ناظرًا إليه بقلبه، والناس في حجاب عالم الشهادة في الدنيا. فهو يراهم وهم لا يرونه، ولا يرون منه إلا ما يناسب عالمهم ووجودهم.

ثم يفتح له باب الشعور بمشهد القيومية، فيرى سائر التقلبات الكونية وتصاريف الوجود بيده سبحانه وحده؛ فيشهده مالكَ الضر والنفع، والخلق والرزق، والإحياء والإماتة؛ فيتخذه وحده وكيلا، ويرضى به ربًا ومدبرًا وكافيًا، وعند ذلك إذا وقع نظره على شيء من المخلوقات دله على خالقه وبارئه، وصفات كماله ونعوت جلاله. فلا يحجبه خلقه عنه سبحانه؛ بل يناديه كل من المخلوقات بلسان حاله: اسمع شهادتي لمن أحسن كل شيء خلقه؛ فأنا صنع الله الذي أتقن كل شيء »(43) ا.هـ.

خامسًا: سماع القرآن من قارئ حسن الصوت يخشى الله ويتقيه :

ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن من أحسن الناس صوتًا بالقرآن الذي إذا سمعته يقرأ رأيت أنه يخشى الله»(44).

وفي هذا تحريكٌ للقلوب وعونٌ على تدبر كتاب الله عز وجل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا على سماع القرآن من غيره ومحبًا له؛ فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ عليّ القرآن» قال: فقلت يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل. قال: «إني أشتهي أن أسمعه من غيري» فقرأت النساء حتى إذا بلغت (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً) (النساء:41) رفعت رأسي أو غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل»(45).

كما أن في اختيار الوقت لتلاوة القرآن أو سماعه معينًا على التدبر؛ كما جاء في قوله تعالى: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) (الإسراء: من الآية78)، كما أن قراءة القرآن في الصلاة ولا سيما صلاة الليل من أنفع الوسائل لتدبر كلام الله عز وجل كما في قوله تعالى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) (المزمل:4-6)، وقوله تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر:9).

سادسًا : تصحيح النية :

يجب تصحيح النية في قراءة القرآن، وابتغاء وجه الله عز وجل، ومحاسبة النفس على العمل بالقرآن، والدعوة إليه، والحكم به، والتحاكم إليه، والرضى بحكمه.

عن عثمان وابن مسعود وأُبي ابن كعب رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل؛ قالوا: فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً)(46).

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إذا سمعت الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) آمنوا فأصغ لها سمعك فإنه خير تؤمر به أو شر تصرف عن)(47).

وقال سفيان - رحمه الله -: (ليس في كتاب الله آية أشد عليّ من قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ) (المائدة: من الآية68)، وإقامتها: فهمها والعمل بها)(48).

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (أخوف ما أخاف أن يُقال لي يوم القيامة: يا عويمر، أعلمت أم جهلت؟ فإن قلت: علمت لا تبقى آية آمرة أو زاجرة إلا أخذت بفريضتها: الآمرة هل ائتمرت؟ والزاجرة هل ازدجرت؟ وأعوذ بالله من علم لا ينفع،ونفس لا تشبع، ودعاء لا يسمع)(49).

ويفيض الآجري - رحمه الله تعالى - في توضيح خضوع القلب لكلام الله عز وجل، وكيف تكون الاستجابة لداعي الله؟ وكيف يحاسب القارئ نفسه؟ وكيف يسألها سؤال المشفق الخاضع الذليل؟ فيقول عن قارئ القرآن: (يتصفح القرآن ليؤدب به نفسه. همَّته: متى أستغني بالله عن غيره؟ متى أكون من المتقين؟ متى أكون من الخاشعين؟ متى أكون من الصابرين؟ متى أكون من الصادقين؟ متى أكون من الخائفين؟ متى أكون من الراجين؟ متى أزهد في الدنيا؟ متى أرغب في الآخرة؟ متى أتوب من الذنوب؟ متى أعرف النعم المتواترة؟ متى أشكره عليها؟ متى أعقل عن الله الخطاب؟ متى أفقه ما أتلو؟ متى أغلب نفسي على ما تهوى؟ متى أجاهد في الله حق جهاده؟ متى أحفظ لساني؟ متى أغض طرفي؟ متى أحفظ فرجي؟ متى أستحي من الله حق الحياء؟ متى أشتغل بعيبي؟ متى أصلح ما فسد من أمري؟ متى أحاسب نفسي؟ متى أتزود ليوم معادي؟ متى أكون عن الله راضيًا؟ متى أكون بالله واثقًا؟ متى أكون بزجر القرآن متعظًا؟ متى أكون بذكره عن ذكر غيره مشتغلاً؟ متى أُحِبُّ ما أحَب؟ متى أُبغِض ما أبغَض؟ متى أنصح لله؟ متى أخلص له عملي؟ متى أقصر أملي؟ متى أتأهل ليوم موتي وقد غيب عني أجلي؟ متى أعمّر قبري؟ متى أفكر في الموت وشدته؟ متى أفكر في خلوتي مع ربي؟ متى أفكر في المنقلب؟ متى أحذر مما حذرني منه ربي؟ متى ...)(50).

ويقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «فإذا قرأه بتفكر حتى إذا مر بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه، كررها ولو مائة مرة ولو ليلة؛ فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان، وذوق حلاة القرآن »(51).

إن الصحابة - رضوان الله عليهم - «لم يكونوا يقرؤون القرآن بقصد الثقافة والاطلاع، ولا بقصد التذوق والمتاع؛ لم يكن أحدهم يتلقى القرآن ليستكثر به من زاد الثقافة لمجرد الثقافة، ولا ليضيف إلى حصيلته من القضايا العلمية والفقهية محصولاً يملأ به جعبته، إنما كان يتلقى القرآن ليتلقى أمر الله في خاصة شأنه، وشأن الجماعة التي يعيش فيها،وشأن الحياة التي يحياها هو وجماعته؛ يتلقى الأمر ليعمل به فور سماعه، كما يتلقى الجندي في الميدان الأمر اليومي ليعمل به فور تلقيه ... إن هذا القرآن لم يجئ ليكون كتاب متاع عقلي، ولا كتاب أدب وفن، ولا كتاب قصة وتاريخ - وإن كان هذا كله من محتوياته - إنما جاء ليكون منهج حياة »(52).

نماذج من تدبر السلف لكلام الله عز وجل وخشوعهم عند سماعه أو تلاوته:

عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: (أتيت الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء)(53). وقد مر بنا فيما سبق بعضٌ من خشوعه صلى الله عليه وسلم وبكائه لقراءة القرآن.

وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: «لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه قيل له في الصلاة، قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، فقالت عائشة رضي الله عنها: إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ القرآن غلبه البكاء. فقال: (مروه فليصل)، وفي رواية عن عائشة رضي الله عنها قالت: «إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء»(54).

كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يمر بالآية في ورده بالليل فتخنقه فيبقى في البيت أيامًا ويعاد ويحسبونه مريضًا، وكان في وجهه رضي الله عنه خطان أسودان من البكاء(55).

عن ابن أبي أبزى قال: (صليت خلف عمر رضي الله عنه فقرأ سورة يوسف حتى (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) (يوسف: من الآية84) فوقع عليه البكاء فركع)(56).

قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إذا وقعت في (آل حم) فقد وقعت في روضات أتأنق فيهن)(57).

وكان ابن عمر رضي الله عنه: إذا قرأ: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) (الحديد: من الآية16) بكى حتى يغلبه البكاء(58).

وعن المسيب بن رافع، عن عبدالله بن مسعود قال: (ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس فرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلُطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون. وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً محزونًا حليمًا حكيمًا سِكِّيِتًا. ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافيًا ولا غافلاً ولا سخابًا ولا صيَّاحًا ولا حديدًا)(59).

وعن عباد بن حمزة - رحمه الله تعالى - قال: (دخلت على أسماء رضي الله عنها وهي تقرأ (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ) (الطور:27)؛ فوقفت عندها فجعلت تعيدها وتدعو، فطال عليّ ذلك فذهبت إلى السوق فقضيت حاجتي، ثم رجعت وهي تعيدها وتدعو)(60).

قال ابن أبي مليكة - رحمه الله -: (سافرت مع ابن عباس رضي الله عنه من مكة إلى المدينة فكان يقوم نصف الليل فيقرأ القرآن حرفًا حرفًا ثم يبكي حتى تسمع له نشيجًا)(61).

وقالت أم ولد الحسن البصري - رحمه الله -: (رأيته فتح المصحف فرأيت عينيه تسيلان وشفتاه لا تتحركان).

ويقـول إسحـاق بـن إبراهيـم الطبـري عن الفضيل بن عياض - رحمه الله -: (كانت قراءته حزينة شهية بطيئة مترسلة؛ كأنه يخاطب إنسانًا، وكان إذا مر بآية فيها ذكر الجنة يردد فيها ويسأل)(62).

وقال أحمد بن أبي الحواري - رحمه الله -: (إني لأقرأ القرآن وانظر في آية فيُحيَّر عقلي بها، وأعجب من حفاظ القرآن؛ كيف يهنيهم النوم ويسعهم أن يشتغلوا بشيء من الدنيا وهم يتلون كلام الله(63).

وقال أحمد الدورقي: (حدثنا يحيى بن الفضل الأنبسي، سمعت بعض من يذكر عن محمد بن المنكدر أنه بينما هو ذات ليلة قائم يصلي إذ استبكى فكثر بكاؤه حتى فزع له أهله وسألوه فاستعجم عليهم وتمادى في البكاء؛ فأرسلو إلى أبي حازم فجاء إليه فقال: ما الذي أبكاك؟ قال: مرت بي آية قال: ما هي؟ قال: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) (الزمر: من الآية47)؛ فبكى أبو حازم معه فاشتد بكاؤهما)(64).

وعن عبد الرحمن الأسدي قال: (قلت لسعيد بن عبد العزيز: ما هذا البكاء الذي يعرض لك في الصلاة؟ فقال: يا ابن أخي وما سؤالك عن ذلك؟ قلت: لعل الله أن ينفعني به. فقال: ما قمت إلى الصلاة إلا مثلت لي جهنم)(65).

وقال محمد بن كعب - رحمه الله تعالى -: (لأن أقرأ (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا) (الزلزلة:1) و (الْقَارِعَةُ) (القارعة:1) أرددهما وأتفكر فيهما أحب من أن أبيت أهذ القرآن)(66).

وردد الحسن البصري - رحمه الله تعالى – ليلة (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) (النحل: من الآية18) حتى أصبح، فقيل له في ذلك. فقال: إن فيها معتبرًا؛ ما نرفع طرفًا ولا نرده إلا وقع على نعمة، وما لا نعلمه من نعم الله أكثر)(67).

 

_____________

(1) «مفتاح دار السعادة»: (1/189-191).
(2) سبق تخريجه: (ص 31).

(3) «الجواب الكافي»: (212، 213) باختصار.

(4) قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل: (ص 10).

(5) «مفتاح دار السعادة»: (1/191).

(6) رواه مسلم: (55).

(7) «التبيان في آداب حملة القرآن»: (ص 113).

(8) «مفتاح مدار السعادة»: (1/193).

(9) «البرهان»: (2/160).

(10) انظر «مدارج السالكين»: (3/17).

(11) «التبيان في آداب حملة القرآن»: (ص 28).

(12) «تفسير السعدي»: (4/287، 288).

(13) «مدارج السالكين»: (1/451-453).

(14) «تفسير السعدي»: (5/34).

(15) «في ظلال القرآن»: (6/3297).

(16) «تفسير السعدي»: (5/133).

(17) حادث السجود صحيح سندًا ومتنًا. انظر البخاري: (الحديث رقم 4862)، وهذا هو الأصل في قبول الرواية أما الوجدان فليس أصلاً في التصحيح والتضعيف، وإنما هو وسيلة من وسائل زيادة اليقين بعد ثبوت النص.

(18) «في ظلال القرآن»: (6/3420، 3421).

(19) «مقدمة في التفسير»: (ص 27، 28)، ت/ عدنان زرزور.

(20) «الموافقات»: (2/200، 201).

(21) «الصواعق المرسلة»: (1/330-332)، ت/ علي الدخيل الله.

(22) «الصواعق المرسلة»: (2/737، 738).

(23) «زاد المعاد»: (3/231).

(24) «شفاء العليل»: (1/112، 113)، ت/ مصطفى الشلبي.

(25) وسيأتي جواب (من) الشرطية في الصفحة اللاحقة.

(26) البخاري: الحديث الأول فيه.

(27) البخاري: في مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر، ومسلم: (633).

(28) البخاري: في الزكاة، باب وجوب الزكاة، ومسلم: (19).

(29) البخاري: في الصوم باب الصيام لمن خاف على نفسه ...، ومسلم: (400).

(30) هذا جواب (من) الشرطية التي سبقت في أول النقل.

(31) «الحجة البالغة»: (ص 4-6) باختصار.

(32) «مفتاح دار السعادة»: (1/314، 315).

(33) انظر «مقدمة في أصول التفسير»: (ص 95).

(34) «في ظلال القرآن»: (5/2836).

(35) «الموافقات»: (4/806).

(36) التدبر الأمثل لكتاب الله: (ص 53، 54) باختصار.

(37) انظر إلى كلام الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية.

(38) «الفوائد»: (ص 3).

(39) قال الحداد في تخريج إحياء علوم الدين: (369): قال ابن السبكي: (6/294) لم
أجد له إسنادًا.
(40) مجموع الفتاوى: (17/139).

(41) «منهاج القاصدين»: (ص 53، 54) باختصار، ت/ شعيب وعبدالقادر الأرناؤوط.

(42) «الجواب الكافي»: (ص 127-130) باختصار.

(43) «مدارج السالكين»: (3/379، 380).

(44) رواه ابن ماجه برقم (1339)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه: (1101).

(45) البخاري: (4582)، ومسلم: (800) واللفظ لمسلم.

(46) «الجامع لأحكام القرآن»: (1/39).

(47) «زاد المعاد»: (1/340).

(48) كتاب «البدع والحوادث»: (ص 101).

(49) «حلية الأولياء»: (1/213).

(50) «أخلاق حملة القرآن»: (ص 40).

(51) «مفتاح دار السعادة»: (ص 402).

(52) «معالم في الطريق»: (ص 14، 15).

(53) أبو داود: (904)، والترمذي في الشمائل وهو حديث صحيح: (315).

(54) البخاري في الصلاة، باب حد المريض أن يشهد الصلاة، ومسلم: (418).

(55) «الجواب الكافي»: (ص 25).

(56) «بدائع الفوائد»: (3/606).

(57) تفسير ابن كثير: (4/69).

(58) «نزهة العقلاء»: (2/367).

(59) «صفة الصفوة»: (1/413).

(60) «مختصر قيام الليل»: (ص 149).

(61) «مختصر قيام الليل»: (ص 131).

(62) «نزهة الفضلاء» «تهذيب سير أعلام النبلاء»: (2/662).

(63) «لطائف المعارف»: (ص 203).

(64) «نزهة الفضلاء»: (2/607).

(65) «نزهة الفضلاء»: (2/723).

(66) «الزهد» لابن المبارك: (ص 97).

(67) «مختصر قيام الليل»: (ص 151).


 

الفصل الثاني

التفكر في آيات الله عز وجل المشهودة في الآفاق

يقول الله عز وجل: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت:53).

ويقول سبحانه: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران:190، 191).

ويقول الله عز وجل: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ) (الذريات:20).

وقد مر بنا مجموعة من الآيات التي يحث الله سبحانه فيها على التفكر والتبصر في آيات الله المشهودة في آفاق هذا الكون الفسيح، فليرجع إليها في باب (ما ورد في الكتاب والسنة في فضل التفكر والحث عليه).

وكم هي الآيات العظيمة التي نشاهدها في الآفاق، وعظيم صنع الله عز وجل فيها، وإتقانه سبحانه في خلقها، ولكن تكرار ذلك أمام الحس والنظر جعلها مألوفة، وتعطل، أو قل التفكير والتأمل في كونها آيات عظيمة توقظ الحس، وتملأ القلب رهبة وتعظيمًا لخالقها سبحانه. ولكن ما أن ينتقل العبد بفكره من إلف العادة والتكرار إلى التفكير في هذه الآيات العظيمة، والمعجزات الباهرة حتى يكون له شأن آخر في تعامله مع هذه الآيات، وما تثمر في القلب من تعظيم ومحبة وإجلال وتعظيم وخشوع لخالقها سبحانه وتعالى.

يقول ابن الجوزي - رحمه الله تعالى -: «عَرَضَ لي في طريق الحجِّ خوفٌ من العرب، فسِرْنا على طريق خَيْبَرَ، فرأيت من الجبال الهائلة والطُّرق العجيبة ما أذهلني، وزادت عَظَمَةُ الخالق عزَّ وجلَّ في صدري، فصار يعرض لي عند ذكر الطُّرُق نوع تعظيمٍ لا أجده عند ذكر غيرها.

فصحتُ بالنفس: ويحك! اعْبُري إلى البحر، وانظري إليه وإلى عجائبه بعين الفكر، تشاهدي أهوالاً هي أعظم من هذه.

ثم اخرجي إلى الكون والتفتي إليه؛ فإنَّك تريْنَهُ بالإضافة إلى السماوات والأفلاك كَذَرَّةٍ في فلاةٍ.

ثم جولي في الأفلاكِ، وطوفي حولَ العرشِ، وتلمَّحي ما في الجنان والنيران.

ثم اخرُجي عن الكُلِّ، والتفتي إليه؛ فإنك تشاهدين العالم في قَبْضَةِ القادر الذي لا تقفُ قدرتُهُ عند حدٍّ.

ثم التفتي إليكِ، فتلمَّحي بدايتكِ ونهايتك، وتفكري فيما قبل البداية، وليس إلاَّ العدمُ، وفيما بعد البلى، وليس إلاَّ الترابُ.

فكيفَ يأنسُ بهذا الوجودِ من نَظَرَ بعين فِكْرِهِ المبدأَ والمنتهى؟! وكيف يغفَلُ أربابُ القلوب عن ذكر هذا الإله العظيم؟!

بالله لو صحت النفوس عن سكر هواها لذابت من خوفه، أو لغابت في حبه؛ غير أنَّ الحسَّ غَلَبَ فَعَظُمَتْ قدرةُ الخالق عند رؤية جبل، وإن الفطْنَةَ لو تلمَّحت المعاني لدلت القدرة عليه أوفى من دليل الجبل»(1).

ويقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - في تفسيره للآيات التي في ختام سورة آل عمران: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... الآيات): «والقـرآن يوجـه القلـوب والأنظـار توجيهًا مكررًا مؤكـدًا إلى هـذا الكتاب المفتوح؛ الذي لا تفتأ صفحاته تقلب، فتتبدى في كل صفحة آيـة موحية، تستجيش فـي الفطـرة السليمة إحساسًا بالحق المستقر في صفحات هذا الكتاب، وفي تصميم هذا البناء،ورغبة في الاستجابة لخالق هذا الخلق، ومودعه هذا الحق، مع الحب له والخشية منه في ذات الأوان. وأولو الألباب؛ أولو الإدراك الصحيح يفتحون بصائرهم لاستقبال آيات الله الكونية، ولا يقيمون الحواجز، ولا يغلقون المنافذ بينهم وبين هذه الآيات. ويتوجهون إلى الله بقلوبهم قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، فتتفتح بصائرهم، وتشف مداركهم، وتتصل بحقيقة الكون التي أودعها الله إياه، وتدرك غاية وجوده، وعلة نشأته،وقوام فطرته بالإلهام الذي يصل بين القلب البشري ونواميس هذا الوجود.

ومشهد السماوات والأرض، ومشهد اختلاف الليل والنهار، لو فتحنا له بصائرنا وقلوبنا وإدراكنا، لو تلقيناه كمشهد جديد تتفتح عليه العيون أول مرة، لو استنقذنا حسنا من همود الإلف، وخمود التكرار لارتعشت له رؤانا، ولاهتزت له مشاعرنا، ولأحسسنا أن وراء ما فيه من تناسق لا بد من يد تنسق، ووراء ما فيه من نظام لا بد من حكيم يدبر، ووراء ما فيه من إحكام لا بد من ناموس لا يتخلف، وأن هذا كله لا يمكن أن يكون خداعًا، ولا يمكن أن يكون جزافًا، ولا يمكن أن يكون باطلاً.

ولا ينقص من اهتزازنا للمشهد الكوني الرائع أن نعرف أن الليل والنهار ظاهرتان ناشئتان من دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس، ولا أن تناسق السماوات والأرض مرتكز إلى «الجاذبية» أو غير الجاذبية؛ هذه فروض تصح أو لا تصح، وهي في كلتا الحالتين لا تقدم ولا تؤخر في استقبال هذه العجيبة الكونية، واستقبال النواميس الهائلة الدقيقة التي تحكمها وتحفظها. وهذه النواميس - أيًا كان اسمها عند الباحثين من بني الإنسان - هي آية القدرة، وآية الحق، في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار.

والسياق القرآني هنا يصور خطوات الحركة النفسية التي ينشئها استقبال مشهد السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار في مشاعر أولي الألباب تصويرًا دقيقًا، وهو في الوقت ذاته تصوير إيحائي، يلفت القلوب إلى المنهج الصحيح في التعامل مع الكون، وفي التخاطب معه بلغته، والتجاوب مع فطرته وحقيقته، والانطباع بإشاراته وإيحاءاته. ويجعل من كتاب الكون المفتوح كتاب «معرفة» للإنسان المؤمن الموصول بالله، وبما تبدعه يد الله.

وإنه يقرن ابتداء بين توجه القلب إلى ذكر الله وعبادته: «قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم» وبين التفكـر في خلق السمـاوات والأرض واختلاف الليـل والنهـار، فيسلك هذا التفكر مسلك العبادة، ويجعله جانبًا من مشهد الذكر، فيوحي بهذا الجمع بين الحركتين بحقيقتين هامتين.

الحقيقة الأولى: أن التفكر في خلق الله، والتدبر في كتاب الكون المفتوح، وتتبع يد الله المبدعة، وهي تحرك هذا الكون، وتقلب صفحات هذا الكتاب هو عبادة لله من صميم العبادة، وذكر لله من صميم الذكر. لو اتصلت العلوم الكونية التي تبحث في تصميم الكون، وفي نواميسه وسننه، وفي قواه ومدخراته، وفي أسراره وطاقاته؛ لو اتصلت هذه العلوم بتذكر خالق هذا الكون وذكره، والشعور بجلاله وفضله؛ لتحولت من فورها إلى عبادة لخالق هذا الكون وصلاة، ولاستقامت الحياة - بهذه العلوم - واتجهت إلى الله. ولكن الاتجاه المادي الكافر، يقطع ما بين الكون وخالقه، ويقطع ما بين العلوم والحقيقة الأزلية الأبدية؛ ومن هنا يتحول العلم - أجمل هبة من الله للإنسان - لعنة تطارد الإنسان، وتحيل حياته إلى جحيم منكرة، وإلى خواء روحي يطارد الإنسان كالمارد الجبار!

والحقيقة الثانية: أن آيات الله في الكون لا تتجلى على حقيقتها الموحية إلا للقلوب الذاكرة العابدة. وأن هؤلاء الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم - وهم يتفكرون في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار - هم الذين تتفتح لبصائرهم الحقائق الكبرى المنطوية في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، وهم الذين يتصلون من ورائها بالمنهج الإلهي الموصل إلى النجاة والخير والصلاح. فأما الذين يكتفون بظاهر من الحياة الدنيا، ويصلون إلى أسرار بعض القوى الكونية - بدون هذا الاتصال - فهم يدمرون الحياة ويدمرون أنفسهم بما يصلون إليه من هذه الأسرار، ويحولون حياتهم إلى جحيم نكد، وإلى قلق خانق. ثم ينتهون إلى غضب الله وعذابه في نهاية المطاف!

فهما أمران متلازمان، تعرضهما هذه الصورة التي يرسمها القرآن لأولي الألباب في لحظة الاستقبال، والاستجابة والاتصال.

إنها لحظة تمثل صفاء القلب، وشفافية الروح، وتفتح الإدراك، واستعداده للتلقي. كما تمثل الاستجابة والتأثر والانطباع.

إنها لحظة العبادة. وهي بهذا الوصف لحظة اتصال، ولحظة استقبال. فلا عجب أن يكون الاستعداد فيها لإدراك الآيات الكونية أكبر، وأن يكون مجرد التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، ملهمًا للحقيقة الكامنة منها، ولإدراك أنها لم تخلق عبثًا ولا باطلاً. ومن ثم تكون الحصيلة المباشرة للخطة الواصلة»(2).

ويقول في موطن آخر: «ومشاهد الكون وظواهره حاضرة أبدًا لا تغيب عن إنسان.ولكنها تفقد جدتها في نفوس الناس بطول الألفة، ويضعف إيقاعها على قلوب البشر بطول التكرار»(3).

ويقول ابن كثير - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ) (الذريات:20): «أي فيها من الآيات الدالة على عظمة خالقها وقدرته الباهرة، مما قد ذرأ فيها من صنوف النبات والحيوانات والمهاد والجبال والقفار والأنهار والبحار، واختلاف ألسنة الناس، وما جبلوا عليه من الإرادات والقوى، وما بينهم من التفاوت في العقول والفهوم والحركات والسعادة والشقاوة، وما في تركيبهم من الحكم في وضع كل عضو من أعضائهم في المحل الذي هو محتاج إليه فيه»(4).

ويعلق سيد قطب - رحمه الله تعالى - على هذه الآية فيقول: «هذه الأرض، هذا الكوكب المعد للحياة، المجهز لاستقبالها وحضانتها بكل خصائصه، على نحو يكاد يكون فريدًا في المعروف لنا في محيط هذا الكون الهائل، الحافل بالنجوم الثوابت والكواكب السيارة التي يبلغ عدد المعروف منها فقط - والمعروف نسبة لا تكاد تذكر في حقيقة الكون - مئات الملايين من المجرات التي تحوي الواحدة منها مئات الملايين من النجوم. والكواكب هي توابع هذه النجوم!

ومع هذه الأعداد التي لا تحصى فإن الأرض تكاد تنفرد باستعدادها لاستقبال هذا النوع من الحياة وحضانته. ولو اختلت خصيصة واحدة من خصائص الأرض الكثيرة جدًا لتعذر وجود هذا النوع من الحياة عليها ... وهذه الأقوات الكامنة في جوفها، والساربة في مجاربها، والسابحة في هوائها، والنابتة على سطحها، والقادمة إليها من الشمس ومن عوالم أخرى بعضها معروف وبعضها مجهول، ولكنها تتدفق وفق تدبير المشيئة المدبرة التي خلقت هذا المحضن لهذا النوع من الحياة، وجهزته بكل ما يلزم للأنواع الكثيرة التي لا تحصى، وتنوع مشاهد هذه الأرض ومناظرها، حيثما امتد الطرف، وحيثما تنقلب القدم. وعجائب هذه المشاهد التي لا تنفد من وهاد وبطاح، ووديان وجبال، وبحار وبحيرات،وأنهار وغدران، وقطع متجاورات، وجنات من أعناب، وزروع، ونخيل صنوان وغير صنوان، وكل مشهد من هذه المشاهد تتناوله يد الإبداع والتغيير الدائبة التي لا تفتر عن الإبداع والتغيير. ويمر به الإنسان وهو ممحل فإذا هو مشهد، ويمر به وهو ممرع فإذا هو مشهد آخر. ويراه وهو نبت خضر فإذا هو مشهد، ويراه إبان الحصاد حين يهيج ويصفر فإذا هو مشهد آخر. وهو هو لم ينتقل باعًا ولا ذراعًا في المكان!

والخلائق التي تعمر هذه الأرض من الأحياء؛ نباتًا وحيوانًا، وطيرًا وسمكًا، وزواحف وحشرات، بله الإنسان - فالقرآن يفرده بنص خاص - هذه الخلائق التي لم يعرف عدد أنواعها وأجناسها بعد - فضلاً على إحصاء أعدادها وأفرادها وهو مستحيل - وكل خليقة منها أمة! وكل فرد منها عجيبة؛ كل حيوان، كل طائر، كل زاحفة، كل حشرة، كل دودة، كل نبتة لا بل كل جناح في يرقة، وكل ورقة في زهرة، وكل قصبة في ورقة! في ذلك المعرض الإلهي العجيب الذي لا تنقضي عجائبه.

ولو مضى الإنسان - بل لو مضى الأناسي جميعًا - يتأملون هكذا ويشيرون مجرد إشارة إلى ما في الأرض من عجائب، وإلى ما تشير إليه هذه العجائب من آيات، ما انتهى لهم قول ولا إشارة.

والنص القرآني ما يزيد على أن يوقظ القلب البشري للتأمل والتدبر، واستجلاء العجائب في هذا المعرض الهائل، طوال الرحلة على هذا الكوكب؛ والمتعة بما في هذا الاستجلاء من مسرة طوال الرحلة.

غير أنه لا يدرك هذه العجائب، ولا يستمتع بالرحلة هذا المتاع، إلا القلب العامر باليقين. (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ) (الذريات:20).. فلمسة اليقين هي التي تحيي القلب فيرى ويدرك، وتحيي مشاهد الأرض فتنطق للقلب بأسرارها المكنونة، وتحدثه عما وراءها من تدبير وإبداع. وبدون هذه اللمسة تظل تلك المشاهد ميتة جامدة جوفاء؛ لا تنطلق للقلب بشيء، ولا تتجاوب معه بشيء. وكثيرون يمرون بالمعرض الإلهي المفتوح مغمضي العيون والقلوب؛ لا يحسون فيه حياة، ولا يفقهون له لغة؛ لأن لمسة اليقين لم تحي قلوبهم، ولم تبث الحياة فيما حولهم! وقد يكون منهم علماء (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (الروم: من الآية7). أما حقيقتها فتظل محجوبة عن قلوبهم، فالقلوب لا تفتح لحقيقة الوجود إلا بمفتاح الإيمان، ولا تراها إلا بنور اليقين وصدق الله العظيم»(5).

نماذج من آيات الله عز وجل في الآفاق والتي ورد الحث على التفكر والتبصر فيها:

يقول الله عز وجل: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة:164).

يعلق ابن كثير - رحمه الله تعالى - على هذه الآية بقوله: «يقول تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)؛ تلك في ارتفاعها واتساعها وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها، وهذه الأرض في انخفاضها وجبالها وبحارها وقفارها وَوِهادها وعُمْرانها وما فيها من المنافع. (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) هذا يجيء ثم يذهب ويخلفه الآخر ويعقبه، لا يتأخر عنه لحظة؛ كما قال تعالى: (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يّـس:40)، وتارة يطول هذا ويقصر هذا، وتارة يأخذ هذا من هذا ثم يتقارضان، كما قال تعالى: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) (فاطر: من الآية13) أي: يزيد من هذا في هذا، ومن هذا في هذا. (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ) أي: في تسخير البحر لحمل السفن من جانب إلى جانب لمعاش الناس، والانتفاع بما عند أهل ذلك الإقليم، ونقل هذا إلى هؤلاء، وما عند أولئك إلى هؤلاء. (وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)؛ كما قال تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) (يّـس:33-36). (وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) أي: على اختلاف أشكالها وألوانها ومنافعها وصغرها وكبرها، وهو يعلم ذلك كله ويرزقه لا يخفى عليه شيء من ذلك، كما قال تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (هود:6). (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ) أي: تارة تأتي بالرحمة، وتارة تأتي بالعذاب، وتارة تأتي مبشرة بين يدي السحاب، وتارة تسوقه، وتارة تجمعه، وتارة تفرقه، وتارة تصرفه. (وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ): يُسخّر إلى ما يشاء الله من الأراضي والأماكن، كما يصرفه تعالى. (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي: في هذه الأشياء دلالات بينة على وحدانية الله تعالى؛ كما قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران:190، 191)»(6).

ويعلق سيد قطب - رحمه الله تعالى - على هذه الآية بقوله: «وهذه الطريقة في تنبيه الحواس والمشاعر جديرة بأن تفتح العين والقلب على عجائب هذا الكون؛ العجائب التي تفقدنا الألفة جدتها وغرابتها وإيحاءاتها للقلب والحس، وهي دعوة للإنسان أن يرتاد هذا الكون كالذي يراه أول مرة مفتوح العين، متوفز الحس، حي القلب. وكم في هذه المشاهد المكرورة من عجيب، وكم فيها من غريب. وكم اختلجت العيون والقلوب وهي تطلع عليها أول مرة، ثم ألفتها ففقدت هزة المفاجأة، ودهشة المباغتة، وروعة النظرة الأولى إلى هذا المهرجان العجيب.

تلك السماوات والأرض. هذه الأبعاد الهائلة والأجرام الضخمة والآفاق المسحورة، والعوالم المجهولة. هذا التناسق في مواقعها وجريانها في ذلك الفضاء الهائل الذي يدير الرؤوس. هذه الأسرار التي توصوص للنفس وتلتف في رداء المجهول. هذه السماوات والأرض حتى دون أن يعرف الإنسان شيئًا عن حقيقة أبعادها وأحجامها وأسرارها التي يكشف الله للبشر عن بعضها حينما تنمو مداركهم وتسعفهم أبحاث العلوم. (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)؛ تعاقب النور والظلام، توالي الإشراق والعتمة؛ ذلك الفجر وذلك الغروب. كم اهتزت لها مشاعر، وكم وجفت لها قلوب، وكم كانت أعجوبة الأعاجيب. ثم فقد الإنسان وهلتها وروعتها مع التكرار. إلا القلب المؤمن الذي تتجدد في حسه هذه المشاهد؛ ويظل أبدًا يذكر يد الله فيها فيتلقاها في كل مرة بروعة الخلق الجديد.

(وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ). وأشهد ما أحسست ما في هذه اللفتة من عمق قدر ما أحسست ونقطة صغيرة في خضم المحيط تحملنا وتجري بنا، والموج المتلاطم والزرقة المطلقة من حولنا، والفلك سابحة متناثرة هنا وهناك. ولا شيء إلا قدرة الله، وإلا رعاية الله، وإلا قانون الكون الذي جعله الله، يحمل تلك النقطة الصغيرة على ثبج الأمواج وخضمها الرعيب!

(وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)؛ وكلها مشاهد لو أعاد الإنسان تأملها - كما يوحي القرآن للقلب المؤمن - بعين مفتوحة وقلب واع، لارتجف كيانه من عظمة القدرة ورحمتها. تلك الحياة التي تنبعث من الأرض حينما يجودها الماء. هذه الحياة المجهولة الكنه، اللطيفة الجوهر، التي تدب في لطف، ثم تتبدى جاهرة معلنة قوية. هذه الحياة من أين جاءت؟ كانت كامنة في الحبة والنواة! ولكن من أين جاءت إلى الحبة والنواة؟ أصلها؟ مصدرها الأول؟ إنه لا يجدي الهرب من مواجهة هذا السؤال الذي يلح على الفطرة. لقد حاول الملحدون تجاهل هذا السؤال الذي لا جواب عليه إلا وجود خالق قادر على إعطاء الحياة للموات. وحاولوا طويلاً أن يوهموا الناس أنهم في طريقهم إلى إنشاء الحياة - بلا حاجة إلى إله ! - ثم أخيرًا إذا هم في أرض الإلحاد الجاحد الكافر ينتهون إلى نفض أيديهم والإقرار بما يكرهون: استحالة خلق الحياة! وأعلم علماء روسيا الكافرة في موضوع الحياة هو الذي يقول هذا الآن! ومن قبل راغ دارون صاحب نظرية النشوء والارتقاء من مواجهة هذا السؤال!

ثم تلك الرياح المتحولة من وجهة إلى وجهة، وذلك السحاب المحمول على هواء، المسخر بين السماء والأرض، الخاضع للناموس الذي أودعه الخالق هذا الوجود. إنه لا يكفي أن تقول نظرية ما تقوله عن أسباب هبوب الريح، وعن طريقة تكون السحاب. إن السر الأعمق هو سر هذه الأسباب؛ سر خلقة الكون بهذه الطبيعة وبهذه الأوضاع التي تسمح بنشأة الحياة ونموها وتوفير الأسباب الملائمة لها من رياح وسحاب ومطر وتربة. سر هذه الموافقات التي يعد المعروف منها بالآلاف، والتي لو اختلت واحدة منها ما نشأت الحياة أو ما سارت هذه السيرة. سر التدبير الدقيق الذي يشي بالقصد والاختيار، كما يشي بوحدة التصميم ورحمة التدبير.

إن في ذلك (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).. نعم لو ألقى الإنسان عن عقله بلادة الألفة والغفلة، فاستقبل مشاهد الكون بحس متجدد، ونظرة مستطلعة، وقلب نوّره الإيمان. ولو سار في هذا الكون كالرائد الذي يهبط إليه أول مرة؛ تلفت عينه كل ومضة، وتلفت سمعه كل نأمة، وتلفت حسه كل حركة، وتهز كيانه تلك الأعاجيب التي ما تني تتوالى على الأبصار والقلوب والمشاعر ...)(7).

وبعد استعراض هذه الآيات الآفاقية في سورة البقرة يحسن بنا الدخول في تفصيل بعض هذه الآيات، والثمار العظيمة التي يتركها التفكر وإعمال العقل في تدبرها والتأمل فيها. وسأقتصر في هذه الآيات على ما سطرته يد الإمام الرباني ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتاب مفتاح دار السعادة؛ وذلك فيما يلي:

أولاً : من آيات الله عز وجل في خلق السماوات والأرض وما بينهما وما في الأرض:

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:

« فتأمل خلق السماوات، وارجع البصر فيها كرة بعد كرة تراها من أعظم الآيات في علوها وارتفاعها وسعتها وقرارها ... ولا عمد تحتها، ولا علاقة فوقها، بل هي ممسوكة بقدرة الله الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا. ثم تأمل استواءها واعتدالها فلا صدع فيها ولا فطر ولا شق ولا أمت ولا عوج. ثم تأمل ما وضعت عليه من هذا اللون الذي هو من أحسن الألوان وأشدها موافقه للبصر وتقوية له ...

.. ثم تأمّل حال الشمس والقمر في طلوعهما وغروبهما لإقامة دولتي الليل والنهار، ولولا طلوعهما لبطل أمر العالم، وكيف كان الناس يسعون في معائشهم ويتصرّفون في أمورهم والدنيا مظلمة عليهم؟ وكيف كانوا يتهنّون بالعيش مع فَقْد النور؟ ثم تأمّل الحكمة في غروبهما؛ فإنه لولا غروبهما لم يكن للناس هدوء ولا قرار، مع فَرْط الحاجة إلى السُّبات، وجموم الحواس، وانبعاث القِوى الباطنة وظهور سلطانها فـي النـوم المُعين على هضم الطعـام، وتنفيذ الغـذاء إلى الأعضاء. ثم لولا الغروب لكانت الأرض تحمى بدوام شروق الشمس واتّصال طلوعها حتى يحترق كلّ ما عليها من حيوان ونبات، فصارت تطلع وقتًا بمنزلة السّراج يُرفَع لأهل البيت ليقضوا حوائجهم، ثم تغيب عنهم مثل ذلك ليقّروا ويهدؤوا. وصار ضياء النهار مع ظلام الليل وحرّ هذا مع برد هذا مع تضادّهما متعاونين متظاهرين؛ بهما تمام مصالح العالم. وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى ونبّه عباده عليه بقوله عزّ وجلّ: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (القصص:71، 72). خص سبحانه النهار بذكر البصر لأنه محلّه وفيه سلطان البصر وتصرفه. وخصّ الليل بذكر السّمع لأن سلطان السمع يكون بالليل وتسمع فيه الحيوانات ما لا تسمع في النهار؛ لأنه وقت هدوء الأصوات، وخمود الحركات، وقوة سلطان السّمع وضعف سلطان البصر. والنهار بالعكس فيه قوة سلطان البصر وضعف سلطان السمع، فقوله: (أَفَلا تَسْمَعُونَ) راجع إلى قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ) (القصص: من الآية71)، وقوله: (أَفَلا تُبْصِرُونَ) راجع إلى قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) (القصص: من الآية72)، وقال تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً) (الفرقان:61، 62). فذكر تعالى خلق الليل والنهار، وأنهما خِلفة؛ أي يخلف أحدهما الآخر، لا يجتمع معه، ولو اجتمع معه لفاتت المصلحة بتعاقبهما واختلافهما ...

.. ثم تأمّل الحكمة في طلوع الشمس على العالم كيف قدّره العزيز العليم سبحانه؛ فإنها لو كانت تطلع في موضع من السماء فتقف فيه ولا تعدوه لما وصل شعاعها إلى كثير من الجهات؛ لأن ظلّ أحد جوانب كرة الأرض يحجبها عن الجانب الآخر، وكان يكون الليل دائمًا سرمدًا على مَن لم تطلع عليهم، والنهار سرمدًا على مَن هي طالعة عليهم، فيفسد هؤلاء وهؤلاء، فاقتضت الحكمة الإلهية والعناية الربّانية أن قدّر طلوعها من أول النهار من المشرق؛ فتشرق على ما قابلها من الأُفق الغربي ثم لا تزال تدور وتغشى جهة بعد جهة حتى تنتهي إلى المغرب، فتشرق على ما استتر عنها في أول النهار فيختلف عندهم الليل والنهار فتنتظم مصالحهم.

.. ثم تأمّل الحكمة من مقادير الليل والنهار تجدها على غاية المصلحة والحكمة، وأن مقدار اليوم والليلة لو زاد على ما قُدّر عليه أو نقص لفاتت المصلحة واختلفت الحكمة بذلك، بل جعل مكيالها أربعة وعشرين ساعة، وجعلا يتقارضان الزيادة والنقصان بينهما؛ فما يزيد في أحدهما من الآخر يعود الآخر فيستردّه منه؛ قال الله تعالى: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) (الحديد: من الآية6).

وفيه قولان: أحدهما أن المعنى يدخل ظلمة هذا في مكان ضياء ذلك، وضياء هذا في مكان ظلمة الآخر، فيدخل كل واحد منهما في موضع صاحبه. وعلى هذا فهي عامّة في كل ليل ونهار.

والقول الثاني أنه يزيد في أحدهما ما ينقصه من الآخر؛ فما ينقص منه يلج في الآخر لا يذهب جملةً. وعلى هذا فالآية خاصّة ببعض ساعات كلً من الليل والنهار في غير زمن الاعتدال، فهي خاصّة في الزمان وفي مقدار ما يلج في أحدهما من الآخر.

.. ثم تأمّل حكمته تبارك وتعالى في هذه النجوم وكثرتها وعجيب خلقها وأنها زينة للسماء، وأدلّة يهتدى بها في طرق البرّ والبحر وما جعل فيها من الضوء والنور بحيث يمكننا رؤيتها مع البُعد المُفرِط، ولولا ذلك لم يحصل لنا الاهتداء والدلالة ومعرفة المواقيت. ثم تأمّل تسخيرها منقادة بأمر ربّها تبارك وتعالى، جارية على سنن واحد اقتضت حكمته وعلمه أن لا تخرج عنه، فجعل منها البروج والمنازل والثوابت والسيارة والكبار والصغار والمتوسط والأبيض الأزهر والأبيض الأحمر، ومنها ما يخفى على الناظر فلا يدركه. وجعل منطقة البروج قسمين: مرتفعة ومنخفضة، وقدّر سيرها تقديرًا واحدًا، ونزل الشمس والقمر والسيّارات منها منازلها، فمنها ما يقطعها في شهر واحد وهو القمر، ومنها ما يقطعها في عام، ومنها ما يقطعها في عدّة أعوام، كلّ ذلك موجب الحكمة والعناية. وجعل ذلك أسبابًا لما يحدثه سبحانه في هذا العالم فيستدلّ بها الناس على تلك الحوادث التي تقارنها؛ كمعرفتهم بما يكون مع طلوع الثريا إذا طلعت وغروبها إذا سقطت من الحوادث التي تقارنها، وكذلك غيرها من المنازل والسيّارات.

ثم تأمّل جعله سبحانه بنات نعش وما قرب منها ظاهرة لا تغيب لقربها من المركز، ولما في ذلك من الحكمة الإلهية وأنها بمنزلة الأعلام التي يهتدي بها الناس في الطرق المجهولة في البرّ والبحر؛ فهم ينظرون إليها وإلى الجدي والفرقدين كل وقت أرادوا فيهتدون بها حيث شاؤوا ...

.. ثم تأمّل اختلاف سير الكواكب وما فيه من العجائب كيف تجد بعضها لا يسير إلا مع رفقته ولا يفرد عنهم سيره أبدًا، بل لا يسيرون إلاَّ جميعًا، وبعضها يسير سيرًا مطلقًا غير مقيّد برفيق ولا صاحب، بل إذا اتفق له مصاحبته في منزل وافقه فيه ليلة وفارقه الليلة الأخرى؛ فبينا تراه ورفيقه وقرينه، إذ رأيتهما مفترقين متباعدين كأنهما لم يتصاحبا قطّ. وهذه السيّارة لها في سيرها سيران مختلفان غاية الاختلاف؛ سير عام يسير بها فلكها، وسير خاص تسير هي في فلكها. كما شبّهوا ذلك بنملة تدبّ على رحى ذات الشمال والرحى تأخذ ذات اليمين، فللنملة في ذلك حركتان مختلفتان إلى جهتين متباينتين إحداهما بنفسها والأخرى مُكرَهَة عليها تبعًا للرحى تجذبها إلى غير جهة مقصدها، وبذلك يجعل التقديم فيها كل منزلة إلى جهة الشرق، ثم يسير فلكها وبمنزلتها إلى جهة الغرب، فسل الزنادقة والمعطّلة أيّ طبيعة اقتضت هذا؟ وأيّ فلك أوجبه؟ وهلا كانت كلها راتبة أو متنقلة أو على مقدار واحد، وشكل واحد، وحركة واحدة، وجريان واحد؟ وهل هذا إلاَّ صنع مَن بهرت العقول حكمته، وشهدت مصنوعاته ومبتدعاته بأنه الخالق البارئ المصّور الذي ليس كمثله شيء؟ أحسن كل شيء خلقه، وأتقن كل ما صنعه، وأنه العليم الحكيم الذي خلق فسوّى وقدّر فهدى، وأن هذه إحدى آياته الدالّة عليه ...

.. ثم تأمّل المُمِسك للسماوات والأرض، الحافظ لهما أن تزولا، أو تقعا أو يتعطّل بعض ما فيهما. أفترى مَنْ المُمِسك لذلك؟ ومن القَيّم بأمره؟ ومن المقيم له؟ فلو تعطّل بعض آلات هذا الدولاب العظيم والحديقة من كان يُصلِحه؟ وماذا كان عند الخلق كلهم من الحيلة في ردّه كما كان؟ فلو أمسك عنهم قيّم السماوات والأرض الشمس فجعل عليهم الليـل سرمـدًا من الذي كان يطلعها عليهم ويأتيهم بالنهار؟ ولو حبسها في الأفق ولم يسيّرها فمَن ذا الذي كان يسيّرها ويأتيهم بالليل؟ ولو أن السماء والأرض زالتا فمَن ذا الذي كان يمسكهما من بعده؟

.. ثم تأمّل هذا الهواء وما فيه من المصالح؛ فإنه حياة الأبدان، والمُمِسك لها من داخل بما تستنشق منه، ومن خارج بما تباشر به من روحه فتتغذّى به ظاهرًا وباطنًا، وفيه تطّرد هذه الأصوات فتحملها وتؤدّيها للقريب والبعيد كالبريد والرسول الذي شأنه حمل الأخبار والرسائل. وهو الحامل لهذه الروائح على اختلافها ينقلها من موضع إلى موضع فتأتي العبد الرائحة من حيث تهبّ الريح، وكذلك تأتيه الأصوات. وهو أيضًا الحامل للحرّ والبرد اللذين بهما صلاح الحيوان والنبات.

وتأمّل منفعة الريح وما يجري لها في البرّ والبحر وما هُيِّئت له من الرحمة والعذاب.

وتأمّل كم سخر للسحاب من ريح حتى أمطر فسُخرت له المُثيرة أولاً فتُثيره بين السماء والأرض، ثم سُخرت له الحاملة التي تحمله على متنها كالجمل الذي يحمل الرواية، ثم سُخرت له المؤلّفة فتؤلّف بين كسفه وقطعه، ثم يجتمع بعضها إلى بعض فيصير طبقًا واحدًا، ثم سُخّرت له اللاقحة بمنزلة الذّكر الذي يلقح الأُنثى فتلقحه بالماء ولولاها لكان جهامًا لا ماء فيه، ثم سُخّرت له المزجية التي تزجيه وتسوقه إلى حيث أُمِرَ فيُفرِغ ماءه هنالك، ثم سُخّرت له بعد إعصاره المفرِّقة التي تبثُّه وتفرِّقه في الجوّ فلا ينزل مجتمعًا، ولو نزل جملةً لأهلك المساكن والحيوان والنبات، بل تفرقه فتجعله قطرًا. وكذلك الرياح التي تلقح الشجر والنبات ولولاها لكانت عقيمًا، وكذلك الرياح التي تسيّر السفن ولولاها لوقفت على ظهر البحر.

ومن منافعها أنها تبرِّد الماء، وتضرم النار التي يُراد إضرامها، وتجفّف الأشياء التي يحتاج إلى جفافها. وبالجملة فحياة ما على الأرض من نبات وحيوان بالرياح؛ فإنه لولا تسخير الله لها لعباده لذوى النبات، ومات الحيوان، وفسدت المطاعم، وأنتن العالم وفسد؛ ألا ترى إذا ركدت الرياح كيف يحدث الكرب والغمُّ الذي لو دام لأتلف النفوس، وأسقم الحيوان، وأمرض الأصحَّاء، وأنهك المرضى، وأفسد الثمار، وعفن الزرع، وأحدث الوباء في الجو. فسبحان من جعل هبوب الرياح تأتي بروحه ورحمته ولطفه ونعمته ...

.. وإذا نظرت إلى الأرض وكيف خُلِقَتْ رأيتها من أعظم آيات فاطِرها وبديعها. خلقها سبحانه فراشًا ومِهادًا، وذلّلها لعباده وجعل فيها أرزاقهم وأقواتهم ومعايشهم، وجعل فيها السُّبُل لينتقلوا فيها في حوائجهم وتصرفاتهم، وأرساها بالجبال فجعلها أوتادًا تحفظها لئلا تميد بهم، ووسّع أكنافها، ودحاها فمدّها وبسطها، وطحاها فوسّعها من جوانبها، وجعلها كفاتًا للأحياء تضمّهم على ظهرها ما داموا أحياءً، وكفاتًا للأموات تضمّهم في بطنها إذا ماتوا؛ فظهرها وطن للأحياء وبطنها وطن للأموات، وقد أكثر تعالى من ذكر الأرض في كتابه ودعا عباده إلى النظر إليها والتفكّر في خلقها فقال تعالى: (وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ) (الذريات:48)، (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً) (غافر: من الآية64)، (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً) (البقرة: من الآية22)، (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (الغاشية:17-20)، (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الجاثـية:3)، وهذا كثير في القرآن فانظر إليها وهي ميتة هامدة خاشعة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزّت فتحرَّكت ورَبَت فارتفعت، واخضرَّت وأنبتت من كل زوج بهيج، فأخرجت عجائب النبات في المنظر والمخبر، بهيج للناظرين كريم للمتناولين، فأخرجت الأقوات على اختلافها وتباين مقاديرها وأشكالها وألوانها ومنافعها، والفواكه والثمار، وأنواع الأدوية، ومراعي الدواب والطير.

 

ثم انظر قطعها المتجاورات وكيف ينزل عليها ماءً واحدًا فتنبت الأزواج المختلفة المتباينة في اللون والشكل والرائحة والطعم والمنفعة، واللقاح واحد والأُم واحدة كما قال تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الرعد:4). فكيف كانت هذه الأجنّة المختلفة مودعة في بطن هذه الأمّ؟ وكيف كان حملها من لقاح واحد؟ صنع الله الذي أتقن كل شيء لا إله إلاّ هو. ولولا أن هذا من أعظم آياته لما نبَّه عليه عباده وهداهم إلى التفكير فيه؛ قال الله تعالى: (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (الحج:5-7). فجعل النظر في هذه الآية وما قبلها من خلق الجنين دليلاً على هذه النتائج الخمس مستلزمًا للعلم بها.

.. ثم تأمّل الحكمة العجيبة في الجبال التي يحسبها الجاهل الغافل فضلة في الأرض لا حاجة إليها؛ وفيها من المنافع ما لا يحصيه إلاّ خالقها وناصبها. وفي حديث إسلام ضمام بن ثعلبة قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: بالذي نصب الجبال وأودع فيها المنافع آلله أمرك بكذا وكذا؟ قال: «اللّهمّ نعم»(8).

فمن منافعها أن الثلج يسقط عليها فيبقى في قللها حاصلاً لشراب الناس إلى حين نفاذه، وجعل فيها ليذوب أولاً فأولاً، فتجيء منه السيول الغزيرة وتسيل منه الأنهار والأودية، فينبت في المروج والوِهاد والرُّبا ضروب النبات والفواكه والأدوية التي لا يكون مثلها في السهل والرمل، فلولا الجبال لسقط الثلج على وجه الأرض فانحلّ جملةً وساح دفعةً فعَدِمَ وقت الحاجة إليه، وكان في انحلاله جملة السيول التي تهلك ما مرّت عليه فيضرّ بالناس ضررًا لا يمكن تلافيه ولا دفعة لأذيّته.

ومن منافعها ما يكون في حصونها وقللها من المغارات والكهوف والمعاقل التي بمنزلة الحصون والقِلاع وهي أيضًا أكنان للناس والحيوان.

ومن منافعها ما ينحت من أحجارها للأبنية على اختلاف أصنافها والأرحية وغيرها.

ومن منافعها ما يوجد فيها من المعادن على اختلاف أصنافها من الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والزبرجد والزمرّد وأضعاف ذلك من أنواع المعادن التي يعجز البشر عن معرفتها.

... ومن منافعها أنها تكون حصونًا من الأعداء يتحرّز فيها عباد الله من أعدائهم كما يحصّنون بالقِلاع، بل تكون أبلغ وأحصن من كثيرٍ من القِلاع والمدن

ومن منافعها ما ذكره الله تعالى في كتابه أن جعلها للأرض أوتادًا تثبّتها ورواسي بمنزلة مراسي السفن، وأعظم بها من منفعة وحكمة.

هذا وإذا تأمّلت خلقتها العجيبة البديعة على هذا الوضع وجدتها في غاية المطابقة للحكمة؛ فإنها لو طالت واستدقّت كالحائط لتعذّر الصعود عليها، والانتفاع بها، وسترت عن الناس الشمس والهواء فلم يتمكّنوا من الانتفاع بها، ولو بسطت على وجه الأرض لضيّقت عليهم المزارع والمساكن ولملأت السهل، ولما حصل لهم بها الانتفاع من التحصّن والمغارات والأكنان، ولما سترت عنهم الرياح ولما حجبت السيول، ولو جُعِلَت مستديرة شكل الكرة لم يتمكّنوا من صعودها ولما حصل لهم بها الانتفاع التامّ. فكان أولى الأشكال والأوضاع بها وأليقها وأوقعها على وفق المصلحة هذا الشكل الذي نُصِبَت عليه. ولقد دعانا الله سبحانه في كتابه إلى النظر فيها وفي كيفية خلقها فقال: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) (الغاشية:17-19)، فخلقها ومنافعها من أكبر الشواهد على قدرة بارِيها وفاطِرها وعلمه وحكمته ووحدانيته؛ هذا مع أنها تسبِّح بحمده وتخشع له وتسجد وتشقق وتهبط من خشيته ..

هذا وإنها لتعلم أن لها موعدًا ويومًا تنسف فيها نسفًا، وتصير كالعهن من هوله وعظمه؛ فهي مشفقة من هول ذلك الموعد منتظرة له. وكانت أُم الدرداء رضي الله عنها إذا سافرت فصعدت على جبل تقول لِمَن معها: أسَمِعَتْ الجبال ما وعدها ربّها؟ فيُقال: ما أسمعها؟ فتقول: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً) (طـه:105-107)، فهذا حال الجبال وهي الحجارة الصلبة، وهذه رقَّتها وخشيتها، وتدكدكها من جلال ربِّها وعظمته، وقد أخبر عنها فاطِرها وباريِها أنه لو أنزل عليها كلامه لخشعت ولتصدّعت من خشية الله. فيا عجبًا من مضغة لحم أقسى من هذه الجبال تسمع آيات الله تُتلى عليها، ويُذكر الرب تبارك وتعالى فلا تلين ولا تخشع ولا تُنيب، فليس بمستنكر على الله عزّ وجلّ ولا يخالف حكمته أن يخلق لها نارًا تُذيبها إذا لم تَلِن بكلامه وذكره وزواجره ومواعظه؛ فمَن لم يَلِن لله في هذه الدار قلبه، ولم ينب إليه ولم يذبه بحبه والبكاء من خشيته، فليتمتّع قليلاً فإن أمامه المليّن الأعظم وسيردّ إلى عالم الغيب والشهادة فيرى ويعلم ...

.. ثم تأمّل الحكمة الإلهية في إخراج الأقوات والثمار والحبوب والفواكه متلاحقة شيئًا بعد شيء، متتابعة ولم يخلقها كلها جملةً واحدةً، فإنها لو خُلِقَت كذلك على وجه الأرض ولم تكن تنبت على هذه السوق والأغصان لدخل الخلل، وفاتت المصالح التي رُتبت على تلاحقها وتتابعها؛ فإن كل فصل وأوان يقتضي من الفواكه والنبات غير ما يقتضيه الفصل الآخر، فهذا حار وهذا بارد، وهذا معتدل؛ وكلٌّ في فصله موافق للمصلحة لا يليق به غير ما خلق فيه. ثم إنه سبحانه خلق تلك الأقوات مقارنة لمنافع أُخَر من العصف والخشب والورق والنور والسعف والكرب وغيرها من منافع النبات والشجر غير الأقوات؛ كعلف البهائم وأداة الأبنية والسفن والرِّحال والأواني وغيرها ...

فسَلْ الجاحد مَن أعطاها هذا ومن هداها إليه ووضعه فيها؟ فلو اجتمع الأوَّلون والآخرون هل كانت قدرتهم وإرادتهم تصل إلى تربية ثمرة واحدة منها هكذا بإشارة أو صناعة أو حيلة أو مُزاولة؟ وهل ذلك إلاّ من صنع من شهدت له مصنوعاته ودلّت عليه آياته؟ كما قيل:

فواعجبا كيف يعصى الإله        أم كيف يجحده الجاحد

ولله في كل تحريكة                وتسكينة أبدًا شاهـد

وفي كل شي له آية               تدلّ على أنه واحــد

... ثم تأمّل الحكمة في الحبوب كالبرِّ والشعير ونحوهما؛ كيف يخرج الحب مدرجا في قشور على رؤوسها أمثال الأسنّة، فلا يتمكّن جند الطير من إفسادها والعبث فيها؛ فإنه لو صادف الحبّ بارزًا لا صوان عليه ولا وقاية تَحُولُ دونه لتمكّن منه كل التمكّن، فأفسد وعاب وعاث، وأكبّ عليه أكلاً ما استطاع، وعجز أرباب الزرع عن ردّه. فجعل اللطيف الخبير عليه هذه الوقايات لتصونه فينال الطير منه مقدار قوته، ويبقى أكثره للإنسان؛ فإنه أولى به لأنه هو الذي كدح فيه وشقي به وكان الذي يحتاج إليه أضعاف حاجة الطير ...

.. ثم تأمّل هذه النخلة - التي هي إحدى آيات الله - تجد فيها من الآيات والعجائب ما يبهرك؛ فإنه لمّا قدَّر أن يكون فيها إناث تحتاج إلى اللقاح جُعِلَت فيها ذكورٌ تلقِّحها بمنزلة الحيوان وإناثه، ولذلك اشتدّ شبهها من بين سائر الأشجار بالإنسان، خصوصًا بالمؤمن كما مثّله النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك من وجوه كثيرة:

أحدها: ثبات أصلها في الأرض واستقراره فيها، وليست بمنزلة الشجرة التي اجتثّت من فوق الأرض ما لها من قرار.

الثاني: طيب ثمرتها وحلاوتها وعموم المنفعة بها، كذلك المؤمن طيب الكلام طيب العمل فيه المنفعة لنفسه ولغيره.

الثالث: دوام لباسها وزينتها، فلا يسقط عنها صيفًا ولا شتاءً، كذلك المؤمن لا يزول عنه لباس التقوى وزينتها حتى يوافي ربّه تعالى.

الرابع: سهولة تناول ثمرتها وتيسّره: أما قصيرها فلا يحوج المتناول أن يرقاها، وأما باسقها فصعوده سهل بالنسبة إلى صعود الشجر الطوال وغيرها، فتراها كأنها قد هيّئت منها المراقي والدرج إلى أعلاها وكذلك المؤمن خيره سهل قريب لمَن رامَ تناوله لا بالغرّ ولا باللئيم.

الخامس: أن ثمرتها من أنفع ثمار العالم؛ فإنه يؤكل رطبه فاكهةً وحلاوةً، ويابسه يكون قوتًا وأدَمًا وفاكهةً، ويتخذ منه الخلّ والناطف والحلوى، ويدخل في الأدوية والأشربة، وعموم المنفعة به وبالعنب فوق كل الثمار ...

الوجه السادس من وجوه التشبيه: أن النخلة أصبر الشجر على الرياح والجهد وغيرها من الدوح العِظام، تميلها الريح تارة، وتقلعها تارة وتقصف أفنانها، ولا صبر لكثيرٍ منها على العطش كصبر النخلة، فكذلك المؤمن صبور على البلاء لا تزعزعه الرياح.

السابع: أن النخلة كلها منفعة، لا يسقط منها شيء بغير منفعة؛ فثمرتها منفعة، وجذعها فيه من المنافع ما لا يُجهَل للأبنية والسقوف وغير ذلك، وسعفها تسقف به البيوت مكان القصب ويستر به الفُرَجْ والخلل، وخوصها يُتَّخذ منه المكاتل والزنابيل وأنواع الآنية والحُصُر وغيرها، وليفها وكربها فيه من المنافع ما هو معلوم عند الناس. وقد طابق بعض الناس هذه المنافع وصفات المسلم،وجعل لكل منفعة منها صفة في المسلم تقابلها؛ فلما جاء إلى الشوك الذي في النخلة جعل بإزائه من المسلم صفة الحدّة على أعداء الله وأهل الفجور فيكون عليهم في الشدّة والغلظة بمنزلة الشوك، وللمؤمنين والمتّقين بمنزلة الرطب حلاوة وليناً (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (الفتح: من الآية29).

الثامن: أنها كلما أطال عمرها ازداد خيرها وجاد ثمرها، وكذلك المؤمن إذا طال عمره ازداد خيره وحَسُنَ عمله.

التاسع: إن قلبها من أطيب القلوب وأحلاه، وهذا أمر خُصَّت به دون سائر الشجر، وكذلك قلب المؤمن من أطيب القلوب.

العاشر: أنها لا يتعطَّل نفعها بالكليّة أبدًا، بل إن تعطَّلت منها منفعة ففيها منافع أُخَر، حتى لو تعطّلت ثمارها سنة لكان للناس في سعفها وخوصها وليفها وكربها منافع، وهكذا المؤمن لا يخلو عن شيء من خِصال الخير قطّ؛ إن أجدب منه جانب من الخير أخصب منه جانب؛ فلا يزال خيره مأمولاً وشرّه مأمونًا. وفي الترمذي مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «خيركم من يرجى خيره ويؤمن شرّه، وشرّكم من لا يُرجى خيره ولا يُؤمن شرّه»(9).

فهذا فصل معترض ذكرناه استطرادًا للحكمة في خلق النخلة وهيئتها، فلنرجع إليها: فتأمّل خلقة الجذع الذي لها كيف هو؟ تجده كالمنسوج من خيوط ممدودة كالسدا، وأخرى معترضة كاللحمة؛ كنحو المنسوج باليد؛ وذلك لتشتدّ وتصلب فلا تتقصّف من حمل الحيوان الثقيل، وتصبر على هزّ الرياح العاصفة، ولبثها في السقوف والجسور والأواني، وغير ذلك مما يُتّخذ منها. وهكذا سائر الخشب وغيرها إذا تأمَّلته شبه النسج، ولا تراه مصمتًا كالحجر الصلد، بل ترى بعضه كأنه داخل بعضًا طولاً وعرضًا كتداخل أجزاء اللحم بعضها في بعض؛ فإذا ذلك أمتن له وأهيأ لما يُراد منه؛ فإنه لو كان مصمتًا كالحجارة لم يمكن أن يستعمل في الآلات والأبواب والأواني والأمتعة والأسِرّة والتوابيت وما أشبهها.

ومن بديع الحكمة في الخشب أن جعل يطفو على الماء، وذلك للحكمة البالغة؛ إذ لولا ذلك لما كانت هذه السفن تحمل أمثال الجبال من الحمولات والأمتعة، وتمخر البحر مقبِلة ومُدبِرة، ولولا ذلك لما تهيّأ للناس هذه المرافق لحمل هذه التجارات العظيمة والأمتعة الكثيرة ونقلها من بلد إلى بلد، من حيث لو نقلت، في البرّ لعظمت المؤونة في نقلها وتعذّر على الناس كثير من مصالحهم.

ومن آياته وعجائب مصنوعاته: البحار المكتنفة لأقطار الأرض التي هي خلجان من البحر الأعظم المحيط بجميع الأرض، حتى أن المكشوف من الأرض والجبال والمدن بالنسبة إلى الماء كجزيرة صغيرة في بحر عظيم، وبقية الأرض مغمورة بالماء؛ ولولا إمساك الربّ تبارك وتعالى له بقدرته ومشيئته وحبسه الماء، لطفح على الأرض وعلاها كلها؛ هذا طبع الماء. ولهذا حارَ عقلاء الطبيعيين في سبب بروز هذا الجزء من الأرض مع اقتضاء طبيعة الماء للعلو عليه وأن يغمره، ولم يجدوا ما يُحيلون عليه ذلك إلاّ الاعتراف بالعناية الأزلية، والحكمة الإلهية التي اقتضت ذلك لعيش الحيوان الأرضي في الأرض. وهذا حق ولكنه يُوجب الاعتراف بقدرة الله وإرادته ومشيئته وعلمه وحكمته وصفات كماله ولا محيص عنه»(10).

ثانيًا : من آيات الله عز وجل في خلق الحيوان:

قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «تأمل الحكم البالغة في إعطائه سبحانه بهيمة الأنعام الأسماع والأبصار، ليتم تناولها لمصالحها ويُكمِل انتفاع الإنسان بها؛ إذ لو كانت عمياء أو صمّاء لم يتمكّن من الانتفاع بها، ثم سلبها العقول على كبر خلقها التي للإنسان ليتمّ تسخيره إيّاها، فيقودها ويصرفها حيث شاء؛ ولو أُعطيت العقول على كبر خلقها لامتنعت من طاعته، واستعصت عليه، ولم تكن مسخّرة له. فأُعطيت من التمييز والإدراك ما تتمّ به مصلحتها ومصلحة مَن ذلك له، وسُلِبت من الذِّهن والعقل ما ميّز به عليها الإنسان وليظهِر أيضًا فضيلة التمييز والاختصاص.

ثم تأمّل كيف قادها وذلّلها على كبر أجسامها، ولم يكن يطيقها لولا تسخيره؛ قال الله تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) (الزخرف:12، 13). أي: مطيقين ضابطين: وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ) (يّـس:71، 72)؛ فترى البعير على عظم خلقته يقوده الصبي الصغير ذليلاً منقادًا؛ ولو أُرسِل عليه لسوّاه بالأرض، ولفصله عضوًا عضوًا؛ فسَلْ المعطِّل من الذي ذلّله وسخّره وقاده على قوَّته لبشر ضعيف من أضعف المخلوقات؛ وفرَّغ بذلك التسخير النوع الإنساني لمصالح معاشه ومعاده؛ فإنه لو كان يُزاول من الأعمال والأحمال ما يزاول الحيوان لشغل بذلك عن كثيرٍ من الأعمال؛ لأنه كان يحتاج إلى مكان الجمل الواحد إلى عدّة أناسي يحملون أثقاله وحمله، ويعجزون عن ذلك، وكان ذلك يستفرغ أوقاتهم ويصدّهم عن مصالحهم، فأعينوا بهذه الحيوانات، مع ما لهم فيها من المنافع التي لا يحصيها إلاّ الله من الغذاء والشراب والدواء واللباس والأمتعة والآلات والأواني والركوب والحرث والمنافع الكثيرة والجَمَال ...

.. ثم تأمّل العبرة التي ذكرها الله عزّ وجل في الأنعام، وما سقانا من بطونها من اللبن الخالص السائغ الهنيء المريء الخارج من بين الفرث والدم فتأمّل كيف ينزل الغذاء من أفواهها إلى المعدة... فيدخل في أوردة الكبد فينصبّ من تلك العروق إلى الضرع فيقلبه الله تبارك وتعالى في صورة الدم وطبعه وطعمه إلى صورة اللبن وطبعه وطعمه، فاستخرج من الفرث والدم، فسَلَ المعطل الجاحد: من الذي دبّر هذا التدبير وقدّر هذا التقدير وأتقن هذا الصنع ولطف هذا اللطف سوى اللطيف الخبير؟ ...

.. ثم تأمّل هذه النملة الضعيفة، وما أعطيته من الفطنة أو الحيلة في جمع القوت، وادّخاره وحفظه ودفع الآفة عنه؛ فإنك ترى في ذلك عِبَرًا وآيات، فترى جماعة النمل إذا أرادت إحراز القوت خرجت من أسرابها طالبة له، فإذا ظفرت به أخذت طريقًا من أسرابها إليه وشرعت في نقله؛ فتراها رفقتين: رفقة حاملة تحمله إلى بيوتها سربًا ذاهبًا ورفقة خارجة من بيوتها إليه لا تخالط تلك في طريقها، بل هما كالخيطين بمنزلة جماعة الناس الذاهبين في طريق والجماعة الراجعين من جانبهم؛ فإذا ثقل عليها حمل الشيء من تلك اجتمعت عليه جماعة من النمل وتساعدت على حمله؛ بمنزلة الخشبة والحجر الذي تتساعد الفئة من الناس عليه؛ فإذا كان الذي ظفر به منهنّ واحدة ساعدها رفقتها عليه إلى بيتها، وخلّوا بينها وبينه، وإن كان الذي صادفه جماعة تساعدن عليه ثم تقاسمنه على باب البيت. ولقد أخبر بعض العارفين أنه شاهد منهنّ يومًا عجبًا. قال: رأيت نملة جاءت إلى شقّ جرادة فزاولته فلم تُطِقْ حمله من الأرض فذهبت غير بعيد ثم جاءت معها بجماعة من النمل، قال: فرفعْتُ ذلك الشقّ من الأرض؛ فلما وصلت النملة برفقتها إلى مكانه دارت حوله، ودرن معها فلم يجدن شيئًا فرجعن، فوضعْتُه، ثم جاءت فصادفته، فزاولته فلم تُطِق رفعه، فذهبت غير بعيد ثم جاءت بهنّ، فرفعْتُه، فدرن حول مكانه، فلم يجدن شيئًا فذهبن، فوضعْتُه، فعادت فجاءت بهنّ، فرفعْتُه، فدرن حول المكان، فلما لم يجدن شيئًا تحلّقن حلقة وجعلن تلك النملة في وسطها، ثم تحاملن عليها فقطَّعنها عضوًا عضوًا وأنا أنظر. ومن عجيب أمر الفطنة فيها إذا نقلت الحبّ إلى مساكنها كسرته لئلا ينبت، فإن كان مما ينبت الفلقتان منه كسرته أربعًا، فإذا أصابه ندى وبلل وخافت عليه الفساد أخرجته للشمس، ثم تردّه إلى بيوتها. ولهذا ترى في بعض الأحيان حبّاً كثيرًا على أبواب مساكنها مكسَّرًا ثم تعود عن قريب فلا ترى منه واحدة. ومن فطنتها ما نصّ الله عزّ وجلّ في كتابه من قولها لجماعة النمل - وقد رأت سليمان عليه الصلاة والسلام وجنوده -: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (النمل: من الآية18)؛ فتكلمت بعشرة أنواع من الخطاب في هذه النصيحة: النداء، والتنبيه، والتسمية، والأمر، والنصّ، والتحذير، والتخصيص، والتفهيم، والتعميم، والاعتذار. فاشتملت نصيحتها مع الاختصار على هذه الأنواع العشرة. ولذلك أعجب سليمان قولها وتبسّم ضاحكًا منه، وسأل الله أن يوزعه شكر نعمته عليه لمَّا سمع كلامها. ولا يُستَبعَد هذه الفطنة من أمة من الأمم تسبِّح بحمد ربِّها كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة، فلدغته نملة، فأمر بجهازه فأخرج ثم أحرق قرية النمل. فأوحى الله إليه: من أجل أن لدغتك نملة أحرقت أُمة من الأمم تسبّح، فهلاَّ نملة واحدة»(11).

.. ثم تأمّل العبرة في السَّمك وكيفية خلقته، وأنه خلق غير ذي قوائم لأنه لا يحتاج إلى المشي إذ كان مسكنه الماء، ولم يخلق له رئة لأن منفعة الرئة التنفّس والسمك لم يحتج إليه لأنه ينغمس في الماء، وخُلِقت له عِوَض القوائم أجنحة شِداد يقذف بها من جانبيه كما يقذف صاحب المركب بالمقاذيف من جانبي السفينة، وكسى جلده قشورًا متداخلة كتداخل الجوشن ليَقِيه من الآفات، وأُعين بقوة الشم لأن بصره ضعيف والماء يحجبه؛ فصار يشمّ الطعام من بعد فيقصده. وقد ذكر في بعض كتب الحيوان أن من فيه إلى صماخه منافذ فهو يصبّ الماء فيها بفيه، ويرسل من صماخيه فيتروّح بذلك كما يأخذ الحيوان النسيم البارد بأنفه ثم يرسله ليروّح به؛ فإن الماء للحيوان البحري كالهواء للحيوان البرّي؛ فهما بحران أحدهما ألطف من الآخر: بحر هواء يسبح فيه حيوان البرّ، وبحر ماء يسبح فيه حيوان البحر؛ فلو فارق كلٌّ من الصنفين بحره إلى البحر الآخر مات؛ فكما يختنق الحيوان البرّي في الماء يختنق الحيوان البحري في الهواء، فسبحان من لا يُحصي العادّون آياته ولا يحيطون بتفصيل آية منها على الانفراد؛ بل إن علموا فيها وجهًا جهلوا منها أوجهًا.

فتأمّل الحكمة البالغة في كون السمك أكثر الحيوان نسلاً؛ ولهذا ترى في جوف السمكة الواحدة من البيض ما لا يُحصى كثرةً. وحكمة ذلك أن يتسع لما يغتذي به من أصناف الحيوان؛ فإن أكثرها يأكل السمك حتى السِّباع لأنها في حافّات الآجام جاثمة تعكف على الماء الصافي، فإذا تعذّر عليها صيد البرّ رصدت السمك فاختطفته؛ فلما كانت السِّباع تأكل السمك، والطير تأكله، والناس تأكله، والسماك الكبار تأكله، ودواب البرّ تأكله، وقد جعله الله سبحانه غذاءً لهذه الأصناف اقتضت حكمته أن يكون بهذه الكثرة. ولو رأى العبد ما في البحر من ضروب الحيوانات والجواهر والأصناف التي لا يحصيها إلاَّ الله، ولا يعرف الناس منها إلاّ الشيء القليل الذي لا نسبة له أصلاً إلى ما غاب عنهم لرأى العجب، ولعلِمَ سِعَة مُلْك الله وكثرة جنوده التي لا يعلمها إلا هو ...

.. ثم تأمّل أحوال النحل وما فيها من العِبَر والآيات، فانظر إليها وإلى اجتهادها في صنعة العسل، وبنائها البيوت المسدسة التي هي من أتمّ الأشكال وأحسنها استدارة وأحكمها صنعًا؛ فإذا انضمّ بعضها إلى بعض لم يكن بينها فرجة ولا خلل. كلّ هذا بغير مقياس ولا آلة ولا بيكار. وتلك من أثر صنع الله وإلهامه إياها وإيحائه إليها؛ كما قال تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً) إلى قوله: (لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل: 68، 69)؛ فتأمّل كمال طاعتها وحُسْن ائتمارها لأمر ربّها: اتخذت بيوتها في هذه الأمكنة الثلاثة: في الجبال الشقفان، وفي الشجر، وفي بيوت الناس حيث يعرشون - أي يبنون العروش وهي البيوت - فلا يُرى للنحل بيت غير هذه الثلاثة البتّة.

وتأمّل كيف أكثر بيوتها في الجبال والشقفان - وهو البيت المقدّم في الآية - ثم في الأشجار - وهي من أكثر بيوتها - ومما يعرش الناس، وأقلّ بيوتها بينهم حيث يعرشون. وأما في الجبال والشجر فبيوت عظيمة يؤخذ منها من العسل الكثير جدّاً، وتأمل كيف أدّاها حُسْن الامتثال إلى أن اتخذت البيوت أولاً، فإذا استقرّ لها بيت خرجت منه فرَعَت وأكلت من الثمار، ثم آوت إلى بيوتها لأن ربّها سبحانه أمرها باتخاذ البيوت أولاً ثم بالأكل بعد ذلك، ثم إذا أكلت سلكت سُبُل ربّها مذلّلة لا يستوعر عليها شيء؛ ترعى ثم تعود.

ومن عجيب شأنها أن لها أميرًا يسمى اليعسوب لا يتم لها رواح ولا إياب ولا عمل ولا مرعى إلاّ به؛ فهي مؤتمرة لأمره، سامعة له مُطيعة، وله عليها تكليف وأمر ونهي، وهي رعيّة له منقادة لأمره، متبعة لرأيه يدبّرها كما يدبّر الملك أمر رعيّته، حتى أنها إذا آوت إلى بيوتها وقف على باب البيت فلا يدع واحدة تزاحم الأخرى ولا تتقدّم عليها في العبور، بل تعبر بيوتها واحدة بعد واحدة بغير تزاحم ولا تصادم ولا تراكم؛ كما يفعل الأمير إذا انتهى بعسكره إلى معبر ضيّق لا يجوزه إلاّ واحد واحد.

ومن تدبّر أحوالها وسياساتها وهدايتها، واجتماع شملها وانتظام أمرها، وتدبير ملكها، وتفويض كل عمل إلى واحد منها يتعجّب منها كل العجب، ويعلم أن هذا ليس في مقدورها ولا هو من ذاتها؛ فإن هذه أعمال محكمة متقنة في غاية الإحكام والإتقان؛ فإذا نظرت إلى العامل رأيته من أضعف خلق الله، وأجهله بنفسه وبحاله، وأعجزه عن القيام بمصلحته؛ فضلاً عمّا يصدر عنه من الأمور المحبّبة. ومن عجيب أمرها أنه إذا كان فيها أميران لا يجتمعان في بيت واحد ولا يتأمّران على جمع الجنود، بل إذا اجتمع منها جندان وأميران قتلوا أحد الأميرين وقطعوه واتفقوا على الأمير الواحد من غير معاداة بينهم ولا أذى من بعضهم لبعض، بل يصيرون يدًا واحدة وجندًا واحدًا...

فسَلْ المعطّل: من الذي أوحى إليها أمرها وجعل ما جعل في طباعها؟ ومن الذي سهّل لها سبله ذللاً منقادة لا تستعصي عليها، ولا تستوعرها، ولا تضلّ عنها على بُعدها؟ ومن الذي هداها لشأنها؟ ومن الذي أنزل لها من الطلّ ما إذا جنته ردّته عسلاً صافيًا مختلفًا ألوانه في غاية الحلاوة واللذاذة والمنفعة من بين أبيض يرى فيه الوجه أعظم من رؤيته من المرآة ووسمه لي مَن جاء به وقال: هذا أفخر ما يعرف الناس من العسل وأصفاه وأطيبه، فإذا طعمه ألذّ شيء يكون من الحلوى، ومن بين أحمر وأخضر ومورد وأسود وأشقر، وغير ذلك من الألوان والطعوم المختلفة فيه بحسب مراعيه ومادتها؟

وإذا تأمّلت ما فيه من المنافع والشفاء ودخوله في غالب الأدوية، حتى كان المتقدّمون لا يعرفون السكّر ولا هو مذكور في كتبهم أصلاً، وإنما كان الذي يستعملونه في الأدوية هو العسل، وهو المذكور في كتب القوم. ولعمر الله إنه لأنفع من السكر، وأجدى وأجلى للأخلاط، وأقمع لها، وأذهب لضررها، وأقوى للمعدة، وأشدّ تفريحًا للنفس، وتقوية للأرواح، وتنفيذًا للدواء، وإعانة له على استخراج الدّاء من أعماق البدن...

.. ثم تأمّل جسم الطائر وخلقته؛ فإنه حين قدّر بأن يكون طائرًا في الجو خفّف جسمه، وأدمج خلقته واقتصر به من القوائم الأربع على اثنتين، ومن الأصابع الخمس على أربع، ومن مخرج البول والزبل على واحد يجمعهما جميعًا، ثم خلق ذا جؤجؤ محدود ليسهل عليه اختراق الهواء كيف توجّه فيه، كما يجعل صدر السفينة بهذه الهيئة ليشقّ الماء بسرعة وتنفذ فيه، وجعل في جناحيه وذَنَبه ريشات طوال متان لينهض بها للطيران، وكسى جسمه كله الريش ليتداخله الهواء فيحمله. ولمّا قدّر أن يكون طعامه اللحم والحبّ يبلعه بلعًا بلا مضغ نقّص من خلقه الأسنان، وخلق له منقارًا صلبًا يتناول به طعامه فلا يتفسّخ من لقط الحبّ، ولا يتعفّن من نهش اللحم. ولمّا عَدِمَ الأسنان وكان يزدرد الحبّ صحيحًا، واللحم عريضًا أُعين بفضل حرارة في الجوف تطحن الحبّ وتطبخ اللحم فاستغنى عن المضغ. والذي يدلّك على قـوّة الحرارة التي أُعين بها أنك ترى عجم الزبيب وأمثاله يخرج من بطن الإنسان صحيحًا وينطبخ في جوف الطائر حتى لا يُرَى له أثر. ثم اقتضت الحكمة أن جُعل يبيض بيضًا، ولا يلـد ولادة لئـلا يثقل عن الطيران؛ فإنه لو كان مما يحمل، ويمكث حمله في جوفه حتى يستحكم ويثقل، لأثقله وعاقه عن النهوض والطيران. وتأمّل الحكمة في كون الطائر المُرسَل السائح في الجوّ يُلهَم صبر نفسه أسبوعًا أو أُسبوعين باختياره قاعدًا على بيضه، حاضنًا له، ويحتمل مشقّة الحبس، ثم إذا خرج فراخه تحمّل مشقّة الكَسْب، وجَمْع الحبّ في حوصلته وبزق فراخه وليس بذي رَوِيّة ولا فكرة في عاقبة أمره، ولا يؤمل في فراخـه مـا يؤمـل الإنسـان في ولـده من العَـوْن والرفـد وبقـاء الذّكر. فهذا من فعله يشهد بأنه معطوف على فراخه لعلّة لا يعلمها هو ولا يفكّر فيها من دوام النّسل وبقائه»(12).

وأختم هذا المبحث بكلام بديع للإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - يوضح فيه نماذج من هدايته عز وجل للعجماوات إلى ما فيه مصالحها وبقاؤها وحفظها؛ وذلك عند قوله تعالى: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طه: من الآية50).

يقول - رحمه الله تعالى -: «... من علَّم الثعلبَ إذا اشتد به الجوعُ أن يستلقي على ظهره، ويختلس نَفَسه إلى داخل بدنه حتى ينتفخ فيظنّ الظانّ أنه مَيْتةٌ، فيقع عليه، فيثب على من انقضى عمره منها، ومَن علَّمه إذا أصابه صدع أو جرح أن يأتي إلى صبغ معروف، فيأخذ منه ويضعه على جرحه كالمرهم.

ومن علَّم الدبّ إذا أصابه كَلْم أن يأتي إلى نبت قد عرفه وجهله صاحبُ الحشائش فيتداوى به فيبرأ.

ومن علَّم الأنثى من الفيلة إذا دنا وقتُ ولادتها أن تأتي إلى الماء فتلدَ فيه لأنها دون الحيوانات لا تلد إلا قائمة؛ لأن أوصالها على خلاف أوصال الحيوان، وهي عالية فتخافُ أن تُسقطه على الأرض فينصدعَ أو ينشقَّ، فتأتي ماءً وسَطًا تضعه فيه يكون كالفِراش اللين والوِطاء الناعم.

ومن علَّم الذباب إذا سقط في مائعٍ أن يتقي بالجناح الذي فيه الداءُ دون الآخر.

ومن علم الكلب إذا عاين الظباء أن يعرف المعتلّ من غيره، والذكر من الأنثى؛ فيقصدَ الذكر مع علمه بأن عَدْوَه أشد، وأبعدُ وثبةً، ويدعُ الأنثى على نقصان عَدْوها؛ لأنه قد علم أن الذكرَ إذا عدا شوطًا أو شوطين حقن ببوله، وكل حيوان إذا اشتد فزعهُ فإنه يدركه الحقن، وإذا حقن الذكرُ لم يستطع البولَ مع شدة العدو فيقلّ عَدْوَه فيدركه الكلبُ، وأما الأنثى فتحذفُ بَوْلها لسَعة القُبُل وسهولة المخرج فيدومُ عَدْوها...

ومن علَّم العصفورة إذا سقط فَرْخُها أن تستغيث فلا يبقى عصفورٌ بجوارها حتى يجيء فيطيرون حول الفرخ، ويحركونه بأفعالهم، ويُحدثون له قوةً وهِمةً وحركةً حتى يطير معهم.

قال بعض الصيادين: ربما رأيتُ العصفورَ على الحائط فأومئ بيدي كأني أرميه فلا يطيرُ، وربما أهويتُ إلى الأرض كأني أتناولُ شيئًا فلا يتحركُ، فإن مسستُ بيدي أدنى حصاةٍ أو حجرٍ أو نواة طار قبل أن تتمكن منها يدي.

ومن علَّم الحمامة إذا حملَتْ أن تأخذ هي والأب في بناء العش، وأن يقيما له حروفًا تشبه الحائط، ثم يسخِّناه ويحدثا فيه طبيعة أخرى، ثم يُقَلِّبا البيض في الأيام، ومن قسم بينهما الحضانة والكـد، فأكثـرُ ساعات الحضانـة على الأنثى، وأكثـرُ ساعـات جلْب القوت على الأب، وإذا خرج الفرخُ علِما ضيقَ حوصلته عن الطعام فنفخا فيه نفْخًا متدارِكًا حتى تتسع حوصلته، ثم يزقانه اللعابَ أو شيئًا قبل الطعام، وهو كاللبَأ للطفل، ثم يعلمان احتياج الحوصلة إلى دباغ فيزقانه من أصل الحيطان من شيء بين الملح والتراب تندبغُ به الحوصلةُ، فإذا اندبغتْ زقاه الحبّ، فإذا علما أنه أطاق اللقطَ منعاه الزقّ على التدريج، فإذا تكاملتْ قوَّته وسألهما الكَفالة ضرباه.

ومن علمهما إذا أرادا السَّفاد أن يبتدئ الذكرُ بالدعاء، فتتطاردَ له الأنثى قليلاً لتذيقَه حلاوةَ المواصلة، ثم تطيعَه في نفسها، ثم تمتنَع بعض التمنع ليشتد طلبه وحبه، ثم تتهادى وتتكسلَ وتريَه معاطفها وتعرضَ محاسنها، ثم يحدثُ بينهما من التغزل والعشق والتقبيل والرشف ما هو مُشاهدَ بالعِيان.

ومن علَّم المرسَلَة منها إذا سافرت ليلاً أن تستدل ببطون الأودية ومجاري المياه والجبال ومهاب الريح ومطلع الشمس ومغربها، فتستدلٌ بذلك وبغيره إذا ضلتْ، فإذا عرفت الطريق مَرَّت كالريح.

ومن علَّم اللبب - وهو صنف من العناكب - أن يلطأ بالأرض ويجمع نفسه فيُرِيَ الذبابة أنه لاهٍ عنها ثم يثب عليها وثوبَ الفهد.

ومن علَّم العنكبوت أن ينسج تلك الشبكة الرفيعة المحكمة وتجعل في أعلاها خيطًا ثم تتعلقُ به فإذا تعرقلت البعوضةُ في الشبكة تدلت إليها فاصطادتها.

ومن علَّم الظبي أنه لا يدخلُ كناسه إلا مستدبرًا ليستقبل بعينيه ما يخافه على نفسه وخِشْفه.

ومن علَّم السنورَ إذا رأى فأرةً في السقف أن يرفع رأسه كالمشير إليها بالعود، ثم يشيرَ إليها بالرجوع، وإنما يريدُ أن يدهشها فتزلقَ فتسقطَ.

ومن علم اليربوع أن يحفر بيته في سفح الوادي، حيث يرتفعُ عن مجرى السيل ليَسْلم من مَدَق الحافر ومجرى الماء، ويعمقه ثم يتخذ في زواياه أبوابًا عديدةً، ويجعلَ بينها وبين وجه الأرض حاجزًا رقيقًا، فإذا أحس بالشر فتح بعضها بأيسر شيء وخرج منه. ولما كان كثير النسيان لم يحفر بيته إلا عند أكمةٍ أو صخرة علامةً له على البيت إذا ضل عنه.

ومَنْ علَّم الفهد إذا سمن أن يتوارى لثقل الحركة عليه حتى يذهب ذلك السِّمن ثم يظهر.

ومن علَّم الأَيْلَ إذا سقط قرنُه أن يتوارى لأنّ سلاحه قد ذهب، فيسمنُ لذلك، فإذا كمل نباتُ قرنه تعرّضَ للشمس وللريح وأكثرَ من الحركة ليشتد لحمه ويزول السِّمن المانع له من العدو.

وهذا باب واسع جدًا ويكفي فيه قولُه سبحانه: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الأنعام:38، 39))(13).

 

___________________

«صيد الخاطر»: (ص 275، 276).

(2) «في ظلال القرآن»: (1/544-546).

(3) المصدر نفسه: (5/2729).

(4) «تفسير ابن كثير» عند الآية: (20) من سورة الذاريات.

(5) «في ظلال القرآن»: (6/3378، 3379) باختصار يسير.

(6) «تفسير ابن كثير»: عند الآية (164) من سورة البقرة.

(7) «في ظلال القرآن»: (1/152، 153).

(8) مسلم: (12).

(9) الترمذي: (2375)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي: (1845).

(10) انظر «مفتاح دار السعادة»: (ص 206-241) باختصار.

(11) مسلم: (2241).

(12) انظر «مفتاح دار السعادة»: (1/243-261) باختصار.

(13) «شفاء العليل»: (ص 203-204)، ت: مصطفى الشلبي.

 

الفصل الثالث

التفكر في آيات الله عز وجل في الأنفس

يقول الله عز وجل: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت:53).

ويقول سبحانه: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الذريات:21).

ويقول عز وجل: (فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) (الطارق:5-7).

وقد مر بنا في فصل سابق ذكر بعض الآيات التي ينبه الله سبحانه فيها إلى آياته في خلق الإنسان، ويحث العباد على التفكر والتبصر فيها فليرجع إليها(1).

يقول الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى - عند آية فصلت:«( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ): كالآيات التي في السماء والأرض وما يحدثه تعالى من الحوادث العظيمة الدالة للمستبصر على الحق، (وَفِي أَنْفُسِهِمْ): مما اشتملت عليه أبدانهم من بديع صنع الله، وعجائب صنعته، وباهر قدرته، وفي حلول العقوبات والمثلات في المكذبين ونصر المؤمنين»(2).

ويقول عند آية الذاريات: «قال قتادة: من تفكر في خلق نفسه عرف أنه إنما خلق ولينت مفاصله للعبادة»(3).

ويعلق سيد قطب - رحمه الله تعالى - على قوله عز وجل: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) فيقول: «وهذا المخلوق الإنساني هو العجيبة الكبرى في هذه الأرض. ولكنه يغفل عن قيمته، وعن أسراره الكامنة في كيانه، حين يغفل قلبه عن الإيمان وحين يحرم نعمة اليقين.

إنه عجيبة في تكوينه الجسماني؛ في أسرار هذا الجسد. عجيبة في تكوينه الروحي؛ في أسرار هذه النفس. وهو عجيبة في ظاهره وعجيبة في باطنه. وهو يمثل عناصر هذا الكون وأسراره وخفاياه:

وتزعـم أنـك جـرم صغيـر                     وفيك انطوى العالم الأكبر

وحيثما وقف الإنسان يتأمل عجائب نفسه التقى بأسرار تدهش وتحير: تكوين أعضائه وتوزيعها، وظائفها وطريقة أدائها لهذه الوظائف، عملية الهضم والامتصاص، الغدد وإفرازها وعلاقتها بنمو الجسد ونشاطه وانتظامه، تناسق هذه الأجهزة كلها وتعاونها، وتجاوبها الكامل الدقيق. وكل عجيبة من هذه تنطوي تحتها عجائب، وفي كل عضو وكل جزء من عضو خارقة تحير الألباب.

وأسرار روحه وطاقاتها المعلومـة والمجهولة؛ إدراكـه للمدركات وطريقة إدراكها وحفظها وتذكرها. هذه المعلومات والصور المختزنة، أين؟ وكيف؟ هذه الصور والرؤى والمشاهد كيف انطبعت؟ وأين؟ وكيف تُستدعى فتجيء؛ وذلك في الجانب المعلوم من هذه القوى. فأما المجهول منها فهو أكبر وأكثر. تظهر آثاره بين الحين والحين في لمسات وإشراقات تدل على ما وراء الظاهر من المغيب المجهول.

ثم أسرار هذا الجنس في توالده وتوارثه؛ خلية واحدة تحمل كل رصيد الجنس البشري من الخصائص؛ وتحمل معها خصائص الأبوين والأجداد القريبين. فأين تكمن هذه الخصائص في تلك الخلية الصغيرة؟ وكيف تهتدي بذاتها إلى طريقها التاريخي الطويل، فتمثله أدق تمثيل، وتنتهي إلى إعادة هذا الكائن الإنساني العجيب؟!

وإن وقفة أمام اللحظة التي يبدأ فيها الجنين حياته على الأرض، وهو ينفصل عن أمه ويعتمد على نفسه، ويؤذن لقلبه ورئتيه بالحركة لبدء الحياة، إن وقفة أمام هذه اللحظة وأمام هذه الحركة لتدهش العقول وتحير الألباب، وتغمر النفس بفيض من الدهش وفيض من الإيمان، لا يقف له قلب ولا يتماسك له وجدان!

وإن وقفة أخرى أمام اللحظة التي يتحرك فيها لسان الوليد لينطق بهذه الحروف والمقاطع والكلمات ثم بالعبارات. بل أمام النطق ذاته؛ نطق هذا اللسان. وتصويت تلك الحنجرة؛ إنها عجيبة عجيبة تفقد وقعها لأنها تمر بنا كثيرًا، ولكن الوقوف أمامها لحظة في تدبر يجدد وقعها؛ إنها خارقة، خارقة مذهلة تنبئ عن القدرة التي لا تكون إلا لله.

وكل جزئية في حياة هذا المخلوق تقفنا أمام خارقة من الخوارق، لا ينقضي منها العجب؛ (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)»(4).

نماذج من آيات الله عز وجل المنظورة في الأنفس والتي جاء الحث على التبصر والتفكر فيها:

قال الله عز وجل: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (الروم:20-23).

يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عند هذه الآيات: «نوَّع سبحانه الآيات في هذه السورة، فجعل خلق السماوات والأرض واختلاف لغات الأمم وألوانهم آيات للعالمين كلهم؛ لاشتراكهم في العلم بذلك وظهوره ووضوح دلالته، وجعل خلق الأزواج التي تسكن إليها الرجال وإلقاء المودّة والرحمة بينهم آيات لقوم يتفكّرون؛ فإن سكون الرجل إلى امرأته وما يكون بينهما من المودّة والتعاطف والتراحم أمر باطن مشهود بعين الفكرة والبصيرة، فمتى نظر بهذه العين إلى الحكمة والرحمة والقدرة التي صدر عنها ذلك دلّه فكره على أنه الإله الحقّ المبين الذي أقرَّت الفطر بربوبيته وإلاهيته وحكمته ورحمته، وجعل المنام بالليل والنهار للتصرّف في المعاش وابتغاء فضله آيات لقوم يسمعون؛ وهو سمع الفهم وتدبّر هذه الآيات وارتباطها بما جعلت آية له مما أخبرت به الرّسل من حياة العباد بعد موتهم، وقيامهم من قبورهم، كما أحياهم سبحانه بعد موتهم وأقامهم للتصرّف في معاشهم؛ فهذه الآية إنما ينتفع بها مَن سمع ما جاءت به الرّسل وأصغى إليه واستدلّ بهذه الآية عليه ...

فتبارك الذي جعل كلامه حياة للقلوب، وشفاء لما في الصدور. وبالجملة فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبّر والتفكّر؛ فإنه جامع لجميع منازل السائرين، وأحوال العاملين، ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكّل والرضا والتفويض والشكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله.

وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة التي بها فساد القلب وهلاكه؛ فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبّر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها؛ فإذا قرأه بتفكّر حتى مرّ بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه كرّرها ولو مائة مرة ولو ليلة؛ فقراءة آية بتفكّر وتفهّم خير من قراءة ختمة بغيـر تدبّـر وتفهّم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن. وهذه كانت عادة السّلف؛ يردّد أحدهم الآية إلى الصباح»(5).

ويقول ابن كثير - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «يقول تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ) الدالة على عظمته وكمال قدرته أنّه خلق أباكم آدم من تراب، (ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) فأصلكم من تراب، ثم من ماء مهين، ثم تَصَوّر فكان علقة، ثم مضغة، ثم صار عظامًا، شكله على شكل الإنسان، ثم كسا الله تلك العظام لحمًا، ثم نفخ فيه الروح، فإذا هو سميع بصير. ثم خرج من بطن أمه صغيرًا ضعيف القوى والحركة، ثم كلما طال عمره تكاملت قواه وحركاته حتى آل به الحال إلى أن صار يبني المدائن والحصون، ويسافر في أقطار الأقاليم، ويركب متن البحور، ويدور أقطار الأرض، ويتكسب ويجمع الأموال، وله فكرة وغور، ودهاء ومكر، ورأي وعلم، واتساع في أمور الدنيا والآخرة كل بحسبه. فسبحان من أقدرهم وسَيّرهم وسخرهم وصرفهم في فنون المعايش والمكاسب، وفاوت بينهم في العلوم والفكرة، والحسن والقبيح، والغني والفقير، والسعادة والشقاوة، ولهذا قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ)»(6).

ويقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عند هذه الآيات: « (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) .. والتراب ميت ساكن؛ ومنه نشأ الإنسان. وفي موضع آخر في القرآن جاء: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (المؤمنون:12)؛ فالطين هو الأصل البعيد للإنسان. ولكن هنا يذكر هذا الأصل ويعقبه مباشرة بصورة البشر منتشرين متحركين للمقابلة في المشهد والمعنى بين التراب الميت الساكن والبشر الحي المتحرك. وذلك بعد قوله: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) (الروم: من الآية19) تنسيقًا للعرض على طريقة القرآن.

وهذه المعجزة الخارقة آية من آيات القدرة، وإيحاء كذلك بالصلة الوثيقة بين البشر وهذه الأرض التي يعيشون عليها؛ والتي يلتقون بها في أصل تكوينهم،وفي النواميس التي تحكمها وتحكمهم في نطاق الوجود الكبير. والنقلة الضخمة من صورة التراب الساكن الزهيد إلى صورة الإنسان المتحرك الجليل القدر نقلة تثير التأمل في صنع الله، وتستجيش الضمير للحمد والتسبيح لله، وتحرك القلب لتمجيد الصانع المتفضل الكريم.

ومن مجال الخلقة الأولى لنوع البشر ينتقل إلى مجال الحياة المشتركة بين جنسي البشر:

(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

والناس يعرفون مشاعرهم تجاه الجنس الآخر، وتشغل أعصابهم ومشاعرهم تلك الصلة بين الجنسين؛ وتدفع خطاهم وتحرك نشاطهم تلك المشاعر المختلفة الأنماط والاتجاهات بين الرجل والمرأة.

ولكنهم قلما يتذكرون يد الله التي خلقت لهم من أنفسهم أزواجًا، وأودعت نفوسهم هذه العواطف والمشاعر، وجعلت تلك الصلة سكنًا للنفس والعصب، وراحة للجسم والقلب، واستقرارًا للحياة والمعاش، وأنسًا للأرواح والضمائر، واطمئنانًا للرجل والمرأة على السواء.

والتعبير القرآني اللطيف الرفيق يصور هذه العلاقة تصويرًا موحيًا، وكأنما يلتقط الصورة من أعماق القلب وأغوار الحس: (لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا).. (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً).

(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).. فيدركون حكمة الخالق في خلق كل من الجنسين على نحو يجعله موافقًا للآخر. ملبيًا لحاجته الفطرية: نفسية وعقلية وجسدية. بحيث يجد عنده الراحة والطمأنينة والاستقرار؛ ويجدان في اجتماعهما السكن والاكتفاء، والمودة والرحمة؛ لأن تركيبهما النفسي والعصبي والعضوي ملحوظ فيه تلبية رغائب كل منهما في الآخر، وائتلافهما وامتزاجهما في النهاية لإنشاء حياة جديدة تتمثل في جيل جديد ..

(وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ).. وآية خلق السماوات والأرض كثيرًا ما يشار إليها في القرآن، وكثيرًا ما نمر عليها سراعًا دون أن نتوقف أمامها طويلاً .. ولكنها جديرة بطول الوقوف والتدبر العميق.

إن خلق السماوات والأرض معناه إنشاء هذا الخلق الهائل الضخم العظيم الدقيق؛ الذي لا نعرف عنه إلا أقل من القليل. هذا الحشد الذي لا يحصى من الأفلاك والمدارات والنجوم والكواكب والسدم والمجرات ... ذلك كله من ناحية الحجم العام والنظام، فأما أسرار هذه الخلائق الهائلة وطبائعها وما يستكن فيها وما يظهر عليها؛ والنواميس الكبرى التي تحفظها وتحكمها وتصرفها فهذا كله أعظم من أن يلم به الإنسان، وما عرف عنه إلا أقل من القليل، ودراسة هذا الكوكب الصغير الضئيل الذي نعيش على سطحه لم يتم منها حتى اليوم إلا القليل!

هذه لمحة خاطفة عن آية خلق السماوات والأرض التي نمر عليها سراعًا. بينما نتحدث طويلاً، وطويلاً جدًا عن جهاز صغير يركبه علماء الإنسان؛ ويحتفظون فيه بالتناسق بين أجزائه المختلفة لتعمل كلها في حركة منتظمة دون تصادم، ولا خلل فترة من الزمان! ثم يستطيع بعض التائهين الضالين المنحرفين أن يزعم أن هذا الكون الهائل المنظم الدقيق العجيب وجد واستمر بدون خالق مدبر. ويجد من يستطيع أن يسمع لهذا الهراء من العلماء!

ومع آية السماوات والأرض عجيبة اختلاف الألسنة والألوان بين بني الإنسان. ولا بد أنها ذات علاقة بخلق السماوات والأرض؛ فاختلاف الأجواء على سطح الأرض واختلاف البيئات - ذلك الاختلاف الناشئ من طبيعة وضع الأرض الفلكي - ذو علاقة باختلاف الألسنة والألوان مع اتحاد الأصل والنشأة في بني الإنسان.

وعلماء هذا الزمان يرون اختلاف اللغات والألوان؛ ثم يمرون عليه دون أن يروا فيه يد الله وآياته في خلق السماوات والأرض. وقد يدرسون هذه الظاهرة دراسة موضوعية، ولكنهم لا يقفون ليمجدوا الخالق المدبر للظواهر والبواطن. ذلك أن أكثر الناس لا يعلمون؛ (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (الروم: من الآية7). وآية خلق السماوات والأرض واختلاف الألسنـة والألـوان لا يراهـا إلا الذيـن يعلمـون: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ).

(وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ).

وهذه آية كذلك تجمع بين ظواهر كونية وما يتعلق بها من أحوال البشرية، وتربط بين هذه وتلك،وتنسق بينهما في صلب هذا الوجود الكبير؛ تجمع بين ظاهرتي الليل والنهار ونوم البشر ونشاطهم ابتغاء رزق الله الذي يتفضل به على العباد بعد أن يبذلوا نشاطهم في الكد والابتغاء، وقد خلقهم الله متناسقين مع الكون الذي يعيشون فيه، وجعل حاجتهم إلى النشاط والعمل يلبيها الضوء والنهار، وحاجتهم إلى النوم والراحة يلبيها الليل والظلام؛ مثلهم مثل جميع الأحياء على ظهر هذا الكوكب على نسب متفاوتة في هذا ودرجات. وكلها تجد في نظام الكون العام ما يلبي طبيعتها ويسمح لها بالحياة.

(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ).. والنوم والسعي سكون وحركة يدركان بالسمع. ومن ثم يتناسق هذا التعقيب في الآية القرآنية مع الآية الكونية التي تتحدث عنها على طريقة القرآن الكريم»(7).

وبعد استعراض هذه الآيات في سورة الـروم، وما علق به عليها الإمام ابن القيم، وابن كثير، وسيد قطب - رحمهم الله تعالى - يحسن بنا استعراض بعض آيات الله عز وجل في الأنفس بشيء من التفصيل الذي لا يتوصل إليه إلا بالتفكر والتبصر والتأمل:

يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «وإذا تأمّلت ما دعى الله سبحانه في كتابه عباده إلى الفكر فيه أوقعك على العلم به سبحانه وتعالى وبوحدانيته وصفات كماله ونعوت جلاله من: عموم قدرته وعلمه، وكمال حكمته ورحمته وإحسانه، وبرّه ولطفه وعدله ورضاه وغضبه، وثوابه وعقابه؛ فبهذا تعرّف إلى عباده وندبهم إلى التفكّر في آياته. ونذكر لذلك أمثلة مما ذكرها الله سبحانه في كتابه ليستدلّ بها على غيرها:

فمن ذلك خَلْقُ الإنسان وقد ندب سبحانه إلى التفكّر فيه والنظر في غير موضع من كتابه كقوله تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ) (الطارق:5)، وقوله تعالى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الذريات:21)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) (الحج: من الآية5)، وقال تعالى: (أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) (القيامة:36-40)، وقال تعالى: (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ) (المرسلات:20-23)، وقال: (أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (يّـس:77)، وقال: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون:12-14).

وهذا كثير في القرآن: يدعو العبد إلى النظر والفكر في مبدأ خلقه، ووسطه، وآخره؛ إذ نفسه وخلقه من أعظم الدلائل على خالقه وفاطره، وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه، وفيه من العجائب الدالة على عظمة الله ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضه، وهو غافل عنه مُعرِض عن التفكّر فيه؛ ولو فكر في نفسه لزجره ما يعلم من عجائب خلقها عن كفره؛ قال الله تعالى: (قُتِلَ الْأِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) (عبس:17-20)؛ فلم يكرر سبحانه على أسماعنا وعقولنا ذكر هذا لنسمع لفظ النطفة والعلقة والمضغة والتراب، ولا لنتكلم بها فقط، ولا لمجرد تعريفنا بذلك، بل لأمر وراء ذلك كله هو المقصود بالخطاب، وإليه جرى ذلك الحديث.

فانظـر الآن إلى النطفـة بعين البصيرة، وهي قطرة من ماء مهين ضعيف مستقذر، لو مرّت بها ساعة من الزمان فسدت وأنتنت، كيف استخرجها ربّ الأرباب العليم القدير من بين الصّلب والترائب؟! منقادة لقدرته، مُطيعة لمشيئته، مذلّلة الانقياد على ضيق طرقها واختلاف مجاريها، إلى أن ساقها إلى مستقرها ومجمعها، وكيف جمع سبحانه بين الذَّكَر والأُنثى، وألقى المحبّة بينهما؟ وكيف قادهما بسلسلة الشهوة والمحبة إلى الاجتماع الذي هو سبب تخليق الولد وتكوينه؟ وكيف قدَّر اجتماع ذينك الماءين مع بُعْد كل منهما عن صاحبه، وساقهما من أعماق العروق والأعضاء، وجمعهما في موضع واحد جعل لهما قرارًا مكينًا لا يناله هواء يُفسِده، ولا برد يجمّده، ولا عارِض يصل إليه، ولا آفة تتسلّط عليه؟ ثم قلب تلك النطفة البيضاء المُشرَبَة علقة حمراء تضرب إلى سواد، ثم جعلها مضغة لحم مخالفة للعلقة في لونها وحقيقتها وشكلها، ثم جعلها عظامًا مجرّدة لا كسوة عليها مُبايِنة للمضغة في شكلها وهيأتها وقدرها وملمسها ولونها.

وانظر كيف قسم تلك الأجزاء المتشابهة المتساوية إلى الأعصاب والعظام والعروق والأوتار واليابس والليّن وبين ذلك؟ ثم كيف ربط بعضها ببعض أقوى رباط وأشدّه وأبعده عن الانحلال؟ وكيف كساها لحمًا ركّبه عليها وجعله وعاءً لها وغشاءً وحافِظًا، وجعلها حاملة له مُقيمة له؟ فاللحم قائم بها وهي محفوظة به، وكيف صوّرها فأحسن صورها وشقّ لها السمع والبصر والفم والأنف وسائر المنافذ ومدّ اليدين والرجلين، وبسطهما، وقسم رؤوسهما بالأصابع، ثم قسم الأصابع بالأنامل وركّب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء كلّ واحد منها له قدر يخصّه ومنفعة تخصّه؟.

ثم انظر الحكمة البالغة في تركيب العظام قوامًا للبدن وعِمادًا له، وكيف قدّرها ربّها وخالقها بتقادير مختلفة، وأشكال مختلفة؟ فمنها الصغير والكبير والطويل والقصير والمنحني والمستدير والدقيق والعريض والمصمت والمجوّف، وكيف ركب بعضها في بعض؟ فمنها ما تركيبه تركيب الذَّكَر في الأُنثى، ومنها ما تركيبه تركيب اتصال فقط، وكيف اختلفت أشكالها باختلاف منافعها كالأضراس فإنها لمّا كانت آلة للطّحن جُعِلَت عريضة، ولمّا كانت الأسنان آلة للقطع جُعًلت مستدقّة محدّدة؟ ولمّا كان الإنسان محتاجًا إلى الحركة بجملة بدنه وببعض أعضائه للتردّد في حاجته لم يجعل عظامه عظمًا واحدًا، بل عظامًا متعدّدة، وجعل بينها مفاصل حتى تتيسّر بها الحركة، وكان قدر كلّ واحدٍ منها وشكله على حسب الحركة المطلوبة منه، وكيف شدّ أسْر تلك المفاصل والأعضاء وربط بعضها ببعض بأوتار ورِباطات أنبتها من أحد طرفي العظم وألصق أحد طرفي العظم بالطرف الآخر كالرِباط له؟ ثم جعل في أحد طرفي العظم زوائد خارجة عنه وفي الآخر نُقَرًا غائصة فيه موافقة لشكل تلك الزوائد ليدخل فيها وينطبق عليها، فإذا أراد العبد أن يحرّك جزء من بدنه لم يمتنع عليه، ولولا المفاصل لتعذّر ذلك عليه.

وتأمل كيفية خلق الرأس وكثرة ما فيه من العظام حتى قيل إنها خمسة وخمسون عظمًا مختلفة الأشكال والمقادير والمنافع، وكيف ركّبه سبحانـه وتعالى على البدن، وجعله عاليًا علوّ الراكب على مركوبه؟ ولمّا كان عاليًا على البدن جعل فيه الحواسّ الخمس وآلات الإدراك كلها من السمع والبصر والشمّ والذوق واللمس، وجعل حاسّة البصر في مقدّمه ليكون كالطليعة والحرس والكاشف للبدن، وركّب كل عين من سبع طبقات لكل طبقة وصف مخصوص ومقدار مخصوص ومنفعة مخصوصة؛ لو فقدت طبقة من تلك الطبقات السبع أو زالت عن هيئتها وموضعها لتعطّلت العين عن الإبصار. ثم أركز سبحانه داخل تلك الطبقات السبع خلقًا عجيبًا وهو إنسان العين - بقدر العدسة - يُبصِر به ما بين المشرق والمغرب والأرض والسماء، وجعله من العين بمنزلـة القلب من الأعضـاء، فهـو ملكها وتلك الطبقات والأجفان والأهداب خَدَم له وحِجاب وحُرّاس فتبارك الله أحسن الخالقين.

فانظر كيف حسّن شكل العينين وهيئتهما ومقدارهما؟ ثم جملهما بالأجفان غطاءً لهما وسترًا، وحفظًا وزينًة، فهما يتلقيان عن العين الأذى والقذا والغبار ويكنّانهما من البرد المؤذي، والحارّ المؤذي، ثم غرس في أطراف تلك الأجفان الأهداب جمالاً وزينًة ولمنافع أُخَر وراء الجمال والزينة. ثم أودعهما ذلك النور الباصِر والضوء الباهر الذي يخرق ما بين السماء والأرض، ثم يخرق السماء مجاوزًا لرؤية ما فوقها من الكواكب. وقد أودع سبحانه هذا السرّ العجيب في هذا المقدار الصغير بحيث تنطبع فيه صورة السماوات مع اتّساع أكنافها وتباعد أقطارها.

وشقّ له السمع، وخلق الأُذُن أحسن خلقة وأبلغها في حصول المقصود منها؛ فجعلها مجوفة كالصدفة لتجمع الصوت فتؤدّيه إلى الصماخ، وليحسّ بدبيب الحيوان فيها، فيبادر إلى إخراجه، وجعل فيها غضونًا وتجاويف واعوجاجات تمسك الهواء والصوت الداخل فتكسر حدّته ثم تؤدّيه إلى الصماخ. ومن حكمة ذلك أن يطول به الطريق على الحيوان فلا يصل إلى الصماخ حتى يستيقظ أو ينتبه لإمساكه. وفيه أيضًا حِكَم غير ذلك. ثم اقتضت حكمة الربّ الخالق سبحانه أن جعل ماء الأُذن مُرّاً في غاية المرارة، فلا يجاوزه الحيوان ولا يقطعه داخلاً إلى باطن الأُذُن بل إذا وصل إليه أعمل الحيلة في رجوعه، وجعل ماء العينين ملحًا ليحفظها؛ فإنها شحمة قابلة للفساد فكانت ملوحة مائها صيانةً لها وحِفظًا.وجعل ماء الفم عذبًا حُلوًا ليُدرك به طعوم الأشياء على ما هي عليه، إذ لو كان على غير هذه الصفة لأحالها إلى طبيعته، كما أن مَن عرض لفمه المرارة استمر طعم الأشياء التي ليست بمرّة كما قيل:

ومَن يكُ ذا فمٍ مرٍ مريضٍ                        يجد مُـرّاً به المـاء الزّلالا

ونصب سبحانه قضبة الأنف في الوجه فأحسن شكله وهيأته ووضعه، وفتح فيه المِنخَرين، وحجز بينهما بحاجز، وأودع فيهما حاسّة الشمّ التي تُدرَك بها أنواع الروائح الطيبة والخبيثة والنافعة والضارّة، وليستنشق به الهواء فيوصله إلى القلب، فيتروّح به ويتغذّى به، ثم لم يجعل في داخله في الاعوجاجات والغضون ما جعل في الأُذُن لئلا يمسك الرائحة فيضعفها، ويقطع مجراها، وجعله سبحانه مصبّاً تنحدر إليه فضلات الدماغ فتجتمع فيه ثم تخرج منه. واقتضت حكمته أن جعل أعلاه أدقّ من أسفله لأن أسفله إذا كان واسعًا اجتمعت فيه تلك الفضلات فخرجت بسهولة، ولأنه يأخذ من الهواء ملأه، ثم يتصاعد في مجراه قليلاً حتى يصل إلى القلب وصولاً لا يضرّه ولا يزعجه، ثم فصل بين المِنخَرَين بحاجز بينهما حكمة منه ورحمة؛ فإنه لمّا كان قصبةً ومجرى ساترًا لما يتحدر فيه من فضلات الرأس ومجرى النفس الصاعد منه جعل في وسطه حاجزًا لئلا يفسد بما يجري فيه فيمنع نشقه للنفس، بل إما أن تعتمد الفضلات نازلة من أحد المنفذين في الغالب، فيبقى الآخر للتنفّس، وإما أن يجري فيهما فينقسم فلا ينسدّ الأنف جملةً بل يبقى فيه مدخل للتنفّس. وأيضًا فإنه لمّا كان عضوًا واحدًا وحاسّةً واحدًة ولم يكن عضوين وحاسّتين كالأُذُنين والعينين اللتين اقتضت الحكمة تعدّدهما، فإنه ربما أُصيبت إحداهما أو عرضت لها آفة تمنعها من كمالها فتكون الأخرى سالمة فلا تتعطّل منفعة هذا الحسّ جملةً، وكان وجود أنفين في الوجه شيئًا ظاهرًا فنصب فيه أنفًا واحدًا وجعل فيه منفذين حجز بينهما بحاجز يجري مجرى تعدّد العينين والأُذنين في المنفعة وهو واحد فتبارك الله ربّ العالمين وأحسن الخالقين.

وشقّ سبحانه للعبد الفم في أحسن موضع وأليقه به، وأودع فيه من المنافع وآلات الذوق والكلام، وآلات الطحن والقطع ما يُبهِر العقول عجائبه؛ فأودعه اللسان الذي هو أحد آياته الدّالة عليه، وجعله ترجمانًا لملك الأعضاء مبيِّنًا مؤدّيًا عنه، كما جعل الأُذن رسولاً مؤدّيًا مُبلِّغًا إليه؛ فهي رسوله وبريده الذي يؤدّي إليه الأخبار، واللسان بريده ورسوله الذي يؤدّي عنه ما يريد.

واقتضت حكمته سبحانه أن جعل هذا الرسول مَصونًا محفوظًا مستورًا غير بارز مكشوف كالأُذُن والعين والأنف؛ لأن تلك الأعضاء لمّا كانت تؤدّي من الخارج إليها جعلت بارزة ظاهرة، ولمّا كان اللسان مؤدّيًا منه إلى الخارج جعل له سِترًا مصونًا لعدم الفائدة في إبرازه؛ لأنه لا يأخذ من الخارج إلى القلب. وأيضًا فلأنه لمّا كان أشرف الأعضاء بعد القلب، ومنزلته منه منزلة ترجمانه ووزيره ضرب عليه سرادق تستره وتصونه، وجعل في ذلك السرادق كالقلب في الصدر. وأيضًا فإنه من ألطف الأعضاء وألينها وأشدّها رطوبةً، وهو لا يتصرّف إلاّ بواسطة الرطوبة المحيطة به. فلو كان بارزًا صار عُرضةً للحرارة واليبوسة والنشاف المانع له من التصرّف، ولغير ذلك من الحِكَم والفوائد.

ثم زيّن سبحانه الفم بما فيه من الأسنان التي هنّ جمال له وزينة، وبهما قوام العبد وغذاؤه، وجعل بعضها أرحاء للطحن، وبعضها آلة للقطع، فأحكم أُصولها، وحدّد رؤوسها، وبيّض لونها، ورتّب صفوفها متساوية الرؤوس متناسقة الترتيب كأنها الدّر المنظوم بياضًا وصفاءً وحُسْنًا. وأحاط سبحانه على ذلك حائطين، وأودعهما من المنافع والحِكَم ما أودعهما، وهما الشفتان، فحسن لونهما وشكلهما ووضعهما وهيأتهما، وجعلهما غطاءً للفم وطبقًا له، وجعلهما إتمامًا لمخارج حروف الكلام ونهاية له، كما جعل أقصى الحلق بدايةً له، واللسان وما جاوره وسطًا. ولهذا كان أكثر العمل فيها له إذ هو الواسطة. واقتضت حكمته أن جعل الشّفتين لحمًا صرفًا لا عظم فيه ولا عصب ليتمكّن بهما من مصّ الشراب، ويسهل عليه فتحهما وطبقهما. وخصّ الفكّ الأسفل بالتحريك؛ لأن تحريك الأخفّ أحسن، ولأنه يشتمل على الأعضاء الشريفة فلم يخاطر بها في الحركة.

وخلق سبحانه الحناجر مختلفة الأشكال في الضيق والسِّعة والخشونة والملامسة والصلابة واللّين والطول والقصر، فاختلفت بذلك الأصوات أعظم اختلاف، ولا يكاد يشتبه صوتان إلاَّ نادرًا. ولهذا كان الصحيح قبول شهادة الأعمى لتمييزه بين الأشخاص بأصواتهم، كما يميّز البصير بينهم بصورهم. والاشتباه العارض بين الأصوات كالاشتباه العارض بين الصور.

وزيّن سبحانه الرأس بالشعر وجعله لباسًا له لاحتياجه إليه، وزيّن الوجه بما أنبت فيه من الشعور المختلفة الأشكال والمقادير؛ فزّينه بالحاجبين، وجعلهما وقاية لما يتحدّر من بشرة الرأس إلى العينين، وقوّسهما وأحسن خطّهما، وزيّن أجفان العينين بالأهداب، وزيّن الوجه أيضًا باللحية، وجعلها كمالاً ووقارًا ومهابًة للرجل، وزيّن الشفتين بما أنبت فوقهما من الشارب وتحتهما من العنفقة.

وكذلك خلقه سبحانه لليدين اللتين هما آلة العبد، وسلاحه ورأس مال معاشه، فطوّلهما بحيث يصلان إلى ما شاء من بدنه، وعرّض الكفّ ليتمكّن به من القبض والبَسْط، وقسم فيه الأصابع الخمس، وقسم كل إصبع بثلاث أنامل، والإبهام باثنتين، ووضع الأصابع الأربعة في جانب والإبهام في جانب، لتدوّر الإبهام على الجميع فجـاءت على أحسن وضـع صَلُحَت بــه للقبض والبسط ومباشرة الأعمال. ولو اجتمع الأوّلون والآخـرون على أن يستنبطوا بدقيـق أفكـارهم وضعًا آخـر للأصابع سوى ما وضعت عليه لم يجدوا إليه سبيلاً، فتبارك مَن لو شاء لسوّاها وجعلها طبقًا واحدًا كالصفيحة، فلم يتمكّن العبد بذلك من مصالحه، وأنواع تصرّفاته، ودقيق الصنائع والخطّ وغير ذلك، فإن بسط أصابعه كانت طبقًا يضع عليه ما يريد، وإن ضمّها وقبضها كانت دبوسًا وآلة للضرب، وإن جعلها بين الضمّ والبَسْط كانت مِغرَفًة له يتناول بها وتمسك فيها ما يتناوله. وركّب الأظافر على رؤوسها زينةً وعمادًا ووقاية، وليلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا ينالها جسم الأصابع، وجعلها سلاحًا لغيره من الحيوان والطير، وآلة لمعاشه، وليحكّ الإنسان بها بدنه عند الحاجة؛ فالظفر الذي هو أقلّ الأشياء وأحقرها لو عدمه الإنسان ثم ظهرت به حكّة لاشتدّت حاجته إليه ولم يقم مقامه شيء في حك بدنه، ثم هدى اليد إلى موضع الحك حتى تمتد إليه ولو في النوم والغفلة من غير حاجة إلى طلب، ولو استعان بغيره لم يعثر على موضع الحكّ إلاّ بعد تعب ومشقًة.

ثم انظر إلى الحكمة البالغة في جعل عظام أسفل البدن غليظة قوية لأنها أساس له، وعظام أعاليه دونها من الثخانة والصلابة لأنها محمولة.

ثم انظر كيف جعل الرقبة مركبًا للرأس؟ وركبّها من سبع خرزات مجوّفات مستديرات، ثم طبّق بعضها على بعض، وركَّب كل خرزة تركيبًا مُحكَمًا متقنًا حتى صارت كأنها خرزة واحدة. ثم ركّب الرقبة على الظهر والصدر. ثم ركّب الظهر من أعلاه إلى منتهى عظم العجز من أربع وعشرين خرزة مركّبة بعضها في بعض؛ هي مجمع أضلاعه والتي تمسكها أن تنحل وتنفصل، ثم وصل تلك العظام بعضها ببعض فوصل عظام الظهر بعظام الصدر، وعظام الكتفين بعظام العضدين، والعضدين بالذراعين، والذراعين بالكفّ والأصابع.

وانظر كيف كسا العظام العريضة كعظام الظهر والرأس كسوة من اللحم تناسبها، والعظام الدقيقة كسوة تناسبها كالأصابع، والمتوسطة كذلك كعظام الذراعين والعضدين؛ فهو مركّب على ثلاثمائة وستين عظمًا: مائتان وثمانية وأربعون مفاصل؛ وباقيها صغار حُشِيَت خلال المفاصل، فلو زادت عظمًا واحدًا لكان مضرّة على الإنسان يحتاج إلى قلعه، ولو نقصت عظمًا واحدًا كان نقصانًا يحتاج إلى جبر؛ فالطبيب ينظر في هذه العظام وكيفية تركيبها ليعرف وجه العلاج في جبرها، والعارف ينظر فيها ليستدلّ بها على عظمة باريها وخالقها وحكمته وعلمه ولطفه، وكم بين النظرين.

ثم إنه سبحانه ربط تلك الأعضاء والأجزاء بالرباطات فشدّ بها أسرها، وجعلها كالأوتار تمسكها وتحفظها حتى بلغ عددها إلى خمسمائة وتسعة وعشرين رباطًا. وهي مختلفة في الغلظ والدقّة والطول والقصر والاستقامة والانحناء بحسب اختلاف مواضعها ومحالها، فجعل منها أربعة وعشرين رباطًا آلة لتحريك العين وفتحها وضمّها وإبصارها؛ لو نقصت منهنّ رباطًا واحدًا اختلّ أمر العين. وهكذا لكل عضو من الأعضاء رباطات هنّ له كالآلات التي بها يتحرّك ويتصرّف ويفعل. كل ذلك صنع الربّ الحكيم وتقدير العزيز العليم في قطرة ماء مهين فويل للمكذّبين وبُعدًا للجاحدين.

ومن عجائب خلقه أنه جعل في الرأس ثلاث خزائن نافذًا بعضها إلى بعض: خزانة في مقدمه، وخزانة في وسطه، وخزانه في آخره. وأودع تلك الخزائن من أسراره ما أودعها من الذّكر والفكر والعقل.

ومن عجائب خلقـه ما فيـه من الأمـور الباطنة التي لا تشاهد؛ كالقلب والكبد والطحال والرئة والأمعاء والمثانة وسائر ما في بطنه من الآلات العجيبة والقوى المتعددة المختلفة المنافع.

فأما القلب فهو الملك المستعمل لجميع آلات البدن والمستخدم لها؛ فهو محفوف بها محشود مخدوم مستقر في الوسط، وهو أشرف أعضاء البدن وبه قوام الحياة، وهو منبع الروح الحيواني والحرارة الغريزية، وهو معدن العقل والعلم والحلم والشجاعة والكرم والصبر والاحتمال والحبّ والإرادة والرضا والغضب، وسائر صفات الكمال؛ فجميع الأعضاء الظاهرة والباطنة وقواها إنما هي جند من أجناد القلب؛ فإن العين طليعته ورائده الذي يكشف له المرئيات؛ فإن رأت شيئًا أدّته إليه، ولشدّة الارتباط الذي بينها وبينه إذا استقر فيه شيء ظهر فيها، فهي مرآته المترجمة للناظر ما فيه؛ كما أن اللسان ترجمانه المؤدّي للسمع ما فيه؛ ولهذا كثيرًا ما يقرن سبحانه في كتابه بين هذه الثلاث كقوله: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء: من الآية36)، وقوله: (وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً) (الأحقاف: من الآية26)، وقوله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) (البقرة: من الآية18)، وقد تقدم ذلك.

وكذلك يقرن بين القلب والبصر كقوله: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ) (الأنعام: من الآية110)، وقوله في حقّ رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) (النجم:11)، ثم قال: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) (النجم:17). وكذلك الأُذن هي رسوله المؤدّي إليه، وكذلك اللسان ترجمانه، وبالجملة فسائر الأعضاء خَدَمَه وجنوده؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب»(8). وقال أبو هريرة رضي الله عنه: «القلب ملك والأعضاء جنوده فإن طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث الملك خبثت جنوده ...»)(9).

إلى أن قال رحمه الله تعالى: «فمن ذا الذي تولى ذلك كله وأحكمه ودبَّره وقدَّره أحسن تقدير؟ وكأني بك أيها المسكين تقول هذا كله من فعل الطبيعة. وفي الطبيعة عجائب وأسرار فلو أراد الله أن يهديك لسألت نفسك بنفسك وقلت: أخبرني عن هذه الطبيعة: أهي ذاتٌ قائمة بنفسها لها علم وقدرة على هذه الأفعال العجيبة؟ أم ليست كذلك بل عرض وصفة قائمة بالمطبوع تابعة له محمولة فيه؟ فإن قالت لك: بل هي ذات قائمة بنفسها لها العلم التامّ والقدرة والإرادة والحكمة، فقل لها: هذا هو الخالق البارئ المصوّر، فلِمَ تسمينه طبيعة؟ ويا لله من ذكر الطبائع ومَن يرغب فيها؛ فهلاّ سمّيته بما سمّى به نفسه على ألسن رُسُله ودخلت في جملة العقلاء والسعداء؟! فإن هذا الذي وصفت به الطبيعة صفته تعالى. وإن قالت لك: بل الطبيعة عرض محمول مُفتَقِر إلى حامل،وهذا كله فعلها بغير علم منها، ولا إرادة ولا قدرة ولا شعور أصلاً، وقد شُوهِدَ من آثارها ما شُوهِدَ، فقل لها: هذا ما لا يصدّقه ذو عقل سليم؛ كيف تصدُر هذه الأفعال العجيبة والحِكَم الدقيقة التي تعجز عقول العقلاء عن معرفتها، وعن القدرة عليها ممّن لا عقل له ولا قدرة ولا حكمة ولا شعور؟! وهل التصديق بمثل هذا إلاَّ دخول في سلك المجانين والمبرسمين؟ ثم قل لها بعد: ولو ثبت لك ما ادّعيت فمعلوم أن مثل هذه الصفة ليست بخالقة لنفسها، ولا مُبدِعة لذاتها، فمَن ربّها ومُبدِعها وخالقها؟ ومَن طبعها وجعلها تفعل ذلك؟ فهي إذًا من أدلّ الدلائل على بارئها وفاطرها، وكمال قدرته وعلمه وحكمته، فلم يُجْدِ عليك تعطيلك ربّ العالم وجحدك لصفاته وأفعاله إلاّ مخالفتك العقل والفطرة، ولو حاكمناك إلى الطبيعة لرأيناك أنك خارج عن موجبها؛ فلا أنت مع موجب العقل والفطرة، ولا الطبيعة ولا الإنسانية أصلاً. وكفى بذلك جهلاً وضلالاً؛ فإن رجعت إلى العقل وقلت: لا يوجد حكمة إلاَّ من حكيم قادر عليم، ولا تدبير متقن إلاّ من صانع قادر مختارٍ مدبّر عليم بما يريد قادر عليه لا يُعجزه ولا يؤوده، قيل لك: فإذا أقررت ويحك بالخلاّق العظيم الذي لا إله غيره ولا ربّ سواه، فدع تسميته طبيعة أو عقلاً فعّالاً، أو موجِبًا بذاته وقل: هذا هو الله الخالق البارئ المصوّر، ربّ العالمين، وقيّوم السماوات والأرضين، وربّ المشارق والمغارب، الذي أحسن كل شيء خلقه وأتقن ما صنع، فما لك جحدت أسماءه وصفاته وذاته، وأضفت صنيعه إلى غيره، وخلقه إلى سواه؛ مع أنك مضطر إلى الإقرار به وإضافة الإبداع والخلق والربوبية والتدبير إليه ولا بدّ والحمد لله ربّ العالمين. على أنك لو تأمّلت قولك: طبيعة ومعنى هذه اللفظة لدلّك على الخالق البارئ لفظها، كما دلّ العقول عليه معناها؛ لأن طبيعة فعيلة بمعنى مفعولة أي مطبوعة، ولا يحتمل غير هذا البتّة؛ لأنها على بناء الغرائز التي رُكِّبت في الجسم ووُضِعَت فيه، كالسجيّة والغريزة والبحيرة والسليقة والطبيعة؛ فهي التي طُبِعَ عليها الحيوان وطُبعت فيه. ومعلوم أن طبيعة من غير طابع لها محال، فقد دلّ لفظ الطبيعة على البارئ تعالى كما دلّ معناها عليه. والمسلمون يقولون: إن الطبيعة خلق من خلق الله مُسَخَر مربوب، وهي سُنَّته في خليقته التي أجراها عليه، ثم أنه يتصرّف فيها كيف شاء، وكما شاء فيسلبها تأثيرها إذا أراد، ويقلّب تأثيرها إلى ضدّه إذا شاء ليُرِي عباده أنه وحده الخالق البارئ المُصوّر، وأنه يخلق ما يشاء كما يشاء: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يّـس:82).وإن الطبيعة التي انتهى نظر الخفافيش إليها إنما هي خلق من خلقه بمنزلة سائر مخلوقاته، فكيف يحسُن بمَن له حظّ من إنسانية أو عقل أن ينسى من طبعها وخلقها، ويحيل الصّنع والإبداع عليها؟ ولم يزل الله سبحانه يسلبها قوّتها ويحيلها ويقلبها إلى ضدّ ما جعلت له حتى يرى عباده أنها خلقه وصنعه ومسخّرة بأمره (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف: من الآية54)...

... من أين للطبيعة هذا الاختلاف والفرق الحاصل في النوع الإنساني بين صورهم؛ فَقَلّ أن يُرَى اثنان متشابهان من كل وجه وذلك من أندر ما في العالم، بخلاف أصناف الحيوان كالنّعم والوحوش والطير وسائر الدوابّ؛ فإنك ترى السرب من الظّباء، والثلّة من الغنم، والذّود من الإبل، والصّوار من البقر تتشابه حتى لا يفرّق بين واحد منها وبين الآخر إلاّ بعد طول تأمّل، أو بعلامة ظاهرة، والناس مختلفة صورهم وخلقتهم فلا يكاد اثنان منهم يجتمعان في صفة واحدة وخلقة واحدة، بل ولا صوت واحد وحنجرة واحدة. والحكمة البالغة في ذلك أن الناس يحتاجون إلى أن يتعارفوا بأعينهم وحُلاهم لما يجري بينهم من المعاملات، فلولا الفرق والاختلاف في الصور لفسدت أحوالهم، وتشتّت نظامهم، ولم يعرف الشاهد من المشهود عليه، ولا المَدين من ربّ الدَّين، ولا البائع من المشتري، ولا كان الرجل يعرف عروسه من غيرها للاختلاط، ولا هي تعرف بعلها من غيره، وفي ذلك أعظم الفساد والخلل. فمن الذي ميّز بين حُلاهم وصورهم وأصواتهم، وفرّق بينها بفروق لا تنالها العبارة ولا يدركها الوصف؟ فسَلْ المُعَطّل أهذا فعل الطبيعة؟ وهل في الطبيعة اقتضاء هذا الاختلاف والافتراق في النوع؟ وأين قول الطبائعيين أن فعلها متشابه لأنها واحدة في نفسها لا تفعل بإرادة ولا مشيئة فلا يمكن اختلاف أفعالها؟ فكيف يجمع المعطّل بين هذا وهذا؟ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور. وربما وقع في النوع الإنساني تشابه بين اثنين لا يكاد يميّز بينهما، فتعظم عليهم المؤنة في معاملتهما، وتشتدّ الحاجة إلى تمييز المستحقّ منهما والمؤاخذ بذنبه ومن عليه الحق. وإذا كان هذا يعرض في التشابه في الأسماء كثيرًا ويلقى الشاهد والحاكم من ذلك ما يلقى، فما الظن لو وضع التشابه في الخلقة والصورة. ولمّا كان الحيوان البهيم والطير والوحوش لا يضرّها هذا التشابه شيئًا لم تَدْع الحكمة إلى الفرق بين كل زوجين منها. فتبارك الله أحسن الخالقين الذي وَسِعَت حكمته كل شيء»(10).

ويقول في موطن آخر: «ثم تأمل حكمة الله عزّ وجلّ في الحفظ والنسيـان الذي خصّ بـه نـوع الإنسان، ومـا لـه فيهما من الحِكَم، وما للعبد فيهما من المصالح؛ فإنه لولا القوة الحافظة التي خُصَّ بها لدخل عليه الخلل في أموره كلها، ولم يعرف ما له وما عليه، ولا مـا أخذ ولا مـا أعطى، ولا مـا سمع ورأى، ولا مـا قال ولا ما قيل له، ولا ذكر من أحسن إليه ولا من أساء إليه، ولا من عامله ولا من نفعه فيقرب منه، ولا من ضرّه فينأى عنه؛ ثم كان لا يهتدي إلى الطريق الذي سلكه أول مرة ولو سلكه مرارًا، ولا يعرف علمًا ولو درسه عمره،ولا ينتفع بتجربة، ولا يستطيع أن يعتبر شيئًا على ما مضى بل كان خليقًا أن ينسلخ من الإنسانية أصلاً. فتأمّل عظيم المنفعة عليك في هذه الخلال وموقع الواحدة منها فضلاً عن جميعهنّ.

ومن أعجب النِّعَم عليه نعمة النسيان؛ فإنه لولا النسيان لَمَا سَلاَ شيئًا ولا انقضت له حسرة ولا تعزّى عن مصيبة ولا مات له حزن، ولا تمتّع بشيء من متـاع الدنيـا مع تذكّـر الآفـات، ولا رجـا غفلة عدو، ولا نقمة من حاسد؛ فتأمّل نعمة الله في الحفظ والنسيان مع اختلافهما وتضادّهما وجعله في كل واحد منهما ضربًا من المصلحة.

ثم تأمّل هذا الخُلُق الذي خصّ به الإنسان دون جميع الحيوان وهو خُلُق الحياء، الذي هو من أفضل الأخلاق، وأجلّها وأعظمها قدرًا وأكثرها نفعًا، بل هو خاصّة الإنسانية؛ فمَن لا حياء فيه ليس معه من الإنسانية إلاّ اللحم والدم وصورتهما الظاهرة، كما أنه ليس معه من الخير شيء،ولولا هذا الخلق لم يقر الضيف، ولم يُوفِ بالوعد، ولم تؤدّ أمانة، ولم يقض لأحد حاجة، ولا تحرّى الرجل الجميل فآثره والقبيح فتجنّبه، ولا ستر له عورة، ولا امتنع من فاحشة. وكثير من الناس لولا الحياء الذي فيه لم يؤدّ شيئًا من الأمور المفترضة عليه، ولم يرع لمخلوق حقًا، ولم يَصِل له رحمًا ولا برَّ له والدًا»(11).

وقال أيضًا: «تأمّل نعمة الله على الإنسان بالبيانين: البيان النطقي، والبيان الخطي. وقد اعتدّ بهما سبحانه في جملة ما اعتدّ به من نعمه على العبد؛ فقال في أول سورة أُنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق:1-5) ... فذكر التعليم بالقلم الذي هو من أعظم نعمه على عباده؛ إذ به تخلد العلوم، وتثبت الحقوق، وتعلم الوصايا، وتحفظ الشهادات، ويضبط حساب المعاملات الواقعة بين الناس، وبه تقيّد أخبار الماضين للباقين اللاّحقين. ولولا الكتابة لانقطعت أخبار بعض الأزمنة عن بعض، ودُرِسَت السُّنن وتخبّطت الأحكام، ولم يعرف الخلف مذاهب السّلف، وكان معظم الخلل الداخل على الناس في دينهم ودنياهم إنما يعتريهم من النسيان الذي يمحو صور العلم من قلوبهم؛ فجعل لهم الكتاب وعاءً حافظًا للعلم من الضياع كالأوعية التي تحفظ الأمتعة من الذهاب والبطلان؛ فنعمة الله عزّ وجلّ بتعليم القلم بعد القرآن من أجلّ النّعم. والتعليم به وإن كان مما يخلص إليه الإنسان بالفطنة والحيلة فإنه الذي بلغ به ذلك وأوصله إليه عطية وهبها الله منه، وفضل أعطاه الله إياه، وزيادة في خلقه وفضله؛ فهو الذي علّمه الكتابة، وإن كان هو المتعلِّم ففِعله فِعْل مطاوع لتعليم الذي علّم بالقلم؛ فإنه علمه فتعلَّم كما أنه علَّمه الكلام فتكلَّم. هذا ومن أعطاه الذهن الذي يَعي به، واللسان الذي يترجم به، والبَنان الذي يخط به؟ ومن هيأ ذهنه لقبول هذا التعليم دون سائر الحيوانات؟ ومَن الذي أنطق لسانه وحرّك بنانه؟ ومَن الذي دعّم البنان بالكفّ، ودعّم الكفّ بالساعد؟ فكم لله من آية نحن غافلون عنها في التعلّم بالقلم. فقف وقفة في حال الكتابة وتأمّل حالك وقد أمسكت القلم وهو جماد، ووضعته على القرطاس وهو جماد فتولّد من بينهما أنواع الحِكَم، وأصناف العلوم، وفنون المراسلات، والخطب والنظم والنثر، وجوابات المسائل. فمَن الذي أجرى تلك المعاني على قلبك ورسمها في ذهنك ثم أجرى العبارات الدالّة عليها على لسانك، ثم حرّك بها بنانك حتى صارت نقشًا عجيبًا معناه أعجب من صورته؛ فتقضي به مآربك وتبلغ به حاجة في صدرك، وترسله إلى الأقطار النائية والجهات المتباعدة؛ فيقوم مقامك، ويترجم عنك، ويتكلم على لسانك، ويقوم مقام رسولك، ويجدي عليك ما لا يجدي من ترسُله سوى مَن علّم بالقلم الإنسان ما لم يعلم ...»(12).

وفي خاتمة هذا الفصل والذي قبله - والذي تبين فيهما بديع صنع الله عزّ وجلّ، وحكمته البالغة وعظمته ورحمته فيما خلق في الآفاق وفي الأنفس - أنقل كلامًا نفيسًا للإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - بيَّن فيه شهادة الفطرة والعقل والسمع على سعة علمه سبحانه، ورحمته وحكمته سبحانه في خلقه وأمره، وأن ما خفي على العقول من حكمته سبحانه في ذلك كثير وكثير، وأن المؤمن يرد ما غاب عنه من الحكمة على ما ظهر منها، فيذعن ويسلم، ويخضع لربه العليم الحكيم الرحيم العظيم، الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى.

يقول رحمه الله تعالى: «قد شهدت الفِطَر والعقول بأن للعالم ربّاً قادرًا حليمًا عليمًا رحيمًا كاملاً في ذاته وصفاته، لا يكون إلاّ مُريدًا للخير لعباده، مُجرِيًا لهم على الشريعة والسُّنّة الفاضلة العائدة باستصلاحهم، الموافقة لما ركّب في عقولهم من استحسان الحسن واستقباح القبيح، وما جبل طِباعهم عليه من إيثار النافع لهم المُصلِح لشأنهم، وترك الضارّ المُفسِد لهم، وشهدت هذه الشريعة له بأنه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، وأنه المحيط بكل شيء علمًا، الذي لا يشاركه في علمه ولا حكمته أحد أبدًا؛ فحسب العقول الكاملة أن تستدل بما عرفت من حكمته على ما غاب عنها، وتعلم أن له حكمة في كل ما خلقه وأمر به، وشرعه. وهل تقتضي الحكمة أن يخبر الله تعالى كل عبد من عباده بكل ما يفعله، ويوقفهم على وجه تدبيره في كل ما يريده، وعلى حكمته في صغير ما ذرأ وبرأ من خليقته؟ وهل في قوى المخلوقات ذلك؟ بل طوى سبحانه كثيرًا من صنعه وأمره عن جميع خلقه فلم يُطلِع على ذلك ملكًا مقرّبًا ولا نبيّاً مرسلاً.

والمدبّر الحكيم من البشر إذا ثبتت حكمته، وابتغاؤه الصلاح لمن تحت تدبيره وسياسته كفى في ذلك تتبّع مقاصده فيمَن يولي ويعزل، وفي جنس ما يأمر به وينهى عنه، وفي تدبيره لرعيّته وسياسته لهم دون تفاصيل كل فعل من أفعاله؛ اللّهمَّ إلاّ أن يبلغ الأمر في ذلك مبلغًا لا يوجد لفعله منفذ ومساغ في المصلحة أصلاً؛ فحينئذ يخرج بذلك عن استحقاق اسم الحكيم. ولن يجد أحد في خلق الله، ولا في أمره، ولا واحدًا من هذا الضرب؛ بل غاية ما تُخرجه نفس المتعنّت أمور يعجز العقل عن معرفة وجوهها وحكمتها. وأما أن ينفي ذلك عنها فمعاذ الله، إلاّ أن يكون ما أخرجه كذب على الخلق والأمر، فلم يخلق الله ذلك ولا شرعه. وإذا عرف هذا فقد عُلم أن ربّ العالمين أحكم الحاكمين، والعالم بكل شيء، والغني عن كل شيء، والقادر على كل شيء. ومن هذا شأنه لم تخرج أفعاله وأوامره قطّ عن الحكمة والرحمة والمصلحة. وما يخفى على العباد من معاني حكمته في صنعه وإبداعه وأمره وشرعه فيكفيهم فيه معرفته بالوجه العامّ أن تضمَّنته حكمة بالغة وإن لم يعرفوا تفصيلها، وأن ذلك من علم الغيب الذي استأثر الله به؛ فيكفيهم في ذلك الإسناد إلى الحكمة البالغة العامّة الشاملة التي علموا ما خفي منها بما ظهر لهم ...»(13).

 


(1) انظر: (ص 23).

(2) «تفسير ابن كثير» عند الآية: (53) من سورة فصلت.

(3) «تفسير ابن كثير» عند الآية: (21) من سورة الذاريات.

(4) «في ظلال القرآن»: (6/3379، 3380).

(5) «مفتاح دار السعادة»: (1/192، 193) باختصار.

(6) «تفسير ابن كثير» عند الآية: (20) من سورة الروم.

(7) «في ظلال القرآن»: (5/2763، 2764).

(8) البخاري (52)، مسلم (1599).

(9) «مفتاح دار السعادة»: (1/193-199).

(10) «مفتاح دار السعادة»: (1/271، 278) باختصار.

(11) «مفتاح دار السعادة»: (1/288).

(12) «مفتاح دار السعادة»: (1/289، 290). باختصار.

(13) «مفتاح دار السعادة»: (1/317، 318).


 

الفصل الرابع

التفكر في آلاء الله عز وجل ونعمه الظاهرة والباطنة

يدعو الله عز وجل في كتابه الكريم عباده إلى التبصر والتفكر في نعمه العظيمة، وآلائه الجسيمة التي لا تعد ولا تحصى. وقد مر بنا في فصل سابق مجموعة من الآيات في كتاب الله عزّ وجلّ التي فيها بيان نعمة الله عزّ وجلّ وفضله العظيم على عباده، والإرشاد إلى التفكر فيها، وشكر المنعم بها، وعبادته وحده لا شريك له(1). كما أن الدعوة إلى التفكر في آيات الله تعالى في الآفاق وفي النفس والتي مرت بنا في الفصلين السابقين هي في حقيقتها دعوة إلى التفكر في نعمة الله عز وجل في خلقها وتسخيرها للإنسان.

وفي هذا الفصل سأتناول إن شاء الله تعالى آيات النعم المذكورة في سورتي إبراهيم والنحل؛ وذلك بشيء من التفصيل، ثم أُتْبِع ذلك بعض ما قاله السلف حول نعم الله تعالى وآلائه التي لا تحصى، وما هو واجب المسلم تجاهها.

أولاً: الآيات الواردة في سورة إبراهيم:

ذكر الله عز وجل في هذه السورة ما سخَّره سبحانه وتعالى لعباده من النعم والآلاء؛ حيث يقول سبحانه: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (إبراهيم:32-34).

يقول الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «يعدد تعالى نعمه على خلقه بأن خلق لهم السماوات سقفًا محفوظًا، والأرض فراشًا (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى) (طـه: من الآية53) ما بين ثمار وزروع مختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح والمنافع، وسخر الفلك بأن جعلها طافية على تيار ماء البحر تجري عليه بأمر الله تعالى، وسخر البحر لحملها ليقطع المسافرون بها من أقليم إلى أقليم آخر، لجلب ما هنا إلى هناك، وما هناك إلى هنا، وسخر الأنهار تشق الأرض من قطر إلى قطر، رزقًا للعباد من شرب وسقي وغير ذلك من أنواع المنافع، (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ) أي: يسيران لا يفتران ليلا ولا نهارًا؛ (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يّـس:40)، (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف: من الآية54)، فالشمس والقمر يتعاقبان، والليل والنهار يتعارضان، فتارة يأخذ هذا من هذا فيطول، ثم يأخذ الآخر من هذا فيقصر (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (لقمان: من الآية29)، وقوله: (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ) (إبراهيم: من الآية34) يقول: هيأ لكم كل ما تحتاجون إليه في جميع أحوالكم مما تسألونه بحالكم. وقال بعض السلف: من كل ما سألتموه وما لم تسألوه. وقرأ بعضهم: (وآتاكم من كل ما سألتموه. وما لم تسألوه). وقوله: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) (إبراهيم: من الآية34)، يخبر تعالى عن عجز العباد عن تعداد النعم فضلاً عن القيام بشكرها؛ كما قال طلق بن حبيب رحمه الله: إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد، وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن أصبحوا تائبين وأمسوا تائبين. وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم لك الحمد غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا ...»(2).

 

وقد روي في الأثر أن داود عليه السلام قال: يا رب كيف أشكرك وشكري لك نعمة منك علي؟ فقال الله تعالى: الآن شكرتني يا داود، أي حين اعترفت بالتقصير عن أداء شكر النعم. وقال الإمام الشافعي في ذلك:

لـو كـل جـارحـة منـي لهـا لغـة

تثنى عليك بمـا أوليت من حسـن

لكان ما زاد شكري إذا شكرت به

إليك أبلغ في الإحســـان والمنن»(3)

ويعلق سيد قطب - رحمه الله تعالى - على هذه الآيات بقوله: «أفكل هذا مسخر للإنسان؟ أفكل هذا الكون الهائل مسخر لذلك المخلوق الصغير؟ السماوات ينزل منها الماء، والأرض تتلقاه، والثمرات تخرج من بينهما، والبحر تجري فيه الفلك بأمر الله مسخرة، والأنهار تجري بالحياة والأرزاق في مصلحة الإنسان، والشمس والقمر مسخران دائبان لا يفتران، والليل والنهار يتعاقبان. أفكل أولئك للإنسان ثم لا يشكر ولا يذكر؟

(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ): والزرع مورد الرزق الأول،ومصدر النعمة الظاهر. والمطر والإنبات كلاهما يتبع السنة التي فطر الله عليها هذا الكون، ويتبع الناموس الذي يسمح بنزول المطر، وإنبات الزرع وخروج الثمر، وموافقة هذا كله للإنسان. وإنبات حبة واحدة يحتاج إلى القوة المهيمنة على هذا الكون كله لتسخر أجرامه وظواهره في إنبات هذه الحبة، وإمدادها بعوامل الحياة من تربة وماء وأشعة وهواء.

والناس يسمعون كلمة «الرزق» فلا يتبادر إلى أذهانهم إلا صورة الكسب للمال. ولكن مدلول «الرزق» أوسع من ذلك كثيرًا، وأعمق من ذلك كثيرًا. إن أقل «رزق» يرزقه الكائن الإنساني في هذا الكون يقتضي تحريك أجرام هذا الكون وفق ناموس يوفر مئات الآلاف من الموافقات المتواكبة المتناسقة التي لولاها لم يكن لهذا الكائن ابتداء وجود، ولم تكن له بعد وجوده حياة وامتداد. ويكفي ما ذكر في هذه الآيات من تسخير الأجرام والظواهر ليدرك الإنسان كيف هو مكفول محمول بيد الله.

(وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ): بما أودع في العناصر من خصائص تُجري الفلك على سطح الماء، وبما أودع في الإنسان من خصائص يدرك بها ناموس الأشياء؛ وكلها مسخرة بأمر الله للإنسان.

(وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ): تجري فتجري الحياة، وتفيض فيفيض الخير، وتحمل ما تحمل في جوفها من أسماك وأعشاب وخيرات كلها للإنسان ولما يستخدمه الإنسان من طير وحيوان.

(وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ): لا يستخدمهما الإنسان مباشرة كما يستخدم الماء والثمـار والبحـار والفلك والأنهار. ولكنه ينتفع بآثارهما، ويستمد منها موارد الحياة وطاقاتها. فهما مسخران بالناموس الكوني ليصدر عنهما ما يستخدمه هذا الإنسان في حياته ومعاشه في تركيب خلاياه وتجديدها.

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ): سخرهما كذلك وفق حاجة الإنسان وتركيبه، وما يناسب نشاطه وراحته، ولو كان نهار دائم أو ليل دائم لفسد جهاز هذا الإنسان؛ فضلاً على فساد ما حوله كله، وتعذر حياته ونشاطه وإنتاجه.

وليس هذه سوى الخطوط العريضة في صفحة الآلاء المديدة؛ ففي كل خط من النقط ما لا يحصى، ومن ثم يضم إليها وجه الإجمال المناسب للوحة المعروضة وللجو الشامل:

(وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ): من مال وذرية وصحة وزينة ومتاع.

(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا): فهي أكبر وأكثر من أن يحصيها فريق من البشر، أو كل البشر. وكلهم محدودون بين حدين من الزمان: بدء ونهاية، وبين حدود من العلم تابعة لحدود الزمان والمكان. ونعم الله مطلقة - فوق كثرتها - فلا يحيط بها إدراك إنسان.

وبعد ذلك كله تجعلون لله أندادًا، وبعد ذلك كله لا تشكرون نعمة الله بل تبدلونها كفرًا. إن الإنسان لظلوم كفار!!!

وحين يستيقظ ضمير الإنسان، ويتطلع إلى الكون من حوله، فإذا هو مسخر له، إما مباشرة، وإما بموافقة ناموسه لحياة البشر وحوائجهم، ويتأمل فيما حوله فإذا هو صديق له برحمة الله، معين بقدرة الله، ذلول له بتسخير الله. حين يستيقظ ضمير الإنسان فيتطلع ويتأمل ويتدبر، لا بد يرتجف ويخشع ويسجد ويشكر، ويتطلع دائمًا إلى ربه المنعم حين يكون في الشدة ليبدله منها يسرًا، وحين يكون في الرخاء ليحفظ عليه النعماء»(4).

ثانياً : الآيات الواردة في سورة النحل :

وتسمى هذه السورة بسورة (النعم)؛ وذلك لما ورد فيها من أصول النعم، وامتنان الله عز وجل على عباده بالنعم العظيمة التي ذكر كثير منها في هذه السورة بداية من نعمة الهداية إلى الإيمان، إلى نعمة المطعومات والمشروبات والملبوسات والمساكن، ونعمة الصحة والرزق والتمول، ونعمة الأزواج والأولاد، ونعمة الأمن والأمان، وغير ذلك من نعم الله تعالى وآلائه التي لا تعد ولا تحصى.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «والله تعالى في القرآن يذكر آياته الدالة على قدرته وربوبيته، ويذكر آياته التي فيها نعمه إلى عباده، ويذكر آياته المبينة لحكمته، وهي متلازمة؛ لكن نعمة الانتفاع بالمآكل والمشارب والمساكن والملابس ظاهرة لكل أحد؛ فلهذا استدل بها في «سورة النحل» وتسمى «سورة النعم»، كما قاله قتادة وغيره، وعلى هذا فكثير من الناس يقول الحمد أعم من الشكر من جهة أسبابه؛ فإنه يكون على نعمة وغيرها، والشكر أعم من جهة أنواعه فإنه يكون بالقلب واللسان واليد(*)»(5).

وحق لهذه السورة أن تسمى (سورة النعم)؛ فلقد ذكر الله عز وجل فيها من النعم الشيء الكثير، وقد ذكر فيها لفظ النعمة وما يشتق منها في تسع آيات من السورة؛ هي:

قوله تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (النحل:18).

وقوله تعالى: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) (النحل: من الآية53).

وقوله تعالى: (أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) (النحل: من الآية71).

وقوله تعالى: (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) (النحل: من الآية72).

وقوله تعالى: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ) (النحل:83).

وقوله تعالى: (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (النحل: من الآية114).

وقوله تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل:112).

وقوله تعالى: (كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) (النحل: من الآية81).

وقوله تعالى: (شَاكِراً لَأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (النحل:121).

يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - عن سورة النحل: «وهو سبحانه يذكر عباده بنعمه عليهم، ويدعوهم بها إلى معرفته ومحبته وتصديق رسله، والإيمان بلقائه، كما تضمنته سورة النعم - وهي سورة النحل - من قوله: (خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ) (النحل: من الآية4) إلى قوله: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) (النحل:81). فذكرهم بأصول النعم وفروعها، وعدَّدها عليهم نعمة نعمة وأخبر أنه أنعم بذلك عليهم ليسلموا له، فتكمل نعمه عليهم بالإسلام الذي هو رأس النعم. ثم أخبر عمن كفره ولم يشكر نعمه بقوله: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ) (النحل:83)»(6).

ومن أنواع النعم التي ذكرت في هذه السورة ما يلي:

1- نعمة خلق الإنسان وتركيبه في أحسن صورة:

قال تعالى: (خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (النحل:4).

يقول السعدي - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «ولما ذكر خلق السماوات والأرض ذكر خلق ما فيهما. وبدأ بأشرف ذلك وهو الإنسان فقال: (خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ): لم يزل يدبرها ويربيها وينميها حتى صارت بشرًا تامًا كامل الأعضاء الظاهرة والباطنة، قد غمره بنعمه الغزيرة حتى إذا استتم فخر بنفسه، وأعجب بها (فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) ... فنسي خلقه الأول، وما أنعم الله عليه به من النعم، فاستعان بها على معاصيه»(7).

وقد مر بنا في الفصل السابق ذكر بعض آيات الله عز وجل ونعمه في تركيب خلق الإنسان فليرجع إليه(8).

2- نعمة خلق الأنعام وتسخيرها للإنسان:

قال تعالى: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (النحل:5-8).

3- نعمة إنزال المطر من السماء وإنبات الشجر والحب والنخيل والأعناب وكل الثمرات:

قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل:10، 11)، وقال سبحانه: (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (النحل:65).

4- نعمة تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم وما فيها من المنافع العظيمة للإنسان:

قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (النحل:12).

يقول الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «أي: سخر لكم هذه الأشياء لمنافعكم، وأنواع مصالحكم؛ بحيث لا تستغنون عنها أبدًا؛ فبالليل تسكنون وتنامون وتستريحون، وبالنهار تنتشرون في معايشكم ومنافع دينكم ودنياكم، وبالشمس والقمر، من الضياء، والنـور، والإشراق،وإصلاح الأشجـار والثمـار، والنبـات، وتجفيف الرطوبات، وإزالة البرودة الضارة للأرض، وللأبدان، وغير ذلك من الضروريات والحاجيات، التابعة لوجود الشمس والقمر. وفيهما وفي النجوم من الزينة للسماء والهداية في ظلمات البر والبحر، ومعرفة الأوقات، وحساب الأزمنة، ما تتنوع دلالاتها، وتتصرف آياتها.

ولهذا جمعها في قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي: لمن لهم عقول يستعملونها في التدبر والتفكر فيما هي مهيأة له مستعدة، تعقل ما تراه وتسمعه. لا كنظر الغافلين الذين حظهم من النظرة حظ البهائم التي لا عقل لها»(9).

5- نعمة تسخير ما خلق الله عز وجل في الأرض من المنافع من حيوان ونبات وجماد:

قال تعالى: (وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (النحل:13).

6- نعمة تسخير البحر وما خلق الله عز وجل فيه والفلك التي تجري فوقه بأمر الله تعالى:

قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل:14).

7- نعمة خلق الجبال والأنهار والنجوم:

قال تعالى: (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) (النحل:15، 16).

8- نعمة إنزال القرآن الكريم هداية للناس:

قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل: من الآية44).

يقول السعدي - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) أي: القرآن الذي فيه ذكر ما يحتاج إليه العباد، من أمور دينهم ودنياهم الظاهرة والباطنة.

(لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ): وهذا شامل لتبيين ألفاظه،وتبيين معانيه.

(وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ): فيه، فيستخرجون من كنوزه وعلومه بحسب استعدادهم وإقبالهم عليه»(10).

9- نعمة كشف الضر وإزالة الكرب:

قال تعالى: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) (النحل:53، 54).

10- نعمة المشروبات والمطعومات التي يخرجها الله عز وجل من بطون الأنعام وبطن الأرض وبطون النخيل:

قال تعالى: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل:66-69).

يقول الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - عند هذه الآيات: «إن لكم في الأنعام التي سخرها الله لمنافعكم لعبرة تستدلون بها على كمال قدرة الله وسعة إحسانه؛ حيث أسقاكم من بطونها المشتملة على الفرث والدم، فأخرج من بين ذلك لبنًا خالصًا من الكدر سائغًا للشاربين للذته يبقى ويغذي، فهل هذه إلا قدرة إلهية لا أمور طبيعية. فأي شيء في الطبيعة يقلب العلف الذي تأكله البهيمة والشراب الذي تشربه من الماء العذب والملح لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين؟ وجعل تعالى لعباده من ثمرات النخيل والأعناب منافع للعباد، ومصالح من أنواع الرزق الحسن الذي يأكله العباد طريًا ونضيجًا وحاضرًا ومدخرًا وطعامًا وشرابًا ...

(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ): عن الله كمال قدرته؛ حيث أخرجها من أشجار شبيهة بالحطب فصارت ثمرة لذيذة وفاكهة طيبة، وعلى شمول رحمته؛ حيث عم بها عباده ويسرها لهم، وأنه الإله المعبود وحده حيث إنه المنفرد بذلك.

وفي خلق هذه النحلة الصغيرة التي هداها الله هذه الهداية العجيبة(11)، ويسر لها المراعي، ثم الرجوع إلى بيوتها التي أصلحتها بتعليم الله لها وهدايته لها، ثم يخرج من بطونها هذا العسل اللذيذ مختلف الألوان بحسب اختلاف أرضها ومراعيها، فيه شفاء للناس من أمراض عديدة. فهذا دليل على كمال عناية الله تعالى، وتمام لطفه بعباده، وأنه الذي لا ينبغي أن يحب غيره ويدعى سواه»(12).

11- نعمة الأزواج والأولاد والحفدة والرزق من الطيبات:

يقول الله عز وجل: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) (النحل:72).

يقول الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «يخبر تعالى عن منته العظيمة على عباده؛ حيث جعل لهم أزواجًا ليسكنوا إليها، وجعل لهم من أزواجهم أولادًا تقر بهم أعينهم، ويخدمونهم ويقضون حوائجهم، وينتفعون بهم من وجوه كثيرة، ورزقهم من الطيبات من جميع المآكل والمشارب والنعم الظاهرة التي لا يقدر العباد أن يحصوها»(13).

12- نعمة السمع والأبصار والأفئدة وتعليم الله عز وجل بهن الإنسان ما لم يعلم:

قال تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل:78).

يقول الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى -: «خص الله هذه الأعضاء الثلاثة لشرفها وفضلها؛ ولأنها مفتاح لكل علم، فلا وصل للعبد علم إلا من أحد هذه الأبواب الثلاثة، وإلا فسائر الأعضاء والقوى الظاهرة والباطنة هو الذي أعطاهم إياها، وجعل ينميها فيهم شيئًا فشيئًا إلى أن يصل كل أحد إلى الحالة اللائقة به؛ وذلك لأجل أن يشكروا الله باستكمال ما أعطاهم من هذه الجوارح في طاعة الله، فمن استعملها في غير ذلك كانت حجة عليه وقابل النعمة بأقبح المقابلة»(14).

13- نعمة المساكن والبيوت والأثاث وما في جلود الأنعام وأصوافها وأوبارها واشعارها من المنافع والمصالح:

قال تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ) (النحل:80).

14- نعمة الظل الذي يقي من حر الشمس، ونعمة اللباس الذي يقي من البرد والحر، ونعمة لباس الدروع في الحرب:

قال تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) (النحل:81).

يعلق الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - على الآيتين السابقتين فيقول: «يُذكِّر تعالى عباده نعمه، ويستدعي منهم شكرها والاعتراف بها؛ فقال: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً): في الدور والقصور ونحوها؛ تكنكم من الحر والبرد، وتستركم أنتم وأولادكم وأمتعتكم، وتتخذون فيها الغرف والبيوت التي هي لأنواع منافعكم ومصالحكم، وفيها حفـظ لأموالكـم وحرمكـم، وغيـر ذلك من الفوائـد المشاهـدة. (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ): إما من الجلد نفسه أو مما نبت عليه من صوف وشعر ووبر (بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا) أي: خفيفة المحمل تكون لكم في السفر والمنازل التي لا قصد لكم في استيطانها، فتقيكم من الحر والبرد والمطر، وتقي متاعكم من المطر، وجعل لكم من أصوافها - أي الأنعام – (وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً) وهذا شامل لكل ما يتخذ منها من الآنية والأوعية والفرش والألبسة والأجلة وغير ذلك. (وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ): أي تتمتعون بذلك في هذه الدنيا، وتنتفعون بها فهذا مما سخر الله العباد لصنعته وعمله.

(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ) أي: من مخلوقاته التي لا صنعة لكم فيها (ظِلالاً) وذلك كأظلة الأشجار والجبال والآكام ونحوها (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً) أي: مغارات تكنكم من الحر والبرد والأمطار والأعداء. (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) ولم يذكر الله البرد لأنه قد تقدم أن هذه السورة أولها في أصول النعم، وآخرها في مكملاتها ومتمماتها، ووقاية البرد من أصول النعم؛ فإنه من الضرورة؛ وقد ذكره في أولها في قوله: (لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ).

(تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) أي وثيابًا تقيكم وقت البأس والحروب من السلاح؛ وذلك كالدروع والزرد ونحوها.

(كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ): حيث أسبـغ عليكم من نعمه مـا لا يدخل تحت الحصر. (لَعَلَّكُمْ): إذا ذكرتم نعمة الله، ورأيتموها غامرة لكم من كل وجه (تُسْلِمُونَ) لعظمته، وتنقادون لطاعته، وتصرفونها في طاعة موليها ومسديها»(15).

فــــائـدة :

ختم الله عز وجل آيات النعم في سورتي إبراهيم والنحل بقوله تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) ولكن هذه الآية في سورة إبراهيم ختمت بقوله تعالى: (إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)، وأما في سورة النحل فختمت بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) فما تعليل ذلك؟

ولتلمس العلة في ذلك - والله أعلم - أنقل ما ذكره الطاهر بن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير حيث يقول: «وقد خولف بين ختام هذه الآية (آية النحل)، وختام آية سورة إبراهيم؛ إذ وقع هنالك (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) لأن تلك جاءت في سياق وعيد وتهديد عقب قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً) (إبراهيم: من الآية28) فكان المناسب لها تسجيل ظلمهم وكفرهم بنعمة الله. وأما هذه الآية فقد جاءت خطابًا للفريقين، كما كانت النعم المعدودة عليهم منتفعًا بها كلاهما. ثم كان من اللطائف أن قوبل الوصفان اللذان في آية سورة إبراهيم (لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) بوصفين هنا (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) إشارة إلى أن تلك النعم كانت سبب لظلم الإنسان وكفره، وهي سبب لغفران الله ورحمته. والأمر في ذلك منوط بعمل الإنسان»(16).

كما يشير صاحب كتاب (قواعد التدبر الأمثل للقرآن) إلى جانب آخر في التعليل في اختلاف الخاتمتين فيقول: «من ختم آية (النحل) بقول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ومن ختم آية (إبراهيم) بقوله تعالى: (إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) نستطيع أن نستبين بعض المعاني التي يترجّح أن تكون هي المرادة في الآية والله أعلم:

قد يتبادر إلى الذهن من قوله تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) أنّ المراد مجرّد التعبير عن كثرة نعم الله علينا التي لا نستطيع إحصاءها وإن أخذنا نعدّ مفرادتها؛ لأن كثيرًا جدًا منها لا نستطيع ملاحظته ولا معرفته حتى نعدّه. ومع صحة هذا المعنى ومطابقته للواقع، يمكن لفت النظر إلى معنى آخر يشير إليه ختام الآيتين:

وهو أنّ الإنسان لئن اتّجه على سبيل الندرة - كما دلّت كلمة (إنْ) - إلى عدّ نعم الله عليه مما يدرك ويلاحظ من نعم الله الكثيرة التي لا يستطيع إحصاءها، فإنه لا يحاول إحصاءها، ولا يفكّر فيه، بل تميل نفسه دائمًا إلى تجاهل بعض النعم وإغفالها،ونسبتها إلى علمه وأعماله، حتى لا يجد في نفسه حاجة إلى مقابلة ذلك بالطاعة والشكر.

وبسبب ذلك يقع في رذيلتين:

الأولى: استخدام النعمة في غير ما أذن الله به، وهذا ظلم منه.

الثانية: جحود النّعم كلّها أو بعضها، مع تفاوت نسب الجحود بين الناس، من جحود عامّ وظاهر إلى جحود خفي،وهذا منهم كُفران للنعمة.

ويوجد في الناس مؤمنون عصاة يتصفون بمقدار لا يتعارض مع صحة الإيمان والإسلام من هاتين الرذيلتين، مع تفاوت بينهم.

ويوجد في الناس كافرون، وهم الأكثرون، وهم ظلومون كفّارون من مستوى دركات سفلى تتنافى مع صحة الإيمان والإسلام.

وقد تكون آية (النحل) قد راعت ظلم عصاة المؤمنين وكفرانهم للنعمة، فجاء في آخرها: (إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لغفور لذنوبهم رحيم بهم، وطُوي فيها وصف ظلمهم وكفرانهم، مع ملاحظة ذلك تقديرًا.

أمّا آيـة (إبراهيم) فقـد تحدثت عن ظلـم الكافريـن وكفرانهم للنعمة، لذلك جاء في آخرها (إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) أي: إنّ الإنسان الكافر، كثير الظلم والكفران لنعم الله، أخذًا من دلالة صيغتي المبالغة، وأطلق جنس الإنسان باعتبار أن الأكثر منه كذلك.

وإذا كان من صفات الإنسان الظلم والكفران، فمن صفات الله في مقابل ذلك أنّه غفور رحيم، فجاء في مقابل صفة الظلم في الإنسان صفة الغفران عند الله إذا استغفر الإنسان،وجاء في مقابل صفة كفر النعمة عند الإنسان، صفة الرحمة عند الله.

فتكامل النصان من جهة، ودلّت خواتيم الآيتين على معانٍ لم نكن نفهمها لولاها»(17).

ذكر بعض نعم الله عز وجل في خلق الإنسان وتركيبه :

مر بنا في سورة النعم قوله تعالى: (خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (النحل:4).

وقوله تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل:78). ويضاف هنا قوله تعالى في سورة الانفطار (يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) (الانفطار:6-8).

يتحدث صاحب الظلال - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية فيقول: «إنه خطاب يهز كل ذرة في كيان الإنسان حين تستيقظ إنسانيته، ويبلغ من القلب شغافه وأعماقه، وربه الكريم يعاتبه هذا العتاب الجليل، ويذكره هذا الجميل، بينما هو سادر في التقصير، سيئ الأدب في حق مولاه الذي خلقه فسواه فعدله.

إن خلق الإنسان على هذه الصورة الجميلة السوية المعتدلة، الكاملة الشكل والوظيفة، أمر يستحق التدبر الطويل، والشكر العميق، والأدب الجم، والحب لربه الكريم، الذي أكرمه بهذه الخلقة، تفضلاً منه ورعاية ومنة. فقد كان قادرًا أن يركبه في أية صورة أخرى يشاؤها. فاختار له هذه الصورة السوية المعتدلة الجميلة، وإن الإنسان لمخلوق جميل التكوين، سوي الخلقة، معتدل التصميم، وإن عجائب الإبداع في خلقه لأضخم من إدراكه هو، وأعجب من كل ما يراه حوله.

وإن الجمال والسواء والاعتدال لتبدو في تكوينه الجسدي، وفي تكوينه العقلي، وفي تكوينه الروحي سواء، وهي تتناسق في كيانه في جمال واستواء!

وهناك مؤلفات كاملة في وصف كمال التكوين الإنساني العضوي ودقته وإحكامه وليس هنا مجال التوسع الكامل في عرض عجائب هذا التكوين. ولكنا نكتفي بالإشارة إلى بعضها:

هذه الأجهزة العامة لتكوين الإنسان الجسدي: الجهاز العظمي، والجهاز العضلي، والجهاز الجلدي، والجهاز الهضمي، والجهاز الدموي، والجهاز التنفسي، والجهاز التناسلي، والجهاز اللمفاوي، والجهاز العصبي، والجهاز البولي، وأجهزة الذوق والشم والسمع والبصر .. كل منها عجيبة لا تقاس إليها كل العجائب الصناعية التي يقف الإنسان مدهوشًا أمامها، وينسى عجائب ذاته وهي أضخم وأعمق وأدق بما لا يقاس!

«تقول مجلة العلوم الإنجليزية: إن يد الإنسان في مقدمة العجائب الطبيعية الفذة؛ وإنه من الصعب جدًا - بل من المستحيل - أن تبتكر آله تضارع اليد البشرية من حيث البساطة والقدرة وسرعة التكيف. فحينما تريد قراءة كتاب تتناوله بيدك، ثم تثبته في الوضع الملائم للقراءة، وهذه اليد هي التي تصحح وضعه تلقائيًا. وحينما تقلب إحدى صفحاته تضع أصابعك تحت الورقة، وتضغط عليها بالدرجة التي تقلبها بها، ثم يزول الضغط بقلب الورقة. واليد تمسك القلم وتكتب به، وتستعمل كافة الآلات التي تلزم الإنسان من ملعقة، إلى سكين، إلى آلة الكتابة. وتفتح النوافذ وتغلقها، وتحمل كل ما يريده الإنسان. واليدان تشتملان على سبع وعشرين عظمة، وتسع عشرة مجموعة من العضلات لكل منهما»(18).

و «إن جزءًا من أذن الإنسان (الأذن الوسطى) هو سلسلة من نحو أربعة آلاف حنية (قوس) دقيقة معقدة، متدرجة بنظام بالغ في الحجم والشكل، ويمكن القول بأن هذه الحنيات تشبه آلة موسيقية. ويبدو أنها معدة بحيث تلتقط وتنقل إلى المخ بشكل ما كل وقع صوت أو ضجة، من قصف الرعد إلى حفيف الشجر»(19).

«ومركز حاسة الإبصار في العين التي تحتوي على مائة وثلاثين مليونًا من مستقبلات الضوء - وهي أطراف الأعصاب - ويقوم بحمايتها الجفن ذو الأهداب الذي يقيها ليلاً ونهارًا، والذي تعتبر حركته لا إرادية، الذي يمنع عنها الأتربة والذرات والأجسام الغريبة، كما يكسر من حدة الشمس بما تلقي الأهداب على العين من ظلال، وحركة الجفن علاوة على هذه الوقاية تمنع جفاف العين، أما السائل المحيط بالعين والذي يعرف باسم الدموع، فهو أقوى مطهر ..»(20).

«وجهاز الذوق في الإنسان هو اللسان، ويرجع عمله إلى مجموعات من الخلايا الذوقية القائمة في حلمات غشائه المخاطي. ولتلك الحلمات أشكال مختلفة؛ فمنها الخيطية والفطرية والعدسية. ويغذي الحلمات فروع من العصب اللساني البلعومي، والعصب الذوقي، وتتأثر عند الأكل بالأعصاب الذوقية، فينتقل الأثر إلى المخ، وهذا الجهاز موجود في أول الفم، حتى يمكن للإنسان أن يلفظ ما يحس أنـه ضار به، وبه يحس المرء المرارة والحلاوة، والبرودة والسخونة، والحامض والملح، واللاذع ونحوه. ويحتوي اللسان على تسعة آلاف من نتوءات الذوق الدقيقة، يتصل كل نتوء منها بالمخ بأكثر من عصب، فكم عدد الأعصاب؟ وما حجمها؟ وكيف تعمل منفردة، وتتجمع بالإحساس عند المخ؟»(21).

«ويتكون الجهاز العصبي الذي يسيطر على الجسم سيطرة تامة من شعيرات دقيقة تمر في كافة أنحاء الجسم، وتتصل بغيرها أكبر منها، وهذه بالجهاز المركزي العصبي؛ فإذا ما تأثر جزء من أجزاء الجسم، ولو كان ذلك لتغير بسيط في درجة الحرارة بالجو المحيط، نقلت الشعيرات العصبية هذا الإحساس إلى المراكز المنتشرة في الجسم. وهذه توصل الإحساس إلى المخ حيث يمكنه أن يتصرف. وتبلغ سرعة سريان الإشارات والتنبيهات في الأعصاب مائة متر في الثانية»(21).

«ونحن إذا نظرنا إلى الهضم على أنه عملية في معمل كيماوي، وإلى الطعام الذي نأكله على أنه مواد غفل، فإننا ندرك توًا أنه عملية عجيبة؛ إذ تهضم تقريبًا كل شيء يؤكل ما عدا المعدة نفسها!

فأولاً نضع في هذا المعمل أنواعًا من الطعام كمادة غفل دون أي مراعاة للمعمل نفسه، أو تفكير في كيفية معالجة كيمياء الهضم له! فنحن نأكل شرائح اللحم والكرنب والحنطة والسمك المقلي، وندفعها بأي قدر من الماء ...

ومن بين هذا الخليط تختار المعدة تلك الأشياء التي هي ذات فائدة؛ وذلك بتحطيم كل صنف من الطعام إلى أجزائه الكيماوية دون مراعاة للفضلات، وتعيد تكوين الباقي إلى بروتينات جديدة، تصبح غذاء لمختلف الخلايا. وتختار أداة الهضم الجير والكبريت واليود والحديد وكل المواد الأخرى الضرورية، وتعنى بعدم ضياع الأجزاء الجوهرية، وبإمكان إنتاج الهرمونات، وبأن تكون جميع الحاجات الحيوية للحياة حاضرة في مقادير منتظمة، ومستعدة لمواجهة كل ضرورة. وهي تخزن الدهن والمواد الاحتياطية الأخرى، للقاء كل حالة طارئة، مثل الجوع، وتفعل ذلك كله بالرغم من تفكير الإنسان أو تعليله. إننا نصب هذه الأنواع التي لا تحصى من المواد في هذا المعمل الكيماوي، بصرف النظر كلية تقريبًا عما نتناوله، معتمدين على ما نحسبه عملية ذاتية (أوتوماتيكية) لإبقائنا على الحياة. وحين تتحلل هذه الأطعمة وتجهز من جديد، تقدم باستمرار إلى كل خلية من بلايين الخلايا، التي تبلغ من العدد أكثر من عدد الجنس البشري كله على وجه الأرض. ويجب أن يكون التوريد إلى كل خلية فردية مستمرًا، وألا يورد سوى تلك المواد التي تحتاج إليها تلك الخلية المعينة لتحويلها إلى عظام وأظافر ولحم وشعر وعينين وأسنان، كما تتلقاها الخلية المختصة!»(22).

«فها هنا إذن معمل كيماوي ينتج من المواد أكثر مما ينتجه أي معمل ابتكره ذكاء الإنسان! وها هنا نظام للتوريد أعظم من أي نظام للنقل أو التوزيع عرفه العالم! ويتم كل شيء فيه بمنتهى النظام!»(22).

وكل جهاز من أجهزة الإنسان الأخرى يقال فيه الشيء الكثير، ولكن هذه الأجهزة - على إعجازها الواضح - قد يشاركه فيها الحيوان في صورة من الصور. إنما تبقى له هو خصائصه العقلية والروحية الفريدة التي هي موضع الامتنان في هذه السورة بصفة خاصة: (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) بعد ندائه: (يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ)؛ هـذا الإدراك العقلـي الخـاص، الذي لا نـدري كنهـه؛ إذ أن العقل هو أداتنا لإدراك ما ندرك. والعقل لا يدرك ذاته ولا يدرك كيف يدرك!!

هذه المدركات نفرض أنها كلها تصل إلى المخ عن طريق الجهاز العصبي الدقيق. ولكن أين يختزنها! إنه لو كان هذا المخ شريطًا مسجلاً لاحتاج الإنسان في خلال الستين عامًا التي هي متوسط عمره إلى آلاف الملايين من الأمتار ليسجل عليها هذا الحشد من الصور والكلمات والمعاني والمشاعر والتأثرات، لكي يذكرها بعد ذلك، كما يذكرها فعلاً بعد عشرات السنين!

ثم كيف يؤلف بين الكلمات المفردة والمعاني المفردة، والحوادث المفردة، والصور المفردة، ليجعل منها ثقافة مجمعة، ثم ليرتقي من المعلومات إلى العلم؟ ومن المدركات إلى الإدراك؟ ومن التجارب إلى المعرفة؟

هذه هي إحدى خصائص الإنسان المميزة. وهي مع هذا ليست أكبر خصائصه، وليست أعلى مميزاته؛ فهنالك ذلك القبس العجيب من روح الله، هنالك الروح الإنساني الخاص الذي يصل هذا الكائن بجمال الوجود، وجمال خالق الوجود، ويمنحه تلك اللحظات المجنحة الوضيئة من الاتصال بالمطلق الذي ليس له حدود بعد الاتصال بومضات الجمال في هذا الوجود.

هذا الروح الذي لا يعرف الإنسان كنهه - وهل هو يعلم ما هو أدنى وهو إدراكه للمدركات الحسية؟! - والذي يمتعه بومضات من الفرح والسعادة العلوية، حتى وهو على هذه الأرض، ويصله بالملأ الأعلى، ويهيئه للحياة المرسومة بحياة الجنان والخلود، وللنظر إلى الجمال الإلهي في ذلك العالم السعيد!

هذا الروح هو هبة الله الكبرى لهذا الإنسان، وهو الذي به صار إنسانًا، وهو الذي يخاطبه باسمه: (يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ). ويعاتبه ذلك العتاب المخجل! (مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)؛ هذا العتاب المباشر من الله للإنسان، حيث يناديه - سبحانه - فيقف أمامه مقصرًا مذنبًا مغترًا غير مقدر لجلال الله، ولا متأدب في جنابه. ثم يواجهه بالتذكير بالنعمة الكبرى، ثم بالتقصير وسوء الأدب والغرور!

إنه عتاب مذيب؛ حين يتصور «الإنسان» حقيقة مصدره، وحقيقة مخبره، وحقيقة الموقف الذي يقفه بين يدي ربه، وهو يناديه ذلك النداء، ثم يعاتبه هذا العتاب: (يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ)»(23).

نعمة الصحة والعافية:

يفصل ابن قدامة - رحمه الله تعالى - في نعمة الصحة والعافية ويستطرد في ذكر سبب من أهم أسبابها وهو الأكل فيقول: «واعلم أنا قد ذكرنا جملة من النعم، وجعلنا صحة البدن نعمة واحدة من النعم الواقعة في الرتبة الثانية، فلو أردنا أن تستقصي الأسباب التي بها تمَّت هذه النعمة لم نقدر عليها، ولكن الأكل أحد أسباب الصحة، فلنذكر شيئًا من جملة الأسباب التي يتم بها الأكل على سبيل التلويح، لا على سبيل الاستقصاء، فنقول: من جملة نعم الله عليك أن خلق لك آلة الإحساس، وآلة الحركة في طلب الغذاء؛ فانظر إلى ترتيب حكمة الله تعالى في الحواس الخمس التي هي آلة للإدراك:

فأولها: حاسة اللمس، وهو أول حس يخلق للحيوان، وأنقص درجات الحس أن يحس بما يلاصقه؛ فإن الإحساس بما يبعد منه أتم لا محالة، فافتقرت إلى حس تدرك به ما بعد عنك، فخلق لك الشم تدرك به الرائحة من بعد، ولكن لا تدري من أي ناحية جاءت الرائحة، فتحتاج أن تطوف كثيرًا حتى تعثر على الذي شممت رائحته، وربما لم تعثر، فخلق لك البصر لتدرك به ما بعد عنك، وتدرك جهته فتقصدها بعينها، إلا أنه لو لم يخلق لك إلا هذا لكنت ناقصًا، إذ لا تدرك بذلك ما وراء الجدار والحجاب، فربما قصدك عدو بينك وبينه حجاب، وقرب منك قبل أن يكشف الحجاب، فتعجز عن الهرب، فخلق لك السمع حتى تدرك به الأصوات من وراء الحجرات عند جريان الحركات، ولا يكفي ذلك، لو لم يكن لك حسن الذوق، إذ به تعلم ما يوافقك وما يضرك، بخلاف الشجرة، فإنه يصب في أصلها كل مائع، ولا ذوق لها فتجذبه، وربما يكون ذلك سبب جفافها، ثم أكرمك الله تعالى بصفة أخرى هي أشرف من الكل، وهو العقل؛ فبه تدرك الأطعمة ومنفعتها، وما يضر في المآل، وبه تدرك طبخ الأطعمة وتأليفها وإعداد أسبابها، فتنتفع به في الأكل الذي هو سبب صحتك، وهو أدنى فوائد العقل، والحكمة الكبرى فيه معرفة الله تعالى. وما ذكرنا من الحواس الخمس الظاهرة فهي بعض الإدراكات ...

ثم انظر بعد ذلك في الإرادة والقدرة، وآلات الحركة من أصناف النعم، وذلك أنه لو خلق لك البصر حتى تدرك به الطعام، ولم يخلق لك في الطبع شوقًا إليه وشهوة تستحثك على الحركة، كان البصر معطلاً، فكم من مريض يرى الطعام وهو أنفع الأشياء له، ولا يقدر على تناوله لسقوط شهوته، فخلق لك الله شهوة الطعام وسلطها عليك، كالمتقاضي الذي يضطرك إلى تناول الغذاء.

ثم هذه الشهوة لو لم تسكن عند أخذ مقدار الحاجة من الطعام، لأسرفت وأهلكت نفسك، فخلق لك الكراهة عند الشبع لتترك الأكل بها، وكذلك القول في شهوة الوقاع لحكمة بقاء النسل.

ثم خلق لك الأعضاء التي هي آلات الحركة في تناول الغذاء وغيره؛ منها اليدان، وهما مشتملتان على مفاصل كثيرة لتتحرك في الجهات وتمتد وتنثني، ولا تكون كخشبة منصوبة.

ثم جعل رأس اليد عريضًا، وهو الكف، وقسمه خمسة أقسام: وهي الأصابع وجعلها مختلفة في الطول والقصر، ووضعها في صفين، بحيث يكون الإبهام في جانب، ويدور على الأصابع البواقي، ولو كانت مجتمعة متراكمة لم يحصل تمام الغرض، ثم خلق لها أظافر، وأسند إليها رؤوس الأصابع لتقوى بها، ولتلتقط بها بعض الأشياء الدقيقة التي لا تحويها الأصابع، ثم هب أنك أخذت الطعام باليد، فلا يكفيك حتى يصل إلى بطنك، فجعل لك الفم واللحيين؛ خلقهما من عظمين، وركب فيهما الأسنان، وقسمها بحسب ما يحتاج إليه الطعام، فبعضها قواطع كالرباعيات، وبعضها يصلح للكسر كالأنياب، وبعضها طواحن كالأضراس. وجعل اللحي الأسفل متحركًا حركة دورية، واللحي الأعلى ثابتًا لا يتحرك، فانظر إلى عجيب صنع الله تعالى. وإن كل رحى صنعها الخلق يثبت منها الحجر الأسفل ويدور الأعلى، إلا هذه الرحى التي هي صنع الله سبحانه وتعالى؛ فإنه يدور منها الأسفل على الأعلى، إذ لو دار الأعلى خوطر بالأعضاء الشريفة التي تحتوي عليها.

ثم انظر كيف أنعم الله عليك بخلق اللسان؛ فإنه يطوف في جوانب الفم، ويرد الطعام من الوسط إلى الأسنان بحسب الحاجة، كالمجرفة التي ترد الطعام إلى الرحى، هذا مع ما فيه من عجائب قوة النطق.

ثم هب أنك قطعت الطعام وعجنته وهو يابس، فما تقدر على الابتلاع إلا بأن ينزلق إلى الحلق بنوع رطوبة.

فانظر كيف خلق الله تعالى تحت اللسان عينًا يفيض منها اللعاب، وينصب بقدر الحاجة حتى ينعجن به الطعام.

ثم هذا الطعام المطحون المعجون من يوصله إلى المعدة وهو في الفم؛ فإنه لا يمكن إيصاله باليد، فهيأ الله تعالى المريء والحنجرة، وجعل رأسها طبقات ينفتح لأخذ الطعام، ثم ينطبق وينضغط حتى يقلب الطعام، فيهوي في دهليز المريء إلى المعدة فإذا ورد الطعام إلى المعدة وهو خبز وفاكهة مقطعة، فلا يصلح أن يصير لحمًا وعظمًا ودمًا على هذه الهيئة حتى يطبخ طبخًا تامًا، فجعل الله المعدة على هيئة قدر يقع فيها الطعام، فتحتوي عليه وتغلق عليه الأبواب، وينضج بالحرارة التي تتعدى إليها من الأعضاء الأربعة، وهي الكبد من جانبها الأيمن، والطحال من جانبها الأيسر، والثرب من أمامها، ولحم الصلب من خلفها، فينضج الطعام ويصير مائعًا متشابهًا يصلح للنفوذ في تجاويف العروق، ثم ينصب الطعام من العروق إلى الكبد، فيستقر فيها ريثما يصلح له نضج آخر.

ثم يتفرق في الأعضاء ويبقى منه ثفل ثم يندفع، ولو استوفينا الكلام في ذلك لطال.

وفي الآدمي من العضلات والعروق ما لا يحصى، مختلف بالصغر والكبر والدقة والغلظ، ولا شيء منها إلا وفيه حكمة، وكل ذلك من الله سبحانه، ولو سكن من جملتها عرق متحرك، أو تحرك عرق ساكن، لهلَكْتَ يا مسكين.

فانظر إلى نعم الله تعالى عليك لتقوى على الشكر، فإنك لا تعرف من نعمة الله تعالى إلا نعمة الأكل، وهي أدناها، ثم لا تعرف منها إلا أنك تجوع فتأكل، والبهيمة أيضًا تعرف أنها تجوع وتأكل، وتتعب فتنام، وتشتهي فتجامع، وإذا لم تعرف أنت من نفسك إلا ما يعرف الحمار، فكيف تقوم بشكر الله تعالى؟! وهذا الذي رمزنا إليه على الإيجاز قطرة من بحر من نعم الله تعالى، فقس على ذلك.

 

وجملة ما عرفنا وعرفه الخلق كلهم من نعم الله تعالى بالإضافة(24) إلى ما لم يعرفوه أقل من قطرة في بحر؛ قال الله تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا)(25).

نعمة الله الخفية في حصول المصائب:

كثير من الناس لا يرى النعمة إلا فيما يسره، والقليل من الناس من يراها أيضًا فيما يكرهه ويؤلمه.

وفي ذلك يقول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: «وما يصيب الإنسان إن كان يسره فهو نعمة بينة، وإن كان يسوءه فهو نعمة؛ لأنه يكفر خطاياه ويثاب عليه بالصبر، ومن جهة أن فيه حكمة ورحمة لا يعلمها العبد: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) (البقرة: من الآية216)، وكلتا النعمتين تحتاج مع الشكر إلى الصبر. أما الضراء فظاهر، وأما نعمة السراء فتحتاج إلى الصبر على الطاعة فيها، كما قال بعض السلف: ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر. فلهذا كان أكثر من يدخل الجنة المساكين، لكن لما كان في السراء اللذة، وفي الضراء الألم، اشتهر ذكر الشكر في السراء والصبر في الضراء. قال تعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ) - إلى قوله - (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ((هود: 9-11)، وأيضًا صاحب السراء أحوج إلى الشكر، وصاحب الضراء أحوج إلى الصبر، فإن صبر هذا وشكر هذا واجب، وأما صبر السراء فقد يكون مستحبًا، وصاحب الضراء قد يكون الشكر في حقه مستحبًا، واجتماع الشكر والصبر يكون مع تألم النفس وتلذذها،وهذا حال يعسر على كثير وبسطه له موضع آخر.

والمقصود: أن الله تعالى منعم بهذا كله، وإن كان لا يظهر في الابتداء لأكثر الناس؛ فإن الله يعلم وأنتم لا تعلمون، وأما ذنوب الإنسان فهي من نفسه، ومع هذا فهي مع حسن العاقبة نعمة، وهي نعمة على غيره لما يحصل له بها من الاعتبار، ومن هذا قوله: «اللهم لا تجعلني عبرة لغيري، ولا تجعل غيري أسعد بما علمتني مني»، وفي دعاء القرآن: (رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (يونس: من الآية85)، وكما فيه: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) (الفرقان: من الآية74)، واجعلنا أئمة لمن يقتدي بنا، ولا تجعلنا فتنة لمن يضل بنا، والآلاء في اللغة هي النعم، وهي تتضمن القدرة»(26).

أقسام النعمة:

تنقسم نعمة الله على عباده إلى قسمين كبيرين:

القسم الأول: النعمة الخاصة: وهي أعظم النعم، وهي نعمة الهداية للإيمان والإسلام، وفيها سعادة الدنيا والآخرة، وهي خاصة بعباد الله الذين اصطفاهم لدينه وهدايته، وهي التي يسميها ابن القيم رحمه الله تعالى: النعمة المطلقة.

القسم الثاني: النعمة العامة: وهي التي يشترك فيها الخلق جميعًا مؤمنهم وكافرهم؛ كنعمة الصحة والغنى والأكل والجاه، وكثرة المال والولد ... الخ.

ويفصل القول في هذه المسألة الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - فيقول: «والنعمة نعمتان: نعمة مطلقة، ونعمة مقيدة.

1- النعمة المطلقة:

فالنعمة المطلقة: هي المتصلة بسعادة الأبد، وهي نعمة الإسلام والسنة، وهي النعمة التي أمرنا الله سبحانه أن نسأله في صلاتنا أن يهدينا صراط أهلها ومن خصهم بها وجعلهم أهل الرفيق الأعلى؛ حيث يقول تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) (النساء:69).

فهؤلاء الأصناف الأربعة هم أهل هذه النعمة المطلقة، وأصحابها أيضًا هم المعنيون بقوله تعالى: (...الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً...) (المائدة: من الآية3)؛ فأضاف الدين إليهم؛ إذ هم المختصون بهذا الدين القيم دون سائر الأمم، والدين تارة يضاف إلى العبد، وتارة إلى الرب؛ فيقال الإسلام دين الله الذي لا يقبل من أحد دينًا سواه؛ ولهذا يقال في الدعاء: «اللهم انصر دينك الذي أنزلته من السماء» ونسب الكمال إلى الدين والتمام إلى النعمة مع إضافتها إليه؛ لأنه هو وليها ومسديها إليهم، وهم محل محض لنعمه قابلين لها؛ ولهذا يُقال في الدعاء المأثور للمسلمين (واجعلهم مثنين بها عليك قابليها وأتمَّها عليهم).

وأما الدين فلما كانوا هم القائمين به الفاعلين له بتوفيق ربهم نسبه إليهم، فقال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)، وكان الكمال في جانب الدين والتمام في جانب النعمة. واللفظتان وإن تقاربتا وتوازنتا، فبينهما فرق لطيف يظهر عند التأمل؛ فإن الكمال أخص بالصفات والمعاني ويطلق على الأعيان والذوات، وذلك باعتبار صفاتها وخواصها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد»(27). وقال عمر بن عبدالعزيز: «إن للإيمان حدودًا وفرائض وسننًا وشرائع؛ فمن استكملها فقد استكمل الإيمان»، وأما التمام فيكون في الأعيان والمعاني، ونعمة الله أعيان وأوصاف ومعانٍ. وأما دينه فهو شرعه المتضمن لأمره ونهيه ومحابه، فكانت نسبة الكمال إلى الدين والتمام إلى النعمة أحسن كما كانت إضافة الدين إليهم والنعمة إليه أحسن. والمقصود أن هذه «النعمة» هي النعمة المطلقة، وهي التي اختصت بالمؤمنين. وإذا قيل ليس لله على الكافر نعمة بهذا الاعتبار فهو صحيح.

2- النعمة المقيدة:

والنعمة الثانية: النعمة المقيدة؛ كنعمة الصحة، والغنى، وعافية الجسد، وبسط الجاه، وكثرة الولد، والزوجة الحسنة وأمثال هذا؛ فهذه النعمة مشتركة بين البر والفاجر والمؤمن والكافر، وإذا قيل لله على الكافر نعمة بهذا الاعتبار فهو حق، فلا يصح إطلاقاً السلب والإيجاب إلا على وجه واحد. وهو أن النعم المقيدة لما كانت استدراجًا للكافر ومآلها إلى العذاب والشقاء فكأنها لم تكن نعمة وإنما كانت بليّة، كما سماها الله تعالى في كتابه كذلك فقال جل وعلا: (فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلَّا ...الآية) (الفجر:15-17). أي: ليس كل من أكرمته في الدنيا ونعمته فيها قد أنعمت عليه، وإنما كان ذلك ابتلاء مني له واختبارًا، ولا كل من قدرت عليه رزقه فجعلته بقدر حاجته من غير فضل أكون قد أهنته، بل أبتلي عبدي بالنعم كما أبتليه بالمصائب.

فإن قيل: فكيف يلتئم هذا المعنى ويتفق مع قوله: (فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) فأثبت الإكرام ثم أنكر عليه قوله: (رَبِّي أَكْرَمَنِ)، وقال: (كَلَّا). أي: ليس ذلك إكرامًا مني وإنما هو ابتلاء؛ فكأنه أثبت «له» الإكرام ونفاه؟

قيل: الإكرام المثبت غير الإكرام المنفي، وهما من «جنس» النعمة المطلقة والمقيدة؛ فليس هذا الإكرام المقيد بموجب لصاحبه أن يكون من أهل الإكرام المطلق.

وكذلك أيضًا إذا قيل: إن الله أنعم على الكافر نعمة مطلقة ولكنه رد نعمة الله وبدَّلها؛ فهو بمنزلة من أُعْطِيَ مالاً يعيش به فرماه في البحر كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) (إبراهيم:28)، وقال تعالى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (فصلت:17).

فهدايته إياهم منةٌ عليهم، فبدَّلوا نعمته وآثروا عليها الضلال. فهذا فصل النزاع في مسألة: هل لله على الكافر نعمة أم لا؟ وأكثر اختلاف الناس من جهتين:

إحداهما: اشتراك الألفاظ وإجمالها، والثانيـة: من جهة الإطلاق والتفصيل...

وهذه النعمة المطلقة هي التي يُفرح بها في الحقيقة، والفرح بها مما يحبه الله ويرضاه،وهو لا يحب الفرحين؛ قال الله تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس:58).

وقد دارت أقوال السلف على أن فضل الله ورحمته: الإسلام والسنة، وعلى حسب حياة القلب يكون فرحه بهما،وكلما كان أرسخ فيهما كان قلبه أشد فرحًا، حتى أن القلب ليرقص فرحًا إذا باشر روح السنة أحزن ما يكون الناس، وهو ممتلئ أمنًا أخوف ما يكون الناس»(28).

ويقول في موطن آخر:

«وفي تخصيصه لأهل الصراط المستقيم بالنعمة ما دل على أن النعمة المطلقة هي الموجبة للفلاح الدائم. وأما مطلق النعمة: فعلى المؤمن والكافر؛ فكل الخلق في نعمه، وهذا فصل النزاع في مسألة: هل لله على الكافر من نعمة أم لا؟

فالنعمة المطلقة لأهل الإيمان، ومطلق النعمة للمؤمن والكافر، كما قال تعالى: (...وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (إبراهيم: من الآية34).

والنعمة من جنس الإحسان، بل هي الإحسان. والرب تعالى إحسانه على البر والفاجر، والمؤمن والكافر. وأما الإحسان المطلق: فللذين اتقوا والذين هم محسنون»(29).

ويتحدث صاحب الظلال - رحمه الله تعالى - عن النعمة المطلقة - وهي الهداية إلى الإيمان والتي يخص الله سبحانه وتعالى بها من يشاء من عباده - وذلك عند قوله تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات:17)، فيقول: «إن الإيمان هو كبرى المنن التي ينعم بها الله على عبد من عباده في الأرض؛ إنه أكبر من منة الوجود الذي يمنحه الله ابتداء لهذا العبد، وسائر ما يتعلق بالوجود من آلاء الرزق والصحة والحياة والمتاع. إنها المنة التي تجعل للوجود الإنساني حقيقة مميزة، وتجعل له في نظام الكون دورًا أصيلاً عظيمًا. وأول ما يصنعه الإيمان في الكائن البشري، حيت تستقر حقيقته في قلبه، هو سعة تصوره لهذا الوجود، ولارتباطاته هو به، ولدوره هو فيه، وصحة تصوره للقيم والأشياء والأشخاص والأحداث من حوله، وطمأنينته في رحلته على هذا الكوكب الأرضي حتى يلقى الله، وأنسه بكل ما في الوجود حوله، وأنسه بالله خالقه وخالق هذا الوجود، وشعوره بقيمته وكرامته، وإحساسه بأنه يملك أن يقوم بدور مرموق يرضى عنه الله، ويحقق الخير لهذا الوجود كله بكل ما فيه وكل من فيه ...

ومن هذا التصور الواسع الرحيب يستمد موازين جديدة حقيقية للأشياء والأحداث والأشخاص والقيم والاهتمامات والغايات. ويرى دوره الحقيقي في هذا الوجود، ومهمته الحقيقية في هذه الحياة؛ بوصفه قدرًا من أقدار الله في الكون، يوجهه ليحقق به ويحقق فيه ما يشاء. ويمضي في رحلته على هذا الكوكب ثابت الخطو، مكشوف البصيرة، مأنوس الضمير.

ومن هذه المعرفة لحقيقة الوجود حوله، ولحقيقة الدور المقسوم له، ولحقيقة الطاقة المهيأة له للقيام بهذا الدور. من هذه المعرفة يستمد الطمأنينة والسكينة والارتياح لما يجري حوله، ولما يقع له. فهو يعرف من أين جاء؟ ولماذا جاء؟ وإلى أين يذهب؟ وماذا هو واجد هنالك؟ وقد علم أنه هنا لأمر، وأن كل ما يقع له مقدر لتمام هذا الأمر. وعلم أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأنه مجزي على الصغيرة والكبيرة، وأنه لم يخلق عبثًا، ولن يترك سدى، ولن يمضي مفردًا ...

ويختفي شعور كالشعور الذي عشته في فترة من فترات الضياع والقلق، قبل أن أحيا في ظلال القرآن، وقبل أن يأخذ الله بيدي إلى ظله الكريم. ذلك الشعور الذي خلعته روحي المتعبة على الكون كله، فعبرت عنه أقول:

وقف الكون حائرًا أين يمضي؟ ولماذا وكيف - لو شاء - يمضي؟

عبث ضائع وجهد غبين ومصير مقنَّع ليس يُرضي

فأنا أعرف اليوم - ولله الحمد والمنة - أنه ليس هناك جهد غبين فكل جهد مجزي. وليس هناك تعب ضائع فكل تعب مثمر. وأن المصير مرض، وأنه بين يدي عادل رحيم. وأنا أشعر اليوم - ولله الحمد والمنة - أن الكون لا يقف تلك الوقفة البائسة أبدًا؛ فروح الكون تؤمن بربها، وتتجه إليه، وتسبح بحمده. والكون يمضي وفق ناموسه الذي اختاره الله له، في طاعة وفي رضى وفي تسليم!

وهذا كسب ضخم في عالم الشعور، وعالم التفكير، كما أنه كسب ضخم في عالم الجسد والأعصاب، فوق ما هو كسب ضخم في جمال العمل والنشاط والتأثر والتأثير.

والإيمان - بعد - قوة دافعة وطاقة مجمعة؛ فما تكاد حقيقته تستقر في القلب حتى تتحرك لتعمل، ولتحقق ذاتها في الواقع، ولتوائم بين صورتها المضمرة وصورتها الظاهرة. كما أنها تستولي على مصادر الحركة في الكائن البشري كلها، وتدفعها في الطريق ...

وصدق الله العظيم: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات:17). فهي المنة الكبرى التي لا يملكها ولا يهبها إلا الله الكريم، لمن يعلم منه أنه يستحق هذا الفضل العظيم.

وصدق الله العظيم؛ فماذا فقد من وجد الأنس بتلك الحقائق والمدركات وتلك المعاني والمشاعر؟ وعاش بها ومعها، وقطع رحلته على هذا الكوكب في ظلالها وعلى هداها؟ وماذا وجد من فقدها ولو تقلب في أعطاف النعيم وهو يتمتع ويأكل كما تأكل الأنعام، والأنعام أهدى لأنها تعرف بفطرتها الإيمان وتهتدي به إلى بارئها الكريم؟»(30).

ويقول في موطن آخر: «ولا يدرك حقيقة نعمة الله في هذا الدين،ولا يقدرها قدرها، من لم يعرف حقيقة الجاهلية ومن لم يذق ويلاتها - والجاهلية في كل زمان وفي كل مكان هي منهج الحياة الذي لم يشرعه الله - فهذا الذي عرف الجاهلية وذاق ويلاتها - ويلاتها في التصور والاعتقاد، وويلاتها في واقع الحياة - هو الذي يحس ويشعر، ويرى ويعلم، ويدرك ويتذوق حقيقة نعمة الله في هذا الدين. الذي يعرف ويعاني ويلات الضلال والعمى، وويلات الحيرة والتمزق، وويلات الضياع والخواء في معتقدات الجاهلية وتصوراتها فـي كـل زمـان وفي كل مكـان هـو الـذي يعـرف ويتـذوق نعمـة الإيمان»(31).

من ثمار التفكر في نعم الله عز وجل وآلائه:

الثمرة الأولى: محبة الله عز وجل المحبة العظيمة على إنعامه وإحسانه وجلاله وعظمته؛ فالنفس مجبولة على حب من أحسن إليها ولو مرة واحدة فكيف بمن نعمه مدرارة ومتواصلة تواصل الأنفاس ولا يقدر أحد أن يحصيها.

والعبـد أسيـر الإحسان - كما يقال - والإنعام والبر والإحسان يستولي على نفس العبد ويدفعه إلى محبة المسدي والمنعم، ولا منعم على الحقيقة ولا محسن إلا الله عز وجل؛ إذن فلا أحد يحب لذاته إلا الله عز وجل، ومن سواه فلا يحب إلا لله عز وجل.

يقول ابن قدامة - رحمه الله تعالى -: «فلا محبوب في الحقيقة عند ذوي البصائر إلا الله تعالى، ولا مستحق للمحبة كلها سواه.

وإيضاح ذلك يرجع - بمقتضى العقل - إلى أسباب:

أحدها: أن الإنسان يحب نفسه وبقاءه وكماله ودوام وجوده، ويكره ضد ذلك من الهلاك والعدم والنقصان. وهذه جبلة كل حي، لا يتصور أن ينفك عنها.وهذا يقتضي غاية المحبة لله عز وجل؛ فإن الإنسان إذا عرف ربه، عرف قطعًا أن وجوده ودوامه وكماله من الله، وأنه البارئ له، الموجد لذاته بعد أن كان عدمًا محضًا لولا فضل الله عليه بإيجاده، وهو ناقص بعد الوجود لولا فضل الله عليه بالتكميل. وكيف يتصور أن يحب الإنسان نفسه، ولا يحب ربه الذي به قوام نفسه؟

السبب الثاني: أن الإنسان بالطبع يحب من أحسن إليه، ولاطفه وواساه، وانتدب لنصرته وقمع أعداءه وأعانـه على جميع أغراضه، فإنه محبوب عنده لا محالة.

وإذا عرف الإنسان ذلك حق المعرفة، علم أن المحسن إليه هو الله سبحانه وتعالى فقط، وأنواع إحسانه لا يحيط بها حصر.

بيان ذلك أنه لو فُرض أن شخصًا أنعم عليك بجميع خزائنه وما يملك، ومكنك فيها لتتصرف كيف شئت، فإنك تظن أن هذا الإحسان منه، وهذا غلط، فإنه إنما تم إحسانه بماله وبقدرته على المال وبداعيته الباعثة له على صرف المال بإرادة الله، وإلا فمن الذي أنعم بخلقه وخلق ماله وخلق إرادته وداعيته؟ ومن الذي حببك إليه؟ وصرف وجهه إليك، وألقى في نفسه أن صلاح دينه ودنياه في الإحسان إليك، ولولا ذلك ما أعطاك؟ فكأنه صار مقهورًا في التسليم لا يستطيع مخالفته.

السبب الثالث: أن المحسن المنعم من البشر، محبوب في الطباع وإن لم يصل إليك إحسانه؛ فإنك لو بلغك عن ملك من الملوك أنه عالم عابد عادل، رفيق بالناس متطلف بهم، وهو في قطر بعيد، فإنك تحبه، وتجد في نفسك ميلاً كثيرًا إليه، فهذا حب المحسن من حيث إنه محسن، فضلاً عن أن يكون محسنًا إليك، فكيف بمن أنت أثر من آثار إحسانه؟ بل حسنة من حسنات قدرته؟

إن هذا يقتضي حب الله تعالى، بل يقتضي أن لا يُحب غيره، إلا بحيث أن يتعلق منه بسبب؛ فإنه سبحانه هو المحسن إلى الكل كافة بإيجادهم وتكميلهم ومدهم بالأسباب التي هي من ضروراتهم وترفيههم، إلى غير ذلك من النعم التي لا تحصى»(32).

وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «ولا بد من التنبيه على قاعدة تحرك القلوب إلى الله عز وجل، فتعتصم به، فتقل آفاتها، أو تذهب عنها بالكلية بحول الله وقوته.

فنقول: اعلم أن محركات القلوب إلى الله عز وجل ثلاثة: المحبة، والخوف، والرجاء. وأقواها المحبة، وهي مقصودة تراد لذاتها؛ لأنها تراد في الدنيا والآخرة بخلاف الخوف فإنه يزول في الآخرة؛ قال الله تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (يونس:62)، والخوف المقصود منه: الزجر والمنع من الخروج عن الطريق، فالمحبة تلقى العبد في السير إلى محبوبه، وعلى قدر ضعفها وقوتها يكون سيره إليه، والخوف يمنعه أن يخرج عن طريق المحبوب، والرجاء يقوده؛ فهذا أصل عظيم، يجب على كل عبد أن يتنبه له، فإنه لا تحصل له العبودية بدونه، وكل أحد يجب أن يكون عبدًا لله لا لغيره.

فإن قيل فالعبد في بعض الأحيان قد لا يكون عنده محبة تبعثه على طلب محبوبه، فأي شيء يحرك القلوب؟ قلنا يحركها شيئان:

أحدهما: كثرة الذكر للمحبوب؛ لأن كثرة ذكره تعلق القلوب به؛ ولهذا أمر الله عز وجل بالذكر الكثير، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (الأحزاب:42).

والثاني: مطالعة آلائه ونعمائه؛ قال الله تعالى: (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأعراف: من الآية69)، وقال تعالى: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) (النحل: من الآية53)، وقال تعالى: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) (لقمان: من الآية20)، وقال تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) (إبراهيم: من الآية34).

فإذا ذكر العبد ما أنعم الله به عليه من تسخير السماء والأرض، وما فيها من الأشجار والحيوان، وما أسبغ عليه من النعم الباطنة، من الإيمان وغيره، فلا بد أن يثير ذلك عنده باعثًا»(33) ا.هـ.

الثمرة الثانية: القيـام بواجب الشكر لله عـز وجـل على نعمـه العظيمة، وهذا الواجب يقتضي أمورًا ثلاثة:

الأول : الاعتراف بالقلب لله عز وجل بأنه المنعم الحقيقي، وهو صاحب الفضل والإحسان لكل نعمة دقة أو جلت، وهذا يحدث في القلب المحبة والإجلال والتعظيم والخضوع، وعبادته سبحانه وتعالى بجميع أنواع العبادات القلبية.

الثاني: اللهج باللسان بشكر الله عز وجل وحمده والثناء عليه بأنواع الذكر والتسبيح والتحميد والتكبير وسؤال الله عز وجل الإعانة على ذكره وشكره.

الثالث: الشكر لله تعالى بأعمال الجوارح بحيث توجه إلى طاعة الله تعالى والقيام بأنواع العبادات المختلفة، وأداء فرائضه، والتقرب إليه بالنوافل والطاعات، كما أن شكر الله تعالى بالجوارح يقتضي كفها عن محارم الله تعالى، والتوبة من المعاصي والذنوب، ومحاسبة النفس في ذلك. فبأداء أوامره سبحانه وترك معاصيه تدوم النعم.

يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «لله على العبـد فـي كـل عضو من أعضائه أمر، وله عليه فيه نهي، وله فيه نعمة، وله به منفعة ولذة، فإن قام لله في ذلك العضو بأمره واجتنب فيه نهيه فقد أدى شكر نعمته عليه فيه وسعى في تكميل انتفاعه ولذته به، وإن عطل أمر الله ونهيه فيه عطله الله من انتفاعه بذلك العضو، وجعله من أكبر أسباب ألمه ومضرته. وله عليه من كل وقت من أوقاته عبودية تقدمه إليه وتقربه منه؛ فإن شغل وقته بعبودية الوقت تقدم إليه ربه، وان شغله بهوى أو راحة وبطالة تأخر؛ فالعبد لا يزال في تقدم أو تأخر، ولا وقوف في الطريق البتة. قال تعالى: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) (المدثر:37)»(34) ا.هـ.

ويقول ابن الجوزي - رحمه الله تعالى - في محاسبته لنفسه إزاء نعم الله تعالى: «نازعتْني نفسي إلى أمر مكروٍه في الشرع، وَجَعَلَتْ تَنْصِبُ لي التأويلاتِ وتدفعُ الكراهة، وكانتْ تأويلاتُها فاسدةً، والحجةُ ظاهرةٌ على الكراهة.

فلجأتُ إلى الله تعالى في دفع ذلك عن قلبي، وأقبلتُ على القراءة، وكان دَرْسي قد بََلَغَ إلى سورة يوسُفَ؛ فاتِحَتِها، وذلك الخاطرُ قد شَغَلَ قلبي حتى لا أدري ما أقرأ.

فلما بلغتُ إلى قوله تعالى: (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) (يوسف: من الآية23)؛ انتبهتُ لها، وكأني خوطِبْتُ بها، فأفقتُ من تلك السَّكْرَةِ.

فقلتُ: يا نفسُ! أفهمتِ؟ هذا حُرٌّ بيعَ ظُلْمًا، فراعى حقَّ مَن أحسنَ إليه، وسَمَّاه مالِكًا، وإنْ لم يكنْ له عليه مُلْك، فقالَ: (إِنَّهُ رَبِّي)، ثم زادَ في بيان موجَبِ كَفِّ كَفِّهِ عما يؤذيهِ، فقالَ: (أَحْسَنَ مَثْوَايَ).

فكيفَ بكِ؛ وأنتِ عبدٌ على الحقيقةِ لمولى ما زال يُحْسِنُ إليك من ساعةِ وجودكِ، وإنَّ سَتْرَهُ عليكِ الزَّلَلَ أكثرُ من عدد الحصى؟!

أفما تَذْكُرينَ كيفَ ربَّاكِ، وعلَّمَكِ، ورَزَقَكِ، ودافعَ عنكِ، وساقَ الخيرَ إليكِ، وهداكِ أقومَ طريقٍ، ونجَّاكِ من كلِّ كيدٍ، وضمَّ إلى حُسْن الصُّورةِ الظاهرة جَوْدَةَ الذهن الباطن، وسهَّل لك مدارك العلوم حتى نلْت في قصير الزمان ما لم ينلهُ غيرك في طويله، وجلَّى في عرْصَةِ(35) لسانك عرائسَ العلوم في حُلَل الفصاحة، بعد أنْ ستر عن الخلق مقابحك، فتلقوها منك بحسن الظن، وساق رزقك بلا كُلْفَةِ تكلُّفٍ ولا كَدَر مَنٍّ، رغدًا غير نَزْرٍ؟!

فوالله ما أدري أيَّ نعمه عليك أشرحُ لك؛ حُسْن الصورة وصحة الآلات؟ أم سلامة المزاج واعتدال التركيب؟ أم لطف الطبع الخالي عن خساسةٍ؟ أم إلهام الرشاد منذُ الصغر؟ أم الحفظ بحسن الوقاية عن الفواحش والزَّلَلِ؟ أم تحبيب طريق النقل واتباع الأثر من غير جمودٍ على تقليد لمعظم ولا انخراطٍ في سلك مُبتدعٍ؟ (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) (إبراهيم: من الآية34).

كم كائد نصب لك المكائد فوقاك؟ كم عدو حط منك بالذم فرقَّاك؟ كم أعطش من شراب الأماني خلقًا وسقاك؟ كم أمات من لم يبلغ بعض مرادك وأبقاك؟ فأنت تصبحين وتُمسين سليمة البدن، محروسة الدِّين، في تزيُّدٍ من العلم وبلوغ الأمل.

فإن مُنِعْتِ مرادًا، فرُزِقْتِ الصبر عنه بعد أن تبين لك وجه الحكمة في المنع؛ فسلمي حتى يقع اليقين بأنَّ المنع أصلحُ.

ولو ذهبت أعدُّ من هذه النعم ما سَنَحَ ذكرُهُ؛ امتلأت الطُّروسُ(36) ولم تنقطع الكتابة، وأنت تعلمين أنَّ ما لم أذْكُره أكثر، وأن ما أومأتُ إلى ذكره لم يُشْرَحْ؛ فكيف يحسن بك التعرُّض لما يكرهُه؟!

(مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (يوسف: من الآية23)»(37).

الثمرة الثالثة: الإزراء بالنفس، والشعور بالتقصير في حق الله تعالى وشكره؛ إذ مهما فعل العبد من الأعمال الصالحة ما فعل فلن يوفي حق شكر نعمة واحدة من نعم الله تعالى؛ فكيف بباقي النعم التي لا تعد ولا تحصى. وفي هذا إذهاب لأي أثر من آثار الإعجاب بالنفس، واعتراف دائم بالتقصير والتفريط. وهذا له أثر في التعلق بالله سبحانه وتعالى، والتضرع بين يديه، وسؤاله سبحانه الإعانة على شكر النعم، وصرفها في طاعته عز وجل؛ كما ذكر ذلك سبحانه عن أنبيائه وأوليائه:

فهذا سليمان عليه الصلاة والسلام لما رأى نعم الله عليه من الملك، وفهم لغة الطير، وحوار النملة مع أمة النمل سأل ربه سبحانه أن يلهمه شكر نعمته عليه؛ قال الله عز وجل: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) (النمل:19).

وقال عن دعاء الولد المؤمن البار بوالديه: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (الأحقاف: من الآية15)، وأرشد الرسول صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه أن يدعو في دبر كل صلاة بهذا الدعاء: «اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»(38).

وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: «اللهم إني أسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك»(39).

وعن هذا المشهد والشعور يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «ولله تبارك وتعالى على عبده نوعان من الحقوق لا ينفك عنهما:

أحدهما: أمره ونهيه اللذان هما محض حقه عليه.

والثاني: شكر نعمه التي أنعم بها عليه. فهو سبحانه يطالبه بشكر نعمه، والقيام بأمره؛ فمشهد الواجب عليه لا يزال يشهده تقصيره، وتفريطه، وأنه محتاج إلى عفو الله ومغفرته، فإن لم يداركه بذلك هلك. وكلما كان أفقه في دين الله كان شهوده للواجب عليه أتم، وشهوده لتقصيره أعظم. وليس الدين بمجرد ترك المحرمات الظاهرة؛ بل بالقيام مع ذلك بالأمور المحبوبة لله. وأكثر الديانين لا يعبأون منها إلا بما شاركهم فيه عموم الناس. وأما الجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنصيحة لله ورسوله وعباده، ونصرة الله ورسوله ودينه وكتابه؛ فهذه الواجبات لا تخطر ببالهم، فضلاً عن أن يريدوا فعلها، وفضلاً عن أن يفعلوها، وأقل الناس دينًا وأمقتهم إلى الله من ترك هذه الواجبات، وإن زهد في الدنيا جميعها. وقل أن ترى منهم من يحمر وجهه ويمعره لله، ويغضب لحرماته، ويبذل عرضه في نصرة دينه. وأصحاب الكبائر أحسن حالاً عند الله من هؤلاء. وقد ذكر أبو عمر وغيره أن الله تعالى أمر ملكًا من الملائكة أن يخسف بقرية، فقال: يا رب إن فيهم فلانًا العابد الزاهد، قال: به فابدأ، وأسمعني صوته؛ إنه لم يتمعر وجهه فيَّ يومًا قط.

وأما شهود النعمة، فإنه لا يدع له رؤية حسنة من حسناته أصلاً، ولو عمل أعمال الثقلين؛ فإن نعم الله سبحانه أكثر من أعماله، وأدنى نعمة من نعمه تستنفد عمله؛ فينبغي للعبد ألا يزال ينظر في حق الله عليه.

قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا جرير بن حازم، عن وهب، قال: بلغني أن نبي الله موسى عليه السلام مرّ برجل يدعو ويتضرع، فقال: يا رب ارحمه فإني قد رحمته، فأوحى الله إليه: لو دعاني حتى تنقطع قواه ما استجبت له حتى ينظر في حقي عليه.

فمشاهدة العبد النعمة والواجب لا تدع له حسنة يراها؛ ولا يزال مزريًا على نفسه ذامًا لها. وما أقربه من الرحمة إذا أعطى هذين المشهدين حقهما، والله المستعان»(40).

ويقول في موطن آخر وهو يتحدث عن يقظه النفس من غفلتها: «ثم يلحظ في نور تلك اليقظة وُفورَ نعمة ربه عليه من حين استقر في الرحم إلى وقته وهو ينقلب فيها ظاهرًا وباطنًا، ليلاً ونهارًا، ويقظة ومنامًا، سرًا وعلانية؛ فلو اجتهد في إحصاء أنواعها لما قدر، ويكفي أن أدناها نعمة النفس، ولله عليه في كل يوم أربع وعشرون ألف نعمة فما ظنك بغيرها.

ثم يرى في ضوء ذلك النور أنه آيس من حصرها وإحصائها، عاجز عن أداء حقها، وأنَّ المنعم بها إن طالبه بحقوقها استوعب جميع أعماله حق نعمة منها، فيتيقن حينئذ أنه لا مطمع له في النجاة إلا بعفو الله ورحمته وفضله.

ثم يرى في ضوء تلك اليقظة أنه لو عمل أعمال الثقلين من البر لاحتقرها بالنسبة إلى جنب عظمة الرب تعالى وما يستحقه بجلال وجهه وعظيم سلطانه؛ هذا لو كانت أعماله منه، فكيف وهي مجرد فضل الله ومنته وإحسانه؛ حيث يسرها له وأعانه عليها وهيأه لها وشاءها منه وكونها، ولو لم يفعل ذلك لم يكن له سبيل إليها، فحينئذ لا يرى أعماله منه، وأن الله سبحانه لن يقبل عملاً يراه صاحبه من نفسه حتى يرى عين توفيق الله له وفضله عليه ومنته، وأنه من الله لا من نفسه، وأنه ليس له من نفسه إلا الشر وأسبابه، وما به من نعمة فمن الله وحده؛ صدقة تصدق بها عليه، وفضلا منه ساقه إليه من غير أن يستحقه بسبب ويستأهله بوسيلة، فيرى ربه ووليه ومعبوده أهلا لكل خير، ويرى نفسه أهلا لكل شر. وهذا أساس جميع الأعمال الصالحة والظاهرة والباطنة، وهو الذي يرفعها ويجعلها في ديوان أصحاب اليمين»(41).

ويتحدث - رحمه الله تعالى - عن نعمة العلم والإيمان ومتى ينتفع العبد بهما فيقول: «لا ينتفع بنعمة الله بالإيمان والعلم إلا من عرف نفسه ووقف بها عند قدرها، ولم يتجاوزه إلى ما ليس له ولم يتعد طوره، ولم يقل: هذا لي، وتيقن أنه لله ومن الله وبالله؛ فهو المان به ابتداء وإدامة بلا سبب من العبد، ولا استحقاق منه، فتذله نعم الله عليه وتكسره كسرة من لا يرى لنفسه ولا فيها خيرًا ألبتة، وأن الخير الذي وصل إليه فهو لله وبه، ومنه؛ فتحدث له النعم ذلاً وانكسارًا عجيبًا لا يعبر عنه؛ فكلما جدد له نعمة ازداد له ذلاً وانكسارًا وخشوعًا ومحبة وخوفًا ورجاء، وهذا نتيجة علمين شريفين: علمه بربه وكماله، وبره وغناه وجوده وإحسانه ورحمته، وأن الخير كله في يديه وهو ملكه يؤتي منه من يشاء ويمنع منه من يشاء، وله الحمد على هذا وهذا أكمل حمد وأتمه. وعلمه بنفسه، ووقوفه على حدها، وقدرها ونقصها وظلمها، وجهلها، وأنها لا خير فيها ألبتة ولا لها ولا بها ولا منها، وأنها ليس لها من ذاتها إلا العدم؛ فكذلك من صفاتها وكمالها ليس لها إلا العدم الذي لا شيء أحقر منه ولا أنقص؛ فما فيها من الخير تابع لوجودها الذي ليس إليها، ولا بها. فإذا صار هذان العلمان صيغة لها لا صيغة على لسانها علمت حينئذ أن الحمد كله لله، والأمر كله له، والخير كله في يديه، وأنه هو المستحق للحمد والثناء والمدح دونها، وأنها هي أولى بالذم والعيب واللوم. ومن فاته التحقق بهذين العلمين تلونت به أقواله وأعماله»(42) ا.هـ.

الثمرة الرابعة: المحافظة على النعم والحذر من أسباب زوالها: فالتفكر في نعم الله العظيمة، وآلائه الجسيمة يثمر الأخذ بالأسباب التي تحفظها وتبقيها، وترك الأسباب التي تزيلها وتغيرها؛ قال الله تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم:7)، وقال عز وجل: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الأنفال: من الآية53)، وقال سبحانه عمن غفل عن نعم الله وكفر بها: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل:112).

يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - في بيان عقوبات الذنوب: «ومن عقوباتها: أنها تزيل النعم الحاضرة، وتقطع النعم الواصلة؛ فتزيل الحاصل، وتمنع الواصل، فإن نعم الله ما حُفِظ موجودها بمثل طاعته، ولا استُجلب مفقدوها بمثل طاعته، فإن ما عنده لا يُنال إلا بطاعته، وقد جعل الله سبحانه لكل شيء سببًا وآفة؛ سببًا يجلبه، وآفة تبطله، فجعل أسباب نعمه الجالبة لها طاعته، وآفاتها المانعة منها معصيته، فإذا أراد حفظ نعمته على عبده ألهمه رعايتها بطاعته فيها، وإذا أراد زوالها عنه خذله حتى عصاه بها.

ومن العجب علم العبد بذلك مشاهدة في نفسه وغيره، وسماعًا لما غاب عنه من أخبار من أزيلت نعم الله عنهم بمعاصيه، وهو مقيم على معصية الله؛ كأنه مستثنى من هذه الجملة، أو مخصوص من هذا العموم، وكأن هذا أمر جار على الناس لا عليه، وواصل إلى الخلق لا إليه؛ فأي جهل أبلغ من هذا؟ وأي ظلم للنفس فوق هذا؟ فالحكم لله العلي الكبير»(43).

ويقول أيضاً: «ومن عقوبات الذنوب: أنها تزيل النعم وتحل النقم؛ فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، ولا حلت به نقمة إلا بذنب؛ كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة).

وقال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى:30).

وقال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الأنفال: من الآية53).

فأخبر الله تعالى أنه لا يغير نعمه التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يغير ما بنفسه؛ فيغير طاعة الله بمعصيته، وشكره بكفره، وأسباب رضاه بأسباب سخطه، فإذا غير غُير عليه، جزاء وفاقًا، وما ربك بظلام للعبيد.

فإن غير المعصية بالطاعة غير الله عليه العقوبة بالعافية، والذل بالعز.

ولقد أحسن القائل:

إذا كنـت فـي نعمــة فارعها

فـإن الذنــوب تزيــل النعـم

وحطهــا بطاعــة رب العبــ

ـاد فرب العباد سريـع النقـم

وإياك والظلـم مهمـا استطعـ

ـت فظلم العباد شديد الوخم

وسافـر بقلبـك بيـن الــورى

لتبصر آثــار من قــد ظلــم

فتلـــك مساكنهــم بعدهــم

شهـود عليهــم، ولا تتهــم

وما كـان شيء عليهــم أضـ

ـر من الظلم وهو الذي قد قصم

فكم تركوا مـن جنـان ومـن

قصور، وأخرى عليهم أطـم

صلوا بالجحيم وفـات النعــ

ـيم وكان الذي نالهم كالحلم»(44)

 

 

أقوال مضيئة في شكر الله عز وجل على نعمه:

ذكر ابن أبي الدنيا، عن أبي عمران الجوفي، عن أبي الخلد، قال: قال موسى: يا رب، كيف لي أن أشكرك وأصغر نعمة وضعتها عندي من نعمك لا يجازي بها عملي كله؟ قال: فأتاه الوحي: يا موسى الآن شكرتني(45).

وكان الحسن إذا ابتدأ حديثه يقول: الحمد لله، اللهم ربنا لك الحمد، بما خلقتنا ورزقتنا وهديتنا وعلمتنا وأنقذتنا وفرجت عنا؛ لك الحمد بالإسلام والقرآن، ولك الحمد بالأهل والمال والمعافاة، كَبَتَّ عدونا وبسطت رزقنا، وأظهرت أمننا، وجمعت فرقتنا، وأحسنت معافاتنا، ومن كل ما سألناك ربنا أعطيتنا؛ فلك الحمد على ذلك حمدًا كثيرًا؛ لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث، أو سر أو علانية، أو خاصة أو عامة، أو حي أو ميت، أو شاهد أو غائب، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت(46).

وجاء رجل إلى يونس بن عبيد يشكو ضيق حاله، فقال له يونس: أيسرك ببصرك هذه مائة ألف درهم؟ قال الرجل: لا. قال: فبيديك مائة ألف؟ قال: لا. قال: فبرجليك مائة ألف؟ قال: لا. قال: فذكره نعم الله عليه، فقال يونس: أرى عندك مئين الألوف وأنت تشكو الحاجة(47).

وقال بعض السلف في خطبته يوم عيد: أصبحتم زهرًا وأصبح الناس غبرًا، أصبح الناس ينسجون وأنتم تلبسون، وأصبح الناس يعطون وأنتم تأخذون، وأصبح الناس ينتجون وأنتم تركبون، وأصبح الناس يزرعون وأنتم تأكلون؛ فبكى وأبكاهم(48).

وقال أبو حازم: نعمة الله فيما زوي عني من الدنيا أعظم من نعمته فيما أعطاني منها؛ إني رأيته أعطاها أقوامًا فهلكوا، وكل نعمة لا تقرب من الله فهي بلية. وإذا رأيت الله يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره(49).

وذكر كاتب الليث، عن هقل، عن الأوزاعي، أنه وعظهم، فقال في موعظته: أيها الناس تقووا بهذه النعم التي أصبحتم فيها على الهرب من نار الله الموقدة التي تتطلع على الأفئدة؛ فإنكم في دار الثوى فيها قليل، وأنتم فيها مرجون خلائف من بعد القرون الذين استقبلوا من الدنيا أنفعها وزهرتها؛ فهم كانوا أطول منكم أعمارًا وأمد أجسامًا وأعظم آثارًا، فقطعوا الجبال، وجابوا الصخور، ونقبوا في البلاد مؤيدين ببطش شديد وأجسام كالعماد، فما لبثت الأيام والليالي أن طوت مددهم، وعفت آثارهم، وأَخْوَتْ منازلهم، وأَنْسَتْ ذكرهم، فما تحس منهم من أحد ولا تسمع لهم ركزًا(49).

وقال سلام بن مطيع: دخلت على مريض أعوده، فإذا هو يئن، فقلت له: اذكر المطروحين على الطريق، اذكر الذين لا مأوى لهم ولا لهم من يخدمهم. قال: ثم دخلت عليه بعد ذلك فسمعته يقول لنفسه: اذكري المطروحين في الطريق، اذكري من لا مأوى له ولا له مَنْ يخدمه»(50).

وقال عبد الله بن أبي نوح: قال لي رجل على بعض السواحل: كم عاملته تبارك اسمه بما يكره فعاملك بما تحب؟ قلت: ما أحصي ذلك كثرة؟ قال: فهل قصدت إليه في أمر كربك فخذلك؟ قلت: لا والله، ولكنه أحسن إليّ وأعانني. قال: فهل سألته شيئًا فلم يعطكه؟ قلت: وهل منعني شيئًا سألته؟ ما سألته شيئًا قط إلا أعطاني، ولا استعنت به إلا أعانني. قال: أرأيت لو أن بعض بني آدم فعل بك بعض هذه الخلال، ما كان جزاؤه عندك؟ قلت: ما كنت أقدر له مكافأة ولا جزاء. قال: فربك أحق وأحرى أن تدأب نفسك له في أداء شكره، وهو المحسن قديمًا وحديثًا إليك، والله لشكره أيسر من مكافأة عباده؛ إنه تبارك وتعالى رضي من العباد بالحمد شكرًا(51).

وقال وهب: عَبَد الله عابدٌ خمسين عامًا، فأوحى الله إليه: إني قد غفرت لك، قال: أي رب وما تغفر لي ولم أذنب؟ فأذن الله لعرق في عنقه يضرب عليه، فلم ينم ولم يصل، ثم سكن فنام، ثم أتاه ملك فشكا إليه فقال: ما لقيت من ضربان العرق؟! فقال الملك: إن ربك يقول: إن عبادتك خمسين سنة تعدل سكون العرق(52).

وذكر عبد الله بن المبارك أن النجاشي أرسل ذات يوم إلى جعفر وأصحابه، فدخلوا عليه وهو في بيت عليه خلقان جالس على التراب، قال جعفر: فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحال، فلما رأى ما في وجوهنا قال: إني أبشركم بما يسركم؛ إني جاءني من نحو أرضكم عين لي فأخبرني أن الله قد نصر نبيه صلى الله عليه وسلم، وأهلك عدوه، وأسر فلان وفلان، وقتل فلان وفلان. التقوا بواد يقال له بدر كثير الأراك، كأني أنظر إليه كنت أرعى به لسيدي رجل من بني ضمرة. فقال له جعفر: «ما بالك جالسًا على التراب، ليس تحتك بساط، وعليك هذه الأخلاق؟! قال: إنا نجد فيما أنزل الله على عيسى صلى الله عليه وسلم أن حقًا على عباد الله أن يحدثوا لله تواضعًا عندما يحدث الله لهم من نعمه، فلما أحدث الله لي نصر نبيه أحدثت لله هذا التواضع(53).

وقيل للحسن: ها هنا رجل لا يجالس الناس. فجاء إليه فسأله عن ذلك، فقال: إني أمسي وأصبح بين ذنب ونعمة، فرأيت أن أشغل نفسي عن الناس بالاستغفار من الذنب، والشكر لله على النعمة؛ فقال له الحسن: أنت عندي يا عبد الله أفقه من الحسن، فالزم ما أنت عليه(54).

وذكر ابن أبي الدنيا أن محارب بن دثار كان يقوم بالليل ويرفع صوته أحيانًا: أنا الصغير الذي ربيته فلك الحمد، وأنا الضعيف الذي قويته فلك الحمد، وأنا الفقير الذي أغنيته فلك الحمد، وأنا الصعلوك الذي مولته فلك الحمد، وأنا العزب الذي زوجته فلك الحمد، وأنا الساغب الذي أشبعته فلك الحمد، وأنا العاري الذي كسوته فلك الحمد، وأنا المسافر الذي صاحبته فلك الحمد، وأنا الغائب الذي رددته فلك الحمد، وأنا الراجل الذي حملته فلك الحمد، وأنا المريض الذي شفيته فلك الحمد، وأنا السائل الذي أعطيته فلك الحمد، وأنا الداعي الذي أجبته فلك الحمد .. ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا(55).

وكان بعض الخطباء يقول في خطبته: اختط لك الأنف فأقامه وأتمه فأحسن تمامه، ثم أدار منك الحدقة فجعلها بجفون مطبقة، وبأشفار معلقة، ونقلك من طبقة إلى طبقة، وحنن عليك قلب الوالدين برقه ومقة؛ فنعمه عليك مورقة، وأياديه بك محدقة(55).


(1) ينظر: (ص 24).

(2) البخاري: (5458).

(3) «تفسير ابن كثير» عند الآيات: (32-34) من سورة إبراهيم (مختصرًا).

(4) «في ظلال القرآن»: (4/2107، 2108) باختصار.

(*) لعل الأنسب هنا أن يقال: والجوارح.

(5) «مجموع الفتاوى»: (8/210).

(6) «بدائع التفسير»: (3/35).

(7) «تفسير السعدي»: (3/48).

(8) انظر: (ص 147) وما بعدها.

(9) «تفسير السعدي»: (3/50، 51).

(10) «تفسير السعدي»: (3/62).

(11) انظر الفصل الثاني في ذكر آيات الله عز وجل في خلق النحل (ص 127) وما بعدها.

(12) «تفسير السعدي»: (3/69).

(13) «تفسير السعدي»: (3/70).

(14) «تفسير السعدي»: (3/73).

(15) المصدر السابق.

(16) «التحرير والتنوير»: (14/124).

(17) «قواعد التدبير الأمثل لكتاب الله عز وجل» عبدالرحمن حنبكه الميداني: (431، 432).

(18) عن كتاب «الله والعلم الحديث»، عبدالرزاق نوفل.

(19) عن كتاب «العلم يدعو إلى الإيمان».

(20) عن كتاب «الله والعلم الحديث».

(21) عن كتاب «الله والعلم الحديث».

(22) عن كتاب «الله والعلم الحديث».

(23) «في ظلال القرآن»: (6/3848-3850)

(24) قوله بالإضافة يقصد به: بالنسبة إلى ما لم يعرفوه.

(25) «مختصر منهاج القاصدين»: (ص 286) (باختصار)، ت/ عبدالقادر شعيب الأرناؤوط.

(26) «مجموع الفتاوى»: (8/209، 210).

(27) البخاري: (3411)، ومسلم «شرح النووي»: (15/198).

(28) «اجتماع الجيوش الإسلامية»: (ص 33-38) باختصار.

(29) «مدارج السالكين»: (1/12، 13).

(30) «في ظلال القرآن»: (6/3351-3354) باختصار.

(31) المصدر نفسه: (2/844).

(32) «مختصر منهاج القاصدين»: (ص 338-340) باختصار وتصرف، ت/ عبدالقادر وشعيب الأرناووط.

(33) «مجموع الفتاوى»: (1/95، 96).

(34) «الفوائد»: (ص 193) دار الفكر.

(35) العرصة: الساحة.

(36) الطروس: الصحف.

(37) «صيد الخاطر»: (ص 348-350)، دار ابن خزيمة.

(38) مسند أحمد: (5/244)، وصححه الألباني في المشكاة: (1/299).

(39) النسائي: (1/192)، وأورده في المشكاة: (1/301).

(40) «عدة الصابرين»: (ص 186، 187)، دار الكتاب العربي.

(41) «الروح»: (ص 335، 336)، دار الكتاب العربي.

(42) «الفوائد»: (ص 138)، دار الفكر.

(43) «الجواب الكافي»: (ص 145-146).

(44) «الجواب الكافي»: (ص 105، 106).

(45) «عدة الصابرين»: (ص 162).

(46) المصدر نفسه: (ص 163).

(47) المصدر نفسه: (ص 167).

(48) «عدة الصابرين»: (ص 167).

(49) المصدر نفسه: (ص 170).

(50) «عدة الصابرين»: (ص 174).

(51) المصدر نفسه: (ص (175).

(52) «عدة الصابرين»: (ص 176).

(53) المصدر نفسه: (ص 172).

(54) «عدة الصابرين»: (ص 184).

(55) «عدة الصابرين»: (ص 184).


 

الفصل الخامس

التفكر في سير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

والنظر في أيام الله عز وجل

قال الله عز وجل: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف:111).

ولما قص الله عز وجل علينا قصص الأنبياء في سورة هود عقَّبَ سبحانه على هذه القصص بقوله: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) (هود:102، 103).

وفي سـورة الشعراء قص الله عز وجل علينا قصص أنبيائه عليهم الصلاة والسلام: (نـوح وإبراهيم وموسى وهـود وصالح ولـوط وشعيب) - مع أقوامهم وختم كل قصة بخاتمة واحدة متكررة وهي قوله سبحانه: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الشعراء:67، 68).

ولما قص الله عز وجل علينا قصة لوط مع قومه في سورة العنكبوت قال سبحانه: (وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (العنكبوت:35)، والآيات في ذلك كثيرة جدًا.

والمقصود أن الله عز وجل أمرنا بالنظر والتعقل والتفكر في قصص الأنبياء مع أقوامهم، وكيف أن العاقبة والنجاة والنصر والتمكين للأنبياء ومن آمن معهم، والهلاك والبوار للمكذبين الكافرين.

قال الله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (آل عمران:137)، وقال سبحانه عن قرى قوم لوط التي خسف بها: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (الصافات:137، 138)، وأمر الله عز وجل نبيه موسى صلى الله عليه وسلم أن يذكر قومه بأيام الله الماضية، وسنته سبحانه في إنجاء المؤمنين، وإهلاك الكافرين. قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (إبراهيم:5).

يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «وقد فسرت «أيام الله» بنعمه، وفسرت بنقمه من أهل الكفر والمعاصي؛ فالأول تفسير ابن عباس وأبي بن كعب ومجاهد، والثاني: تفسير مقاتل.

والصواب: أن أيامه تعم النوعين؛ وهي وقائعه التي أوقعها بأعدائه، ونعمه التي ساقها إلى أوليائه. وسميت هذه النعم والنقم الكبار المتحدَّث بها «أياما» لأنها ظرف لها؛ تقول العرب: فلان عالم بأيام العرب وأيام الناس؛ أي بالوقائع التي كانت في تلك الأيام. فمعرفة هذه الأيام توجب للعبد استبصار العبر. وبحسب معرفته بها تكون عبرته وعظته؛ قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (يوسف: من الآية111).

ولا يتـم ذلك إلا بالسلامـة من الأغراض؛ وهـي متابعـة الهـوى والانقياد لداعي النفس الأمارة بالسوء؛ فإن اتباع الهوى يطمس نور العقل، ويعمي بصيرة القلب، ويصد عن اتباع الحق، ويضل عن الطريق المستقيم؛ فلا تحصل بصيرة العبرة معه ألبتة. والعبد إذا اتبع هواه فسدَ رأيه ونظره؛ فأرَتْهُ نفسه الحسَنَ في صورة القبيح،والقبيح في صورة الحسن؛ فالتبس عليه الحق بالباطل. فأنَّى له الانتفاع بالتذكر، أو بالتفكر، أو بالعظة؟»(1).

ويتحدث سيد قطب - رحمه الله تعالى - عند قول الله عز وجل: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً... الآية)(الروم:9).

فيقول: «وهي دعوة إلى التأمل في مصائر الغابرين؛ وهم ناس من الناس،وخلق من خلق الله، تكشف مصائرهم الماضية عن مصائر خلفائهم الآتية. فسنة الله هي سنة الله في الجميع، وسنة الله حق ثابت يقوم عليه هذا الوجود، بلا محاباة لجيل من الناس، ولا هوى ينقلب، فتنقلب معه العواقب. حاشا لله رب العالمين!

وهي دعوة إلى إدراك حقيقة هذه الحياة وروابطها على مدار الزمان، وحقيقة هذه الإنسانيـة الموحـدة المنشـأ والمصير على مـدار القرون كي لا ينعزل جيل من الناس بنفسه وحياته، وقيمه وتصوراته، ويغفل عن الصلة الوثيقة بين أجيال البشر جميعًا،وعن وحدة السنة التي تحكم هذه الأجيال جميعًا؛ ووحدة القيم الثابتة في حياة الأجيال جميعًا»(2).

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - متحدثًا عن كثرة ورود قصص الأنبياء في القرآن الكريم: «ولهذا قص الله علينا أخبار الأمم المكذبة للرسل، وما صارت إليه عاقبتهم، وأبقى آثارهم وديارهم عبرة لمن بعدهم وموعظة، وكذلك مسخ من مسخ قردة وخنازير لمخالفتهم لأنبيائهم، وكذلك من خسف به، وأرسل عليه الحجارة من السماء، وأغرقه في اليم، وأرسل عليه الصيحة، وأخذه بأنواع العقوبات؛ وإنما ذلكم بسبب مخالفتهم للرسل وإعراضهم عما جاءوا به، واتخاذهم أولياء من دونه.

وهذه سنته سبحانه فيمن خالف رسله وأعرض عما جاؤوا به واتبع غير سبيلهم؛ ولهذا أبقى الله سبحانه آثار المكذبين لنعتبر بها ونتعظ، لئلا نفعل كما فعلوا فيصيبنا ما أصابهم، كما قال تعالى: (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (العنكبوت:34، 35)، وقال تعالى: (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (الصافات:136-138)، أي: تمرون عليهم نهارًا بالصباح وبالليل، ثم قال: (أَفَلا تَعْقِلُونَ)؟، وقال تعالى في مدائن قوم لوط: (...وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) (الحجر:74-76)، يعني: مدائنهم بطريق مقيم يراها المار بها. وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ...) (فاطر: من الآية44).

وهذا كثير في الكتاب العزيز: يخبر سبحانه عن إهلاك المخالفين للرسل ونجاة أتباع المرسلين، ولهذا يذكر سبحانه في سورة الشعراء قصة موسى وإبراهيم، ونوح وعاد وثمود، ولوط وشعيب، ويذكر لكل نبي إهلاكه لمكذبيهم والنجاة لهم ولأتباعهم، ثم يختم القصة بقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الشعراء:8، 9)، فختم القصة باسمين من أسمائه تقتضيها تلك الصفة، هو: (الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) فانتقم من أعدائه بعزته، وأنجى رسله وأتباعهم برحمته»(3).

ويقول في موطن آخر: «وفي قصص هذه الأمور عبرة للمؤمنين بهم؛ فإنهم لا بد أن يبتلوا بما هو أكثر من ذلك، ولا ييأسوا إذا ابتلوا بذلك، ويعلمون أنه قد ابتلي به من هو خير منهم، وكانت العاقبة إلى خير، فليتيقن المرتاب، ويتوب المذنب، ويقوى إيمان المؤمنين فبها يصح الاتساء بالأنبياء»(4).

من ثمرات التفكير والنظر في سير الأنبياء وسير الغابرين:

لا ريب أن في دراسة سير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم ثمرات كثيرة، وعبر عظيمة، وذلك بنص كلام الله عز وجل: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (يوسف: من الآية111). ولقد فصلت القول في ذلك في الرسالة الثانية عشرة من هذه الوقفات والتي هي تحت عنوان: (فبهداهم اقتده). وأذكر في هذا المقام أهم هذه الثمرات على وجه الاختصار ومن أهمها:

الثمرة الأولى:

التعرف علـى حيـاة الرسـل عليهم الصلاة والسلام فـي أنفسهم ومنهجهم في دعوة الناس؛ وذلك للتأسي بهداهم، وأخلاقهم، وأحوالهم، ومنهجهم في دعوة الناس. قال الله تعالى بعد أن ذكر ثلة من أنبيائه ورسله في سورة الأنعام: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام: من الآية90).

وقال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (الممتحنة:6).

وكذلك أمره سبحانه بالاتساء بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21).

وجوانب الاقتداء بحياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كثيرة جداً من أهمها:

أولاً : الاقتداء بهم في إيمانهم وعبادتهم وسلوكهم:

فهم أعظم الناس إيمانًا ومعرفة بالله تعالى، وأكثرهم تعبدًا لله تعالى، وأشدهم خشية له وتوكلاً عليه؛ قال تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (الأنبياء: من الآية90)، وقال سبحانه: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً) (مريم:58)،وأخبر تعالى عن توكلهم عليه سبحانه فقال: (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (إبراهيم:11، 12).وهم أحسن الناس سلوكًا وأخلاقًا؛ فهم أشجع الناس، وأكرم الناس، وأوفى الناس، وأتقى الناس، فلنا فيهم أسوة حسنة في أخلاقهم. وهذا من ثمرة دراسة سيرهم الطاهرة.

ثانيًا : التأسي بهم في صبرهم العظيم على أذى أقوامهم،
وعلى المشقات التي واجهتهم في الدعوة إلى الله عز وجل، وفي هذا تسلية للمؤمنين وتثبيت للمصلحين من بعدهم؛ قال الله عز وجل: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ) (الأنعام:34)، وقال تعالى: (وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (هود:120).

ويتحدث ابن القيم - رحمه الله تعالى - عن ما يخفف على المؤمن أذى الناس فيذكر عشرة مشاهد فيما يصيب المؤمن من أذى الخلق فيقول: «المشهد العاشر: مشهد «الأسوة»؛ وهو مشهد شريف لطيف جدًا؛ فإن العاقل اللبيب يرضى أن يكون له أسوة برسُل الله، وأنبيائه وأوليائـه، وخاصتـه من خلقـه. فإنهم أشد الخلق امتحانًا بالنـاس، وأذى الناس إليهم أسرع من السيل في الحدور. ويكفي تدبر قصص الأنبياء عليهم السلام مع أممهم. وشأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأذى أعدائه له بما لم يُؤذَه مَنْ قبله. وقد قال له وَرَقة بن نوفل «لَتُكَذَّبن. ولَتُخْرَجَنَّ. ولُتْؤذَيَنَّ»(5) وقال له: «ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي»(6) وهذا مستمر في ورثته كما كان في مورثهم صلى الله عليه وسلم.

أفلا يرضى العبد أن يكون له أسوة بخيار خلق الله، وخواص عباده: الأمثل فالأمثل؟ ومن أحب معرفة ذلك فليقف على محن العلماء وأذى الجهال لهم»(7).

ثالثاً : التأسي بهم في شفقتهم على أممهم ورحمتهم بهم ونصحهم لهم:

فهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول عنه ربنا عز وجل: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128).

وهذا نوح عليه الصلاة والسلام يقول لقومه: (وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: من الآية62).

وهود عليه الصلاة والسلام يقول: (وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) (الأعراف: من الآية68).

وصالح عليه الصلاة والسلام يخاطب قومه بعد إهلاكهم يقول: (يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) (الأعراف: من الآية79).

وخاطب شعيب عليه الصلاة والسلام وقومه بعد إهلاكهم بقوله: (يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ) (الأعراف: من الآية93).

وقد كان لهم عناية بأقاربهم من الآباء والأولاد حيث خصوهم بمزيد من الدعوة والنصح؛ قال الله عز وجل عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم وهو يدعو أباه: (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً) (مريم:43-45).

وقال تعالى عن نوح صلى الله عليه وسلم مع ابنه: (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ) (هود: من الآية42).

وقال عن إسماعيل عليه السلام مع أهله: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً) (مريم:54، 55).

رابعًا : التأسي بهم في دعوتهم لأقوامهم ومنهجهم في ذلك:

وهذا الجانب من سيرة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يعد من أهم جوانب الاقتداء التي ينبغي تأملها، والوقوف عندها والتركيز عليها، ولا سيما من الدعاة والمصلحين في هذا الزمان؛ لأن النصر والتمكين مرهون باتباع المعالم الأساسية لدعوتهم التي قادهم الله عز وجل بها إلى النصر والنجاة، وقضى على أعدائهم الكفرة بالهلاك والبوار. ومن هذه المعالم والثوابت في منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما يلي(8):

( أ ( العقيدة أولاً: علمًا وعملاً ودعوة:

والمراد بالعقيدة ما يعقد عليه القلب من تصديق وإقرار وإذعان وقبول بما جاءت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الإيمان بربوبية الله عز وجل وألوهيته وأسمائه وصفاته، والتبرؤ مما يعبد من دون الله تعالى، والإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وقبول حكم الله تعالى ورفض ما سواه، والموالاة والمعاداة على أساس ذلك حسب ما جاءنا عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وبفهم السلف الصالح. وإذا تأملنا دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام وجدناهم متفقين في دعوة الناس إلى هذه العقيدة والبدء بها قبل غيرها؛ قال الله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل: من الآية36)، وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:25).

فلنا في رسل الله عليهم الصلاة والسلام أسوة حسنة في كونهم يبدئون في دعوة الناس بالعقيدة، ويسعون في ترسيخها في قلوب الناس حتـى إذا امتلأت القلـوب بمحبـة الله عز وجل وتعظيمه، والخوف منه، وإجلاله عز وجل جاءت الأوامر والنواهي والحلال والحرام فإذا القلوب مستعـدة للتسليم والطاعـة والانقيـاد. وأي دعوة لا تبدأ بالعقيدة ولا تهتم بها فقد خالفت منهج الأنبياء في الدعوة، ومآلاها إلى الفشل وبعثرة الجهود.

(ب) الولاء والبراء على أساس العقيدة:

وهذا متعلق بما قبله، ولكن إفراده هنا بمعلم مستقل جاء للتنبيه على أهميته، وللتأكيد على وضوح هذا المعلم في دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ولو ذهبنا نتتبع الآيات في كتاب الله عز وجل التي أكدت على هذا الركن الركين من أركان العقيدة لطال بنا المقام.

ولكن أكتفي بآية واحدة جامعة وهي قوله تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) (الممتحنة: من الآية4).

ولذا فإن أي دعوة لا تنطلق من عقيدة الولاء والبراء فإنها دعوة مخالفة لمنهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ودعوتهم.

والولاء والبراء ليس كلمة تقال باللسان، أو معرفة باردة في الجنان، ولكنه حقيقة عظيمة يلزم عليها لوازم كثيرة، ويترتب عليها تبعات وتضحيات باهظة.

- فمن أجل الـولاء والبـراء أوذي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم: تارة بالسجن، وتارة بالقتل، وتارة بالطرد.

- ومن أجله حوصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الشعب ثلاث سنوات.

- ومن أجله هجر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أوطانهم وأهليهم فرارًا بدينهم من الكفار وبغضًا لهم.

- ومن أجله قام سوق الجهاد وقتال أعداء الله عز وجل.

(جـ) الإخلاص في الدعوة وابتغاء الأجر من الله وحده وتربية الأتباع على ذلك:

وهذا أيضًا من أصول العقيدة، ومقتضى توحيد الألوهية. ولنا في أنبياء الله عز وجل أسوة حسنة في إخلاصهم لله تعالى ورفضهم أجور الدنيا في دعوتهم وابتغاء الأجر من الله وحده لا شريك له.

ولقد قص الله تعالى علينا في سورة الشعراء خبر بعض أنبيائه عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم؛ كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم الصلاة والسلام، وكيف أنهم قالوا لأقوامهم بلسان واحد وعبارة واحدة اتفقت الفاظها ومعانيها: (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء:109، 127، 145، 164، 180).

وقال الله عز وجل عن الرجل الصالح في وصفه للمرسلين إلى أصحاب القرية: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (يّـس:20، 21).

وقال سبحانه عن نبيه صلى الله عليه وسلم: (وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) (يوسف:104).

وقال عن نبيه سليمان عليه الصلاة والسلام لما أرسلت إليه ملكة سبأ بأموال تستميله إليها: (قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) (النمل: من الآية36).

ويحق لكل مصلح أن يتأسى بأنبياء الله عز وجل في إخلاصهم لله تعالى في دعوتهم للناس، وأن لا يبتغوا الأجر من الناس، ولكن من رب الناس سبحانه وتعالى.

ويجدر بكل مصلح أن يقول لأهل الدنيا ما قاله الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأقوامهم من قبل: (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ)، وما قاله سليمان عليه الصلاة والسلام لملكة سبأ: (فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ)، وأن يصدع بها إذا عرض عليه منصبٌ أو مالٌ أو أي عرض من أعراض الدنيا ليتلهى بها عن دعوته، أو يتنازل بها عن عقيدته. وينبغي أن يتعاهد المصلحون والمربون هذه الصفات النبيلة في أنفسهم وأتباعهم بالتربية والتزكية.

(د) الصبر على الأذى والابتلاءات المتنوعة من أعداء الدعوة:

وهذه سنة من سنن الله عز وجل التي لا تتبدل (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت:1-3).

ولقد صبر أنبياء الله عز وجل في كل ما واجههم من الابتلاءات المتنوعة والتي وصف الله عز وجل شدتها وثقلها بقوله سبحانه: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة:214).

وقد تعرض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنواع الأذى والابتلاء تارة باتهامهم بالتهم الباطلة كالكذب والسحر والكهانة، وتارة بالأذى الجسدي والنفسي، حيث كان منهم من قتل، ومنهم من سجن، ومنهم من أخرجه المشركون من أرضه، وتارة بتعذيب أتباعهم المؤمنين، أو تقتيلهم والتضييق عليهم في أرزاقهم وأقواتهم.

وأسوق فيما يلي بعض الآيات من كتاب الله عز وجل في بيان أنواع الأذى الذي تعرض له أنبياء الله عز وجل وأتباعهم من المؤمنين:

يقول عز وجل: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) (الذريات:52، 53).

وقال تعالى: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) (الأعراف:127).

وقال سبحانه عن نبيه يوسف عليه السلام: (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) (يوسف: من الآية42).

وقال الله عز وجل عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء:68، 69).

وقال سبحانه عن المكر الذي تعرض له خليله محمد صلى الله عليه وسلم: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال:30).

والآيات في ذكر صنوف الأذى والابتلاء الذي تعرض له أنبياء الله عز وجل وأتباعهم كثيرة. ولقد صبروا وصابروا حتى أتاهم نصر الله، وحقت كلمة العذاب والهلاك على الكافرين؛ فلنا في أنبياء الله عز وجل أسوة حسنة في صبرهم على صنوف الابتلاءات، والتي هي من ضرورات ومتطلبات طريق الدعوة إلى الله عز وجل، وسنة ثابتة من سنن الله تعالى التي لا تتبدل ولا تتحول.

(هـ) التدرج في الدعوة، ومراعاة المصالح والمفاسد، والموازنة بينهما، وتعاهد الأتباع بالتربية والتزكية:

إن المتأمل في دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وبخاصة سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في دعوته يرى أنها كانت تمر في مراحل متدرجة؛ كل مرحلة تؤدي إلى الأخرى، حتى أتاهم نصر الله عز وجل.

كما أن المتأمل فيها أيضًا يرى أن تلك المراحل، وما فيها من مواقف، وتصرفات، وأحكام كانت مبنية على فهمهم لواقعهم الذي يدعون فيه، وكانوا يراعون المصالح والمفاسد، والموازنة بينهما؛ فجاءت دعوتهم محكمة مثمرة منصورة. وكيف لا تكون كذلك وهي تسير بوحي الله عز وجل وأمره ونهيه وتوجيهه؛ لذا فإنه يتحتم على من يريد نصر الله عز وجل وتمكينه أن يهتدي بهذا الهدي المعصوم، وأن يطيل النظر والتفكر والتأمل فيه في ضوء مستجدات العصر، وفهم الواقع المحيط؛ فلا ينتقل إلى المرحلة التالية قبل نضوج المرحلة التي قبلها ولا تتضخم عنده مراعاة المراحل بحيث يبقى في مرحلة لا يتجاوزها إلى غيرها بحجة التريث وعدم الاستعجال، أو بسبب الإغراق في الخوف على الدعوة وأهلها.

وبالنظر في المراحل التي سار فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وصحبه الكرام في مكة، حيث الصبر والتربية وكف اليد، وترسيخ العقيدة بدءً بالدعوة السرية ثم العلنية، وفي المدينة حيث صارت للمسلمين دولة وكيان، فأذن لهم في القتال، ثم أمروا بقتال من اعتدى عليهم، ثم أمروا بقتال الكفار حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله(9)؛ إنه بالنظر في هذه المرحلة يتبين لنا الحكمة العظيمة، ومراعاة المصالح والمفاسد، والموازنة بينهما عند التعارض. وهذا كله مما يحتاج إليه المصلحون والدعاة في عصرنا الحاضر، وهو ثمرة التأسي بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا سيما سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

الثمرة الثانية:

التعرف على السنن الإلهية في الصراع بين الحق والباطل من خلال دعوة الرسل لأقوامهم:

إن الوقوف مع السنن الربانية المستوحاة من دعوة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - لأقوامهم لمن الواجبات التي ينبغي للدعاة إلى الله عز وجل أن يلموا بها ويعرفوها،وذلك ليستفيدوا منها في تفسير الأحداث والمواقف والنوازل ولا يستغربوها ويفاجأوا بها؛ لكونها تحدث بأمر الله عز وجل وحكمته البالغة التي جعلت للأحداث والمتغيرات سننًا لا تتبدل ولا تتحول. كما أن في معرفة هذه السنن معرفة بأسباب النصر والتمكين، وأسباب الهزيمة والخسران، وفي الغفلة عنها تفريط في الأخذ بأسباب النجاة، وإعراض عن هدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين ساروا في ضوء السنن الربانية؛ لأنهم أعرف الناس بالله عز وجل وأسمائه وصفاته وسننه وعاداته وأيامه. وفي التفكير والتأمل في سير الأنبياء - صلى الله عليهم وسلم - مع أقوامهم تبرز وتعرف هذه الثمرة العظيمة.

ويحسن قبل التعرض لبعض هذه السنن أن نلم إلمامة سريعة بالسنن الربانية من حيث تعريفها ودلالتها ووقت ظهورها:

قال الله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (آل عمران:137).

وقال عز وجل: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر: من الآية43).

يقول الدكتور محمد السلمي حفظه الله: «والتاريخ بما يحتوي من الحوادث المتشابهة، والمواقف المتماثلة يساعد على كشف هذه السنن التي هي غاية في الدقة والعدل والثبات. وفي إدراكنا للسنن الربانية فوائد عظيمة، حتى لو لم نقدر تفادي حدوثها والنجاة منها؛ حيث يعطينا هذا الإدراك والمعرفة صلابة في الموقف، بخلاف من يجهل مصدر الأحداث؛ فإن الذي يعلم تكون لديه بصيرة وطمأنينة، أما الذي يجهل فليس لديه إلا الحيرة والخوف والقلق»(10) ا.هـ

ويُعرِّف الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى السنة ودلالتها فيقول: (والسنة هي: العادة في الأشياء المتماثلة. (وسُنَّة) هنا تجري على سنَنَه؛ هذا في الاشتقاق الأكبر. والسنن، وأسنان المشط، ونحو ذلك بلفظ السنة يدل على التماثل؛ فإنه سبحانه وتعالى إذا حكم في الأمور المتماثلة بحكم فإن ذلك لا ينقض ولا يتبدل ولا يتحول، بل هو سبحانه لا يفوِّت بين المتماثلين، وإذا وقع تغيير فذلك لعدم التماثل. كما أن من سننه التفريق بين المختلفين، كما دل على ذلك القرآن؛ قال الله تعالى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) (القلم:35)، ومن هذا الباب صارت قصص المتقدمين عبرة لنا، ولولا القياس، واطراد فعله وسنته لم يصح الاعتبار بها. والاعتبار إنما يكون إذا كان حكم الشيء حكم نظيره، كالأمثال المضروبة في القرآن وهي كثيرة»(11) ا.هـ.

أما عن وقت ظهورها وتحققها فهو إلى الله عز وجل الذي جعل لكل أجل كتابًا بعلمه وحكمته البالغة. وقد يبدو للناس أن أسباب تحقق سنة الله عز وجل قد انعقدت ومع ذلك لم يأذن الله عز وجل بظهورها عن علم وحكمة، فسبحان من له الأسماء الحسنى والصفات العلا.

قال الله تعالى: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (الحج:47)، وقال عز وجل: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) (الكهف:59).

يقول سيد قطب - رحمه الله -: «هناك حقيقة ينساها البشر حين يمكّن الله لهم في الأرض. ينسون أن هذا التمكين إنما تم بمشيئة الله ليبلوهم فيه؛ أيقومون عليه بعهد الله وشرطه من العبودية له وحده، والتلقي منه وحده؟ أم يجعلون من أنفسهم طواغيت تَدّعي حقوق الإلهية وخصائصها؟ إنها حقيقة ينساها البشر، فينحرفون عن عهد الله ويمضون على غير سنة الله، ولا يتبين لهم في أول الطريق عواقب هذا الانحراف، ويقع الفساد رويدًا رويدًا وهم ينزلقون ولا يشعرون حتى يستوفي الكتاب أجله ويحق وعد الله. ثم تختلف أشكال الأخذ والنهاية؛ فمرة يأخذهم بعذاب الاستئصال، بعذاب من فوقهم أو من تحت أرجلهم كما وقع لكثير من الأقوام، ومرة بالسنين ونقص الأنفس والثمرات كما حدث لأقوام آخرين، ومرة يذيق بعضهم بأس بعض، فيعذب بعضها بعضًا، ويدمر بعضهم بعضًا، ويسلط الله عليهم عبادًا له - طائعين أو عصاة - يخضدون شوكتهم. ثم يستخلف الله العباد الجدد ليبتليهم بما مكنهم.

وهكذا تمضي دورة السنة؛ فالسعيد من وعاها، والشقي من غفل عنها، وإنه لَمِمَّا يخدع الناس أن يروا الفاجر الطاغي أو الملحد الكافر ممكنًا له في الأرض غير مأخوذ من الله. ولكن الناس إنما يستعجلون، لأنهم يرون أول الطريق أو وسطه، ولا يرون نهاية الطريق؛ لأن السنة تستغرق وقتًا طويلاً لكنها تلاحظ من خلال التاريخ»(12) ا.هـ.

ويقول الدكتور السّلمي - حفظه الله -: «والسنة الربانية قد تستغرق وقتًا طويلاً لكي ترى متحققة، في حين أن عمر الفرد محدود؛ ولذلك فقد لا يمكنه رؤية السنة متحققة، بل قد يرى الإنسان جانبًا من السنة الربانية، ثم لا تتحقق نهايتها في حياته، مما قد يدفعه إلى عدم إدراك السنة أو التكذيب بها. وهنا يكون دور التاريخ في معرفة أن السنة الربانية لا بد أن تقع، ولكن لمَّا كان عمرها أطول من عمر الفرد - بل ربما أطول من أعمار أجيال - فإنها ترى متحققة من خلال التاريخ الذي يثبت أن سنة الله ثابتة لا تتبدل كما قال تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) (الأحزاب:62))(13) ا.هـ.

وبعد هذه المقدمة التي لا بد منها عن السنة الربانية، نأتي الآن للتعرف على بعض هذه السنن الثابتة من خلال التفكر في تاريخ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومنها ما يلي:

1- العاقبة للمتقين والهلاك للمكذبين المعاندين:

والشواهد من الأدلة والوقائع على هذه السنة كثيرة جدًا؛ فمن ذلك قوله تعالى عقب قصة نوح عليه الصلاة والسلام: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (هود:49).

وقوله تعالى عن وصية موسى عليه الصلاة والسلام لقومه بعد أن هددهم فرعون بتقتيل أبنائهم واستحياء نسائهم: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف:128).

وقوله تعالى عن هود عليه الصلاة والسلام مع قومه: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ) (الأعراف:72).

وقال عن نبيه صالح عليه الصلاة والسلام: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) (هود:66، 67).

وقوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم:47).

وما جرى من تحقيق هذه السنة في الماضي سيجري مثله إن شاء الله تعالى في الحاضر والمستقبل إذا تحققت أسبابها من ظهور المتقين الذين يستحقون نصر الله عز وجل.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «فإن كان قد نصر المؤمنين لأنهم مؤمنون، كان هذا موجبًا لنصرهم حيث وجد هذا الوصف، بخلاف ما إذا عصوا ونقضوا إيمانهم كيوم أحد؛ فإن الذنب كان لهم، ولهذا قال تعالى: (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) (الأحزاب: من الآية62) فعم كل سنة له ...»(14) ا.هـ.

وقد سار شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - في ضوء هذه السنة الربانية وعمل بها في جهاد التتار لما احتلوا بلاد الشام، وكتب للمسلمين يحرضهم على القتال وينبههم إلى هذه السنة الإلهية في نصر أوليائه، وهلاك أعدائه؛ فكان مما كتب لهم قوله: «إلى من يصل إليه من المؤمنين والمسلمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ فإنا نحمد اليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلي على صفوته من خليقته وخيرته من بريته محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.

أما بعد: فقد صدق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً) (الأحزاب:25) والله تعالى يحقق لنا التمام بقوله: (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) (الأحزاب:26، 27).

فإن هذه الفتنة التي ابتلي بها المسلمون مع هذا العدو المفسد الخارج عن شريعة الإسلام قد جرى فيها شبيه بما جرى للمسلمين مع عدوهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المغازي التي أنزل الله فيها كتابه، وابتلى بها نبيه والمؤمنين؛ مما هو أسوة لمن كان يرجو الله اليوم الآخر، وذكر الله كثيرًا إلى يوم القيامة؛ فإن نصوص الكتاب والسنة، اللذين هما دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، يتناولان عموم الخلق بالعموم اللفظي والمعنوي، أو بالعموم المعنوي. وعهود الله في كتابه وسنة رسوله تنال آخر هذه الأمة كما نالت أولها. وإنما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأمم لتكون عبرة لنا. فنشبه حالنا بحالهم، ونقيس أواخر الأمم بأوائلها، فيكون للمؤمن من المتأخرين شبه بما كان للمؤمن من المتقدمين، ويكون للكافر والمنافق من المتأخرين شبه بما كان للكافر والمنافق من المتقدمين؛ كما قال تعالى لما قص قصة يوسف مفصلة، وأجمل قصص الأنبياء، ثم قال: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى) (يوسف: من الآية111) أي: هذه القصص المذكورة في الكتاب ليست بمنزلة ما يفترى من القصص المكذوبة، كنحو ما يذكر في الحروب من السير المكذوبة.

وقال تعالى لما ذكر قصة فرعون: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى) (النازعـات:25، 26)، وقال في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع أعدائه ببدر وغيرها: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) (آل عمران:13)، وقال تعالى في محاصرته لبني النضير: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (الحشر:2). فأمرنا أن نعتبر بأحوال المتقدمين علينا من هذه الأمة، وممن قبلها من الأمم.

وذكر في غير موضع أن سنته في ذلك سنة مطردة، وعادته مستمرة؛ فقال تعالى: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) (الأحزاب:60-62)، وقال تعالى: (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) (الفتح:22، 23)، وأخبر سبحانه أن دأب الكافرين من المستأخرين كدأب الكافرين من المستقدمين.

فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه في عباده، ودأب الأمم وعاداتهم، لا سيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طبق الخافقين خبرها، واستطار في جميع ديار الإسلام شررها، وأطلع فيها النفاق ناصية رأسه، وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيها عمود الكتاب أن يُجتث ويخترم، وحبل الإيمان أن ينقطع ويصطلم، وعقر دار المؤمنين أن يحل بها البوار، وأن يزول هذا الدين باستيلاء الفجرة التتار. وظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض أن ما وعدهم الله ورسوله إلا غرورًا، وأن لن ينقلب حزب الله ورسوله إلى أهليهم أبدًا، وزين ذلك في قلوبهم، وظنوا ظن السوء وكانوا قومًا بورًا. ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران، وأنزلت الرجل الصاحي منزلة السكران، وتركت الرجل اللبيب لكثرة الوساوس ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان، حتى بقي للرجل بنفسه شغل عن أن يغيث اللهفان. وميز الله فيها أهل البصائر والإيقان من الذين في قلوبهم مرض أو نفاق وضعف إيمان، ورفع بها أقوامًا إلى الدرجات العالية، كما خفض بها أقوامًا إلى المنازل الهاوية، وكفر بها عن آخرين أعمالهم الخاطئة، وحدث من أنواع البلوى ما جعلها قيامة مختصرة من القيامة الكبرى؛ فإن الناس تفرقوا فيها بين شقي وسعيد كما يتفرقون كذلك في اليوم الموعود، وفر الرجل فيها من أخيه وأمه وأبيه؛ إذ كان لكل امرئ منهم شأن يغنيه. وكان من الناس من أقصى همته النجاة بنفسه، لا يلوي على ماله ولا ولده ولا عرسه. كما أن منهم من فيه قوة على تخليص الأهل والمال، وآخر فيه زيادة معونة لمن هو منه ببال، وآخر منزلته منزلة الشفيع المطاع، وهم درجات عند الله في المنفعة والدفاع. ولم تنفع المنفعة الخالصة من الشكوى إلا الإيمان والعمل الصالح، والبر والتقوى. وبليت فيها السرائر، وظهرت الخبايا التي كانت تكنها الضمائر، وتبين أن البهرج من الأقوال والأعمال يخون صاحبه أحوج ما كان إليه في المآل. وذم سادته وكبراءه من أطاعهم فأضلوه السبيلا، كما حمد ربه من صدق في إيمانه فاتخذ مع الرسول سبيلا، وبان صدق ما جاءت به الآثار النبوية من الأخبار بما يكـون، وواطأتهـا قلوب الذين هم في هـذه الأمـة محدثون، كما تواطأت عليه المبشرات التي أريها المؤمنون. وتبين فيها الطائفة المنصورة الظاهرة على الدين، الذين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى يوم القيامة؛ حيث تحزبت الناس ثلاثة أحزاب: حزب مجتهد في نصر الدين، وآخر خاذل له، وآخر خارج عن شريعة الإسلام.

وانقسم النـاس ما بين: مأجور، ومعذور، وآخر قـد غـره بالله الغرور. وكان هذا الامتحان تمييزًا من الله وتقسيما؛ (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً) (الأحزاب:24)»(15) ا.هـ.

وقال أيضًا في هذه النازلة يبشر المؤمنين بالنصر وأن العاقبة للمتقين: «واعلموا - أصلحكم الله - أن النصرة للمؤمنين والعاقبة للمتقين، وأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وهؤلاء القوم مقهورون مقموعون. والله سبحانه وتعالى ناصرنا عليهم ومنتقم لنا منهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ فأبشروا بنصر الله تعالى وبحسن العاقبة (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:139))، وهذا أمر قد تيقناه وتحققناه والحمد لله رب العالمين»(16).

2- إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم:

تعتبر هذه السنة من السنن الخالدة التي يتحمل البشر في ضوئها مسؤوليتهم فيما يقع لهم من خير أو شر؛ لأن الله عز وجل قد منح الإنسان قدرًا من الحرية والاختيار، وشرح له أسباب النجاة، وأسباب الهلاك، وأنزل عليه الكتاب، وأرسل إليه الرسل. فمنه يبدأ التغيير: سواء إلى الشر أو إلى الخير؛ فإن كان الناس في شر وبلاء فإن الله عز وجل لا يزيل هذا الشر عنهم إلا بأن يأخذوا بأسباب النجاة، فيغيروا ما بأنفسهم بطاعة الله عز وجل، وترك معاصيه التي هي أصل الشر والمصائب. وعلى العكس من ذلك: لو كان الناس في خير ونعمة ورخاء؛ فإن حرمانهم من هذا الخير، وحصول الشر لهم بعده إنما يأتي من أنفسهم حين يفرطون في طاعة الله ولا يشكرونه؛ قال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل:112).

وإنه لجدير بالدعاة إلى الله عز وجل في هذا الزمان وفي كل زمان أن يقفوا طويلاً عند هذه السنة؛ فهي الأساس المهم والمنهج الصحيح للدعوة والتغيير، بل هي أم السنن الربانية في البناء والتغيير.

3- الابتلاء سنة جارية للمؤمنين:

وهذه السنة من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى تعليق، حيث تواردت بها الأدلة الكثيرة من القرآن والسنة، وحيث الوقائع والتجارب في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم تشهد بذلك. ويكفي قوله تعالى: (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت:1-3).

وقوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة:214).

وحكمة هذا الابتلاء عظيمة، وفوائده في التربية والتمحيص وتمييز الصفوف معروفة، وعلى هذا ينبغي أن توطن النفوس على هذه السنة مع سؤال الله عز وجل العافية والثبات.

كما يدخل تحت هذه السنة سنة المداولة بين الناس من الشدة إلى الرخاء، ومن الرخاء إلى الشدة، ومن إدالة الكفار على المسلمين للتمحيص والابتلاء.

قال تعالى: (... وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران: من الآية140).

شبهة وجوابها:

وقد ذكر هذه الشبهة ورد عليها الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - حيث يقول: «نذكر ههنا نكتة نافعة وهي: أن الإنسان قد يسمعُ ويرى ما يُصيب كثيرًا من أهل الإيمان في الدنيا من المصائب، وما ينالُ كثيرًا من الكفار والفُجار والظلمة في الدنيا من الرياسة والمال، وغير ذلك، فيعتقد أن النعيم في الدنيا لا يكون إلا للكفار والفجار، وأن المؤمنين حظهم من النعيم في الدنيا قليل، وكذلك قد يعتقد أن العزَّة والنُّصرة في الدنيا تستقرُّ للكفار والمنافقين على المؤمنين.

فإذا سمع في القرآن قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون: من الآية8)، وقوله: (وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) (الصافات:173)، وقوله: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) (المجادلة: من الآية21)، وقوله: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص: من الآية83)، ونحو هذه الآيات، وهو ممن يصدق بالقرآن، حمل ذلك على أن حصوله في الدار الآخرة فقط، وقال: أما الدنيا فإنَّا نرى الكفار والمنافقين يغلبون فيها،ويظهرون ويكون لهم النصر والظفر، والقرآن لا يَرِدُ بخلاف الحسِّ. ويعتمد على هذا الظن إذا أُديل عليه عدوٌّ من جنس الكفار والمنافقين، أو الفجرة الظالمين؛ وهو عند نفسه من أهل الإيمان والتقوى، فيرى أن صاحب الباطل قد علا على صاحب الحق، فيقول: أنا على الحقِّ، وأنا مغلوبٌ، فصاحب الحقِّ في هذه الدنيا مغلوبٌ مقهور، والدولة فيها للباطل.

فإذا ذكر بما وعده الله تعالى من حسن العاقبة للمتقين والمؤمنين، قال: هذا في الآخرة.

وإذا قيل له: كيف يفعلُ الله تعالى هذا بأوليائه وأحبائه، وأهل الحق؟ فإن كان ممن لا يعلل أفعال الله بالحكم والمصالح قال: يفعل الله في ملكه ما يشاء، ويحكم ما يريد (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (الأنبياء:23).

وإن كان ممن يعلل الأفعـال قـال: فعل بهم هذا ليعرضهم بالصبر عليـه لثـواب الآخـرة وعلـوِّ الدرجـات، وتوفيـة الأجـر بغير حساب ... وهذه الأقوال والظنون الكاذبة الحائدة عن الصواب مبنيةٌ على مُقدمتين:

إحداهما: حُسْنُ ظن العبد بنفسه وبدينه، واعتقادُه أنه قائمٌ بما يجبُ عليه، وتارك ما نُهي عنه، واعتقاده في خصمه وعدُوِّه خلاف ذلك، وأنه تارك للمأمور، مرتكب للمحظور، وأنه نَفْسُه أولى بالله ورسوله ودينه منه.

والمقدمة الثانية: اعتقـاده أن الله سبحانـه وتعالـى قـد لا يُؤَيِّد صاحب الدين الحق وينْصُره، وقد لا يجعلُ له العاقبة في الدنيا بوجهٍ من الوجوه، بل يعيشُ عمره مظلومًا مقهورًا مُسْتضامًا، مع قيامه بما أُمِرَ به ظاهرًا وباطنًا، وانتهائه عما نُهي عنه باطنًا وظاهرًا، فهو عند نفسه قائمٌ بشرائع الإسلام،وحقائق الإيمان، وهو تحت قَهْر أهل الظلم والفجور والعُدْوان.

فلا إله إلا الله، كم فَسَد بهذا الاغترار من عابدٍ جاهلٍ، ومُتَديِّن لا بصيرة له، ومُنْتسب إلى العلم لا معرفة له بحقائق الدين.

فإنه من المعلوم: أن العبد وإن آمن بالآخرة، فإنه طالبٌ في الدنيا لما لا بُدَّ له منه: من جلب النفع،ودفع الضر، بما يعتقد أنه مُسْتَحَبٌ أو واجب أو مباح، فإذا اعتقد أنَّ الدين الحق واتباع الهدى، والاستقامة على التوحيد، ومتابعة السُّنَّة ينافي ذلك، وأنه يعادي جميع أهل الأرض، ويتعرضُ لما لا يقدر عليه من البلاء، وفوات حظوظه ومنافعه العاجلة، لزم من ذلك إعراضُه عن الرغبة في كمال دينه، وتجرُّده لله ورسوله، فيعرض قلبه عن حال السابقين المقربين، بل قد يعرض عن حال المقتصدين أصحاب اليمين، بل قد يدخُل مع الظالمين، بل مع المنافقين، وإن لم يكن هذا في أصل الدين كان في كثير من فروعه وأعماله؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بادروا بالأعمال فِتَنًا كقطع الليل المظلم، يُصْبحُ الرجل مؤمنًا ويُمسِي كافرًا، ويُمسِي كافرًا ويصبح مؤمنًا، يبيعُ دينَه بعَرَضٍ من الدنيا»(17).

وذلك أنه إذا اعتقد أنَّ الدين الكامل لا يحصلُ إلا بفساد دُنياه، من حصول ضررٍ لا يحتمله، وفواتِ منفعة لا بُدَّ له منها، لم يُقدِم على احتمال هذا الضرر، ولا تفويت تلك المنفعة.

فسبحان الله

وأصلُها ناشئٌ من جَهلْين كبيرين: جهلٍ بحقيقة الدِّين، وجهل بحقيقة النَعيم الذي هو غايةُ مطلوب النفوسِ، وكمالها، وبه ابتهاجُها والْتِذاذُها، فيتولَّدُ من بين هذين الجهلين إعْراَضُهُ عن القيام بحقيقة الدِّين، وعن طلب حقيقة النَّعيم.

ومعلومٌ أن كمال العبد هو بأن يكون عارفًا بالنعيم الذي يطلُبُه، والعمل الذي يُوصل إليه، وأن يكون مع ذلك فيه إرادة جازمة لذلك العملِ، ومحبَّةٌ صادقة لذلك النعيم، وإلا فالعلمُ بالمطلوب وطريقه لا يُحصِّله إن لم يَقْترن بذلك العملُ، والإرادةُ الجازمةُ لا تُوجب وجودَ المراد إلا إذا لازمها الصَّبر.

فصارتْ سعادةُ العبد وكمال لذَّتِه ونعيمه موقوفًا على هذه المقامات الخمسة: علمـه بالنعيـم المطلوب، ومحبَّته لـه، وعلمـه بالطريق الموصِّل إليه، وعمله به، وصَبره على ذلك.

قال الله تعالى: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر:1-3).

والمقصود: أن المقدمتين اللَّتين تَثْبتُ عليهما هذه الفتنةُ أصلُهما الجهلُ بأمرِ الله ودِينه، وبوَعْده ووَعيده.

فإن العبدَ إذا اعتقدَ أنه قائمٌ بالدين الحقِّ، فقد اعتقد أنه قد قامَ بفعل المأمور باطنًا وظاهرًا، وتركَ المحظور باطنًا وظاهرًا، وهذا من جَهله بالدين الحقَّ، وما لله عليه، وما هو المراد منه؛ فهو جاهلٌ بحقِّ الله عليه، جاهلٌ بما معه من الدين، قَدْرًا ونوعًا، وصِفًة.

وإذا اعتقـد أن صاحب الحـق لا ينصُره الله تعالى فـي الدنيـا والآخرة، بل قد تكون العاقبة في الدنيا للكفار والمنافقين على المؤمنين، وللفجَّار الظالمين على الأبرار المتقين، فهذا من جهله بوعد الله تعالى ووعيده.

فأما المقام الأول: فإن العبد كثيرًا ما يترك واجبات لا يعلم بها، ولا بوجوبها، فيكون مقصِّرًا في العلم، وكثيرًا ما يتركُها بعد العلم بها وبوجوبها؛ إمَّا كسلاً وتهاونًا، وإما لنوع تأويل باطل، أو تقليد، أو لظنِّه أنه مشتغلٌ بما هو أوجبُ منها، أو لغير ذلك. فواجباتُ القلوب أشدُّ وجوبًا من واجبات الأبدانِ، وآكدُ منها، وكأنها ليست من واجبات الدِّين عند كثير من الناس، بل هي من باب الفضائلِ والمستحباتِ.

فتراهُ يتحرَّجُ من ترك فرض، أو من ترك واجب من واجبات البدن، وقد ترك ما هو أهمُّ من واجبات القلوب وأفراضها، ويتحرَّجُ من فعل أدنى المحرَّمات وقد ارتكب من محرمات القلوب ما هو أشدُّ تحريمًا وأعظم إثماً.

بل ما أكثر ما يتعبدُ لله عز وجل بترك ما أوجب عليه، فيتخلى وينقطع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قُدْرَته عليه، ويزعُمُ أنه مُتقرِّبٌ إلى الله تعالى بذلك، مجتمعٌ على رَبِّه، تاركٌ ما لا يعنيه؛ فهذا من أمْقَتِ الخلق إلى الله تعالى، وأبغضهم إليه، مع ظنِّه أنه قائمٌ بحقائق الإيمان وشرائع الإسلام، وأنه من خواصِّ أوليائه وحزبـه.

بل ما أكثر من يتعبَّدُ لله بما حرمه الله عليه، ويعتقد أنه طاعةٌ وقُرْبَة، وحاله في ذلك شَرٌّ من حال من يعتقد ذلك معصيًة وإثمًا؛ كأصحاب السماع الشعْرِى الذي يتقربون به إلى الله تعالى، ويظنُّون أنهم من أولياء الرحمن، وهم في الحقيقة من أولياء الشيطان.

وما أكثر من يعتقد أنه هو المظلوم المحقُّ من كل وجه، ولا يكون الأمر كذلك، بل يكون معه نوعٌ من الحقِّ ونوعٌ من الباطل والظلم، ومع خصمه نوعٌ من الحق والعدل، وحُبُّك الشيء يُعمي ويُصِمُّ. والإنسان مجْبولٌ على حُب نفسه؛ فهو لا يرى إلا محاسنها، ومُبْغِضٌ لخصمْه، فهو لا يرى إلا مَساويَه، بل قد يَشْتدُّ به حُبُّه لنفسه حتى يرى مساويها محاسنَ، كما قال تعالى: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) (فاطر: من الآية8)، ويشتد به بغض خصمه حتى يرى محاسنه مساوئ، كما قيل:

نظــروا بعيــن عــداوةٍ، ولــو أنهــا

عينُ الرِّضا، لاستحسنوا ما اسْتَقْبَحُوا

وهذا الجهل مقرون بالهوى والظلم غالبًا؛ فإنَّ الإنسان ظلومٌ جهولٌ.

وأكثرُ ديانات الخلق إنما هي عاداتٌ أخذوها عن آبائهم وأسلافهم، وقلدوهم فيها: في الإثبات والنفي، والحب والبغض، والموالاة والمعاداة.

والله سبحانه إنما ضمن نصر دينه وحزبه وأوليائه القائمين بدينه علمًا وعملا، لم يضمن نصر الباطل، ولو اعتقد صاحبُه أنه محقٌّ، وكذلك العِزَّة والعُلوُّ إنما هما لأهل الإيمان الذي بعث الله به رُسُله، وأنزل به كتبه، وهو علمٌ وعملٌ وحالٌ؛ قال تعالى: (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران: من الآية139)؛ فللعبد من العلو بحسب ما معه من الإيمان، وقال تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون: من الآية8)؛ فله من العزة بحسب ما معه من الإيمان وحقائقه، فإذا فاتَهُ حظٌّ من العلو والعزة، ففي مقابلة ما فاته من حقائق الإيمان، علمًا وعملاً ظاهرًا وباطنًا.

وكذلك الدفع عن العبد هو بحسب إيمانه؛ قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) (الحج: من الآية38)؛ فإذا ضعفُ الدفعُ عنه فهو من نَقْصِ إيمانه ...

وكذلك النصرُ والتأييدُ الكامل، إنما هو لأهل الإيمان الكامل؛ قال تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر:51)، وقال: (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) (الصف: من الآية14)؛ فمن نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر، والتأييد، ولهذا إذا أصيب العبدُ بمصيبة في نفسه أو ماله، أو بإدالة عدُوِّه عليه، فإنما هي بذنوبه؛ إما بترك واجبٍ، أو فعل محرم، وهو من نقص إيمانه.

وبهذا يزول الإشكال الذي يُورده كثير من الناس على قوله تعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (النساء: من الآية141)، ويجيبُ عنه كثيرٌ منهم بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلا في الآخرة، ويجيبُ آخرون بأنه لَنْ يجعل لهم عليهم سبيلا في الحجة.

والتحقيق: أنها مثلُ هذه الآيات، وأن انتفاءَ السبيل عن أهل الإيمان الكامل. فإذا ضعف الإيمان صار لعدوِّهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم، فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوا من طاعة الله تعالى. فالمؤمن عزيز غالب مُؤَيَّدُ منصور، مكْفِيُّ، مدفوعٌ عنه بالذات أين كان، ولو اجتمع عليه من بأقطارها، إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته؛ ظاهرًا وباطنًا. وقد قال تعالى للمؤمنين: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:139)، وقال تعالى: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) (محمد:35).

فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم وأعمالهم التي هي جُندٌ من جنود الله، يحفظهم بها، ولا يفرِدُها عنهم ويقتطعها عنهم، فيُبْطلُها عليهم، كما يَتِرُ الكافرين والمنافقين أعمالهم، إذ كانت لغيره، ولم تكن موافقة لأمره.

وأما المقام الثاني الذي وقع فيه الغلطُ: فكثيرٌ من الناس يظنُّ أن أهل الدين الحق في الدنيا يكونون أذِلاء مقهورين، مغلوبين دائمًا، بخلاف من فارقهم إلى سبيل أُخرى، وطاعة أخرى؛ فلا يثق بوعد الله بنصر دينه وعباده، بل إمَّا أن يجعل ذلك خاصًا بطائفة دون طائفة، أو بزمان دون زمان، أو يجعله مُعَلقًا بالمشيئة، وإن لم يُصرِّح بها.

وهذا من عدم الوثوق بوعد الله تعالى، ومن سوء الفهم في كتابه.

والله سبحانه قد بين في كتابه أنه ناصر المؤمنين في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر:51).

وقال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (المائدة:56).

وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) (المجادلة: 20، 21).

وقد بيَّن سبحانه فيه أن ما أصاب العبد من مصيبة، أو إدالة عدوٍ، أو كسرٍ، وغير ذلك فبذنوبه؛ فبيَّن سبحانه في كتابه كلا المقدِّمتين، فإذا جمعت بينهما تبين لك حقيقة الأمر، وزالَ الإشكالُ بالكلية، واستغنيت عن تلك التكلُّفات الباردة، والتأويلات البعيدة.

فقرَّر سبحانه المقام الأول بوجوه من التقرير: منها ما تقدم.

ومنها: أنه ذَمَّ من يطلب النصر والعزة من غير المؤمنين، كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (المائدة:51-56).

فأنكر على من طلب النصر من غير حزبه، وأخبر أن حزبه هم الغالبون ...

وقال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (فاطر: من الآية10)، أي: من كان يريد العزة فليطلبها بطاعة الله من الكَلِمُ الطيِّب والعمل الصالح.

وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) (الفتح: من الآية28).

وقال تعالى للمسيح: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) (آل عمران: من الآية55)؛ فلما كان للنصارى نصيبٌ ما من اتباعه كانوا فوق اليهود إلى يوم القيامة، ولما كان المسلمون أتبع له من النصارى كانوا فوق النصارى إلى يوم القيامة.

وقال تعالى للمؤمنين: (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) (الفتح:23، 23)؛ فهذا خطاب للمؤمنين الذين قاموا بحقائق الإيمان ظاهرًا وباطنًا.

وقال تعالى: (إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (هود: من الآية49)، وقال في طه: (وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (طـه: من الآية132)، والمراد: العاقبة في الدنيا قبل الآخرة؛ لأنه ذكر ذلك عقيب قصة نوح، ونصره وصبره على قومه، فقال تعالى: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (هود:49)، أي عاقبة النصر لك ولمن معك، كما كانت لنوح عليه السلام ومن آمن معه.

وكذلك قوله: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (طـه:132)، وقال تعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) (آل عمران: من الآية120)...

وأما المقام الثاني: فقال تعالى في قصة أُحُدٍ: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) (آل عمران: من الآية165).

وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا) (آل عمران: من الآية155).

وقال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى:30).

وقال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم:41) ...

ولهذا أمر الله سبحانه رسوله والمؤمنين باتباع ما أُنزل إليهم، وهو طاعته، وهو المقدمة الأولى، وأمر بانتظار وَعده، وهو المقدمة الثانية، وأمر بالاستغفار والصبر لأن العبدَ لا بدّ أن يحصل له نوع تقصير وسَرَف يزيله الاستغفار، ولا بدَّ في انتظار الوعدِ من الصبر؛ فبالاستغفار تتمُّ الطاعة، وبالصبر يتمُّ اليقين بالوعد، وقد جمع الله سبحانه بينهما في قوله: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِبْكَارِ) (غافر:55).

وقد ذكر الله سبحانه في كتابه قصص الأنبياء وأتباعهم، وكيف نجاهم بالصبر والطاعة، ثم قال: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (يوسف: من الآية111).

وتمام الكلام في هذا المقام العظيم يتبين بأصول نافعة جامعة:

الأول : أن ما يصيب المؤمنين من الشرور والمحن والأذَى دون ما يصيبُ الكفار، والواقعُ شاهد بذلك، وكذلك ما يصيب الأبرار في هذه الدنيا دون ما يصيب الفجار والفساق والظلمة بكثير.

الأصل الثاني: أن ما يصيب المؤمنين في الله تعالى مقرون بالرضا والاحتساب، فإن فاتَهُمْ الرضا فمعَوَّلهم على الصبر، وعلى الاحتساب، وذلك يخفف عنهم ثقل البلاء ومؤنته؛ فإنهم كلما شاهدوا العِوَض هان عليهم تحمل المشاقِّ والبلاء، والكفار لا رضا عندهم ولا احتساب، وإن صبروا فكصبر البهائم، وقد نبه تعالى على ذلك في قوله: (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ) (النساء: من الآية104)؛ فاشتركوا في الألم، وامتاز المؤمنون برجاء الأجر والزلفى من الله تعالى.

الأصل الثالث: أن المؤمن إذا أُوذيَ في الله فإنه محمول عنه بحسب طاعته وإخلاصه، ووجود حقائق الإيمان في قلبه، حتى يحمل عنه من الأذَى ما لو كان شيء منه على غيره لعَجز عن حمله، وهذا من دَفع الله عن عبده المؤمن؛ فإنه يدفع عنه كثيرًا من البلاء، وإذا كان لا بدَّ له من شيء منه دَفع عنه ثقله ومؤنته ومشقته وتبعَته.

الأصل الرابع: أن المحبة كلما تمكنت في القلب ورَسَخت فيه، كان أذى المحبِّ في رضا محبوبه مُسْتحلى غير مسخوط، والمُحِبُّون يَفتَخِرُون عند أحبابهم بذلك، حتى قال قائلهم:

لئن ساءنـي أن نِلْتَنِي بمسـاءَة                     لقد سَرَّني أني خَطَرْتُ ببالك

فما الظنَّ بمحبة المحبوب الأعلى الذي ابتلاؤه لحبيبه رحمة منه له وإحسان إليه.

الأصل الخامس: أنَّ ما يصيبُ الكافرَ والفاجرَ والمنافق من العز والنصر والجاه دون ما يحصلُ للمؤمنين بكثير، بل باطن ذلك ذلٌّ وكسرٌ وهوان، وإن كان في الظاهر بخلافه.

قال الحسنُ رحمه الله: «إنهم وإن هَمْلَجت بهم البراذين وطَقطَقَتْ بهم البغال إن ذلّ المعْصِية لفي قلوبهم؛ أبَى الله إلا أن يُذل مَنْ عصاه).

الأصل السادس: أن ابتلاء المؤمن كالدّواء له يَسْتخرجُ منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته، أو نقصَتْ ثوابه، وأنزلت درجته، فيستخرجُ الابتلاءُ والامتحان منه تلك الأدواء ويَسْتعدُّ به لتمام الأجر وعلوّ المنزلة، ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه؛ كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن؛ إن أصابته سَرَّاء شكرَ، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضَراء صبر، فكان خيرًا له»(18).

فهذا الابتلاء والامتحان من تمام نصره وعزه وعافيته، ولهذا كان أشدُ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأقرب إليهم فالأقرب؛ يُبتلى المرءُ على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة شُدِّد عليه البلاءُ، وإن كان في دينه رِقِّة خُففَ عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يَمشي على وَجه الأرض وليس عليه خطيئة.

الأصل السابع: أنَّ ما يصيبُ المؤمن في هذه الدار من إدالة عَدُوه عليه، وغلبته له، وأذاه له في بعض الأحيان: أمرٌ لازم لا بد منه، وهو كالحرِّ الشديدِ، والبرْد الشديد، والأمراض والهموم والغموم؛ فهذا أمر لازم للطبيعة والنشأة الإنسانية في هذه الدار، حتى للأطفال والبهائم، لما اقتضَتْه حكمةُ أحكم الحاكمين؛ فلو تجرَّد الخيرُ في هذا العالم عن الشرِّ، والنفعُ عن الضرّ، واللذة عن الألم، لكان ذلك عالمًا غير هذا، ونشأة أخرى غير هذه النشأة، وكانت تَفُوتُ الحكمة التي مزج لأجلها بين الخير والشر، والألم واللذَّة، والنافع والضار، وإنما يكون تخليصُ هذا من هذا، وتمييزه في دار أخرى غير هذه الدار؛ كما قال تعالى: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (الأنفال:37).

الأصل الثامن: أن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم وقهرهم، وكسرهم لهم أحيانًا، فيه حكمةٌ عظيمةٌ لا يعلمها على التَّفْصِيل إلا الله عز وجل.

فمنها: استخراج عبوديتهم وذُلِّهم لله، وانْكِسارهِمْ، وافتقارِهم إليه، وسؤاله نصرهم على أعدائهم، ولو كانوا دائمًا منصورين قاهرين غالبين لبطروا وأشروا. ولو كانوا دائمًا مقهورين مغلوبين منصورًا عليهم عدوُّهم لما قامت للدين قائمةٌ، ولا كانت للحق دولة. فاقتضت حكمةُ أحكم الحاكمين أن صرَّفَهم بين غلبهم تارةً، وكونهم مغلوبين تارةً؛ فإذا غُلبُوا تَضَرَّعُوا إلى ربهم، وأنابوا إليه، وخضعوا له، وانكسروا له، وتابوا إليه، وإذا غلبُوا أقاموا دينه وشعائره، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وجاهدوا عدوَّه، ونصروا أولياءه.

ومنها: أنهم لو كانوا دائمًا منصورين، غالبين، قاهرين، لدخل معهم من ليس قصده الدِّين ومتابعة الرسول؛ فإنه إنما ينضافُ إلى من له الغلبة والعزّة. ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائمًا لم يدخل معهم أحدٌ. فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارةً، وعليهم تارة. فيتميز بذلك بين من يريد الله ورسوله، ومن ليس له مرادٌ إلا الدنيا والجاه.

ومنها: أنه سبحانه يُحِبُّ من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء، وفي حال العافية والبلاء، وفي حال إدالتِهم والإدالة عليهم. فلله سبحانه على العباد في كلتا الحالين عبوديةٌ بمقتضى تلك الحال لا تحصلُ إلا بها، ولا يستقيم القلب بدونها؛ كما لا تستقيم الأبدان إلا بالحرِّ والبرد، والجوع والعطش، والتعب والنصب، وأضدادها. فتلك المحن والبلايا شرطٌ في حصول الكمال الإنساني والاستقامة المطلوبة منه، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنعٌ.

ومنها: أن امتحانهم بإدالة عدوهم عليهم يمحصهم، ويخلصهم، ويهذبهم؛ كما قال تعالى في حكمة إدالة الكفار على المؤمنين يوم أُحد: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) (آل عمران:139-141)....»(19).

4- انهيار الأمم الظالمة وزوالها يكون بأجل :

يقول الدكتور السلمي عن هذه السُّنة: «قد يرى الناس موجبات العذاب والانهيار قد حلت بأمة من الأمم ثم لا يرون زوالها بأنفسهم. وقد أوضحنا في أول الكلام عن السنن أن سنة الله لا تتخلف، لكن عمرها أطول من عمر الأفراد ولا تقع إلا بأجل محدد لا بد من استيفائه؛ قال تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (الأعراف:34)، وقال تعالى: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ) (الحجر:5)، وقال تعالى: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) (الكهف:59)»(20).

والحديث عن هذه السنة يقودنا إلى الحديث عن سنة أخرى ألا وهي:

5- سنة الإملاء :

التي يملي الله عز وجل فيها للكفار، ويستدرجهم ويمهل لهم ليزدادوا غيًا إلى غيهم وظلمًا إلى ظلمهم، ويغتروا بإمهال الله لهم حتى يصلوا إلى حد معين من الظلم والكبر والعتو في الأرض لا يمهلهم الله عز وجل بعده، وإنما يحق عليهم موعده سبحانه في إهلاكهم؛ لأن الله عز وجل لا يترك الظالم المتكبر يظلم إلى ما لا نهاية، وإنما يملي له ليسارع إلى نهايته المحددة وموعده الذي يقصمه الله عز وجل عنده لا يتقدم عليه ولا يتأخر. وسنة الإملاء هذه نراها الآن تعمل فيما يفعله الأمريكان واليهود في ديار المسلمين وننتظر وعد الله فيهم؛ قال الله تعالى: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) (آل عمران:178).

6- سنة التدافع وسنة الصراع بين الحق والباطل :

وهذه السنة أيضًا من أهم السنن الربانية التي يجب الوقوف عندها، وعدم نسيانها أو الغفلة عنها. والمتأمل في دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم يلمس هذه السنة بوضوح وجلاء؛ قال الله تعالى بعد أن انتصر المسلمون بقيادة طالوت وقتل داود جالوت (الكافر): (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة:251). وقال تعالى بعد إذنه سبحانه للمؤمنين بالقتال: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج:39، 40).

والصراع والمدافعة بين الحق والباطل وُجِدا منذ أن أهبط آدم عليه الصلاة والسلام على هذه الأرض ومعه إبليس - الملعون - أعاذنا الله منه. واقتضت حكمة الله عز وجل أن يستمر هذا الصراع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بين حزب الله عز وجل، وحزب الشيطان. وليس بالضرورة أن تكون المدافعة أو أن يكون الصراع بالقتال والسلاح. بل إنه يكون بغير ذلك، وما القتال إلا مرحلة من مراحل هذا الصراع؛ فإقامة الحجة على الباطل وأهله مدافعة، وإزالة الشبه عن الحق وأهله مدافعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مدافعة، والصبر على ابتلاء الأعداء من الكفرة والظلمة والثبات على الدين مدافعة وصراع. ويأتي الجهاد والقتال في سبيل الله عز وجل على رأس وذروة هذه المدافعة والصراع فيقذف الله بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. وما دام هناك حق وباطل فالصراع موجود والمدافعة حتمية. وهذا الصراع لصالح البشرية وخيرها، ولو كان فيه من العناء والشدة والمكاره؛ فإن هذه المشقات كلها تهون وتصغر عند المفاسد العظيمة التي تنشأ فيما لو لم يكن هناك دفع للفساد وصراع مع الباطل. كما مر بنا في قوله تعالى: (...وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ...) (البقرة: من الآية251)، وهذا يفرض على أهل الحق السير على هذه السنة، وبذل الجهد الجهيد في مدافعة الباطل وأهله، وإحقاق الحق وتمكين أهله، ورد البشرية الشاردة إلى عبودية الله عز وجل وتوحيده، وإنقاذها من الشرك ومفاسده.

إن الذين يطمعون في الإصلاح ودرء الفساد عن الأمة بدون هذه السنة - أعني سنة المدافعة مع الباطل وأهل الفساد - إنهم يتنكبون منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله عز وجل الذي ارتضاه واختاره لهم. وإن الذين يؤثرون السلامة والخوف من عناء المدافعة مع الفساد وأهله؛ إنهم بهذا التصرف لا يسلمون من العناء والمشقة - بل إنهم كما مر بنا سابقًا - يقعون في مشقة أعظم، وعناء أكبر يقاسونه في دينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم. وهذه هي ضريبة السكوت وفساد التصور وإيثار الحياة الدنيا.

يقول سيد قطب - رحمه الله تعالى -: «إن تكاليف الخروج من العبودية للطاغوت والدينونة لله وحده - مهما عظمت وشقت - أقل وأهون من تكاليف العبودية للطواغيت! إن تكاليف العبودية للطواغيت فاحشة - مهما لاح فيها من السلامة والأمن والطمأنينة على الحياة والمقام والرزق! - إنها تكاليف بطيئة طويلة مديدة! تكاليف في إنسانية الإنسان ذاته؛ فهذه الإنسانية لا توجد والإنسان عبد للإنسان؛ وأي عبودية شر من خضوع الإنسان لما يشرعه له إنسان؟! وأي عبودية شر من تعلق قلب إنسان بإرادة إنسان آخر به، ورضاه أو غضبه عليه؟! وأي عبودية شر من أن تتعلق مصائر إنسان بهوى إنسان مثله ورغباته وشهواته؟! وأي عبودية شر من أن يكون للإنسان خطام أو لجام يقوده منه كيفما شاء إنسان؟!

على أن الأمر لا يقف عند حد هذه المعاني الرفيعة؛ إنه يهبط ويهبط حتى يكلف الناس - في حكم الطواغيت - أموالهم التي لا يحميها شرع ولا يحوطها سياج، كما يكلفهم أولادهم؛ إذ ينشئهم الطاغوت كما شاء على ما شاء من التصورات والأفكار والمفهومات والأخلاق والتقاليد والعادات، فوق ما يتحكم في أرواحهم وفي حياتهم ذاتها؛ فيذبحهم على مذبح هواه، ويقيم من جماجمهم وأشلائهم أعلام المجد لذاته والجاه! ثم يكلفهم أعراضهم في النهاية؛ حيث لا يملك أب أن يمنع فتاته من الدعارة التي يريدها بها الطواغيت، سواء في صورة الغصب المباشر - كما يقع على نطاق واسع على مدار التاريخ - أو في صورة تنشئتهن على تصورات ومفاهيم تجعلهن نهبًا مباحًا للشهوات تحت أي شعار! وتمهد لهن الدعارة والفجور تحت أي ستار. والذي يتصور أنه ينجو بماله وعرضه وحياته وحياة أبنائه وبناته في حكم الطواغيت من دون الله؛ إنما يعيش في وهم، أو يفقد الإحساس بالواقع!»(21) ا.هـ.

الثمرة الثالثة:

ولعل في دراسة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بصدق ورغبة في اتباع هديهم سبيلاً إلى الانتظام في سلكهم والسير في قافلتهم المباركة، ولعل الله عز وجل أن يلحق من هذه نيته بركبهم الميمون، وأن يحشره في زمرتهم، فيصدق عليه قول الله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) (النساء:69). نسأله سبحانه أن يفيض علينا رضاه وجنته، وأن ينعم علينا باللحوق بهذه الصفوة المباركة باتباعنا لهم، وحبنا إياهم، وإن قصرت أعمالنا وأحوالنا عنهم كثيرًا كثيرًا.

فعن أنس رضي الله عنه: «أن رجلاً سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال: متى الساعة؟ قال: «وما أعددت لها؟» قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله، فقال: «أنت مع من أحببت». قال أنس: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل أعمالهم»(22).

ويعلق الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - على صفات عباد الرحمن الواردة في آخر سورة الفرقان - ورسل الله عليهم الصلاة والسلام أولى من تصدق عليهم هذه الصفات - فيقول: «وما أعلى هذه الصفات، وأرفع هذه الهمم، وأجل هذه المطالب، وأزكى تلك النفوس، وأطهر تلك القلوب، وأصفى هؤلاء الصفوة، وأتقى هولاء السادة ... ولله منة الله على عباده، أن بين لهم أوصافهم، ونعت لهم هيئاتهم، وبين لهم هممهم، وأوضح لهم أجورهم؛ ليشتاقوا إلى الاتصاف بهم، ويبذلوا جهدهم في ذلك، ويسألوا الذي منّ عليهم وأكرمهم - الذي فضْلُه في كل مكان وزمان وفي كل وقت وأوان - أن يهديهم كما هداهم ويتولاهم بتربيته الخاص كما تولاهم»(23).

 

_____________

(1) «مدارج السالكين»: (1/449).

(2) «في ظلال القرآن»: (6/2760).

(3) «مجموع الفتاوى»: (19/97، 98).

(4) «مجموع الفتاوى»: (15/178).

(5) «سيرة ابن هشام»: (1/270)، دار الكتاب العربي.

(6) البخاري، حديث رقم: (3).

(7) «مدارج السالكين»: (2/323).

(8) انظر تفصيل هذه المعالم في رسالة (فبهداهم اقتده): (ص 127-219) للمؤلف.
(9) انظر: (تفصيل مراحل الدعوة والجهاد في العهد المكي والمدني) في «زاد المعاد»، لابن القيم: (3/159-161) ت: الارناؤوط.
(10) «منهج كتابة التاريخ الإسلامي»: (ص 60).

(11) «جامع الرسائل والمسائل»: (1/55).

(12) «في ظلال القرآن»: (2/1307، 1308).

(13) «منهج دراسة التاريخ الإسلامي»: (ص 61)

(14) «جامع الرسائل والمسائل»: (1/54).

(15) «مجموع الفتاوى»: (28/424-428).

(16) «مجموع الفتاوى»: (28/419-420).

(17) «مختصر صحيح مسلم»: (2038).

(18) مسلم: (2999).

(19) «إغاثة اللهفان»: (2/176-194) باختصار يسير.

(20) «منهج كتاب التاريخ الإسلامي»: (ص 161).

(21) «في ظلال القرآن»: (3/1318، 1319).

(22) البخاري: (6167)، ومسلم: (2639).

(23) «تفسير السعدي»: (3/455).


 

الفصل السادس

التفكر في النفس ومحاسبتها فيما قدمت وأخرت

الأصل في محاسبة النفس قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر:18).

يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «وقد دل على وجوب محاسبة النفس قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ). يقول تعالى: لينظر أحدكم ما قدم ليوم القيامة من الأعمال: أمن الصالحات التي تنجيه أم من السيئات التي توبقه؟ قال قتادة: ما زال ربكم يقرب الساعة حتى جعلها كغد. والمقصود أن صلاح القلب بمحاسبة النفس، وفساده بإهمالها والاسترسال معها»(1) ا.هـ.

ويقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «والتقوى حالة في القلب يشير إليها اللفظ بظلاله، ولكن العبارة لا تبلغ تصوير حقيقتها. حالة تجعل القلب يقظًا حساسًا شاعرًا بالله في كل حالة، خائفًا متحرجًا مستحييًا أن يطلع عليه الله في حالة يكرهها. وعين الله على كل قلب في كل لحظة، فمتى يأمن أن لا يراه؟!

(وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) .. وهو تعبير كذلك ذو ظلال وإيحاءات أوسع من ألفاظه. ومجرد خطوره على القلب يفتح أمامه صفحة أعماله، بل صفحة حياته، ويمد ببصره في سطورها كلها يتأملها وينظر رصيد حسابه بمفرداته وتفصيلاته؛ لينظر ماذا قدم لغده في هذه الصفحة. وهذا التأمل كفيل بأن يوقظه إلى مواضع ضعف، ومواضع نقص، ومواضع تقصير، مهما يكن قد أسلف من خير وبذل من جهد. فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلاً، ونصيبه من البر ضئيلاً؟ إنها لمسة لا ينام بعدها القلب أبدًا، ولا يكف عن النظر والتقليب!

ولا تنتهي الآية التي تثير كل هذه المشاعر حتى تلح على القلوب المؤمنة بمزيد من الإيقاع:

(وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).. فتزيد هذه القلوب حساسية ورهبة واستحياء. والله خبير بما تعملون»(2) ا.هـ.

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله»(3).

وقال الترمذي: ومعنى قوله من دان نفسه يقول: حاسب نفسه في الدنيا قبل أن يحاسب يوم القيامة.

ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وتزينوا للعرض الأكبر. وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا)(3).

ويروى عن ميمون بن مهران قال: «لا يكون العبد تقيًا حتى يحاسب نفسه كما يحاسب شريكه من أين مطعمه وملبسه»(4).

ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «وقد مثلت النفس مع صاحبها بالشريك؛ فكما أنه لا يتم مقصود الشركة من الربح إلا بالمشارطة على ما يفعل الشريك أولاً، ثم بمطالعة ما يعمل والإشراف عليه ومراقبته ثانيًا، ثم بمحاسبته ثالثًا، ثم يمنعه من الخيانة إن اطلع عليه رابعًا؛ فكذلك النفس: يشارطها أولاً على حفظ الجوارح السبعة التي حفظها هو رأس المال، والربح بعد ذلك، فمن ليس له رأس مال، فكيف يطمع في الربح؟ وهذه الجوارح السبعة - وهي العين، والأذن، والفم، والفرج، واليد، والرجل - هي مراكب العطب والنجاة؛ فمنها عطب من عطب بإهمالها وعـدم حفظها، ونجـا من نجـا بحفظها ومراعتها، فحفظها أساس كل خير، وإهمالها أساس كل شر.

قال تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) (النور: من الآية30)، وقال تعالى: (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) (الإسراء:37)، وقال تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء:36)، وقال تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (الإسراء: من الآية53)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) (الحشر: من الآية18).

فإذا شارطها على حفظ هذه الجوارح انتقل منها إلى مطالعتها والإشراف عليها ومراقبتها، فلا يهملها؛ فإنه إن أهملها لحظة رتعت في الخيانة ولا بد، فإن تمادى على الإهمال تمادت في الخيانة حتى تُذْهِبَ رأس المال كله، فمتى أحسّ بالنقصان انتقل إلى المحاسبة؛ فحينئذ يتبين له حقيقة الربح والخسران، فإذا أحس بالخسران وتيقنه استدرك منها ما يستدركه الشريك من شريكه: من الرجوع عليه بما مضى، والقيام بالحفظ والمراقبة في مراقبته ومحاسبته، وليحذر من إهماله.

ويعينه على هذه المراقبة والمحاسبة: معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غدًا إذا صار الحساب إلى غيره، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غدًا.

ويعينه عليها أيضًا: معرفته أن ربح هذه التجارة سكنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب سبحانه، وخسارتها دخول النار والحجاب عن الرب تعالى. فإذا تيقن هذا هان عليه الحساب اليوم؛ فحق على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها وخطراتها وخطواتها، فكل نَفَسٍ من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا حظّ لها، يمكن أن يشتري بها كنز من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبد الآباد؛ فإضاعة هذه الأنفاس، أو اشتراء صاحبها بها ما يجلب هلاكه خسران عظيم لا يسمح بمثله إلا أجهل الناس وأحمقهم وأقلهم عقلاً. وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) (آل عمران: من الآية30)»(5).

ويقول ابن الجوزي - رحمه الله تعالى -: «واعلم أن أعدى عدوٍ لك نفسك التي بين جنبيك، وقد خُلقت أمَّارة بالسوء، ميّالة إلى الشر، وقد أُمِرْتَ بتقويمها وتزكيتها وفطامها عن مواردها، وأن تقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها، فإن أهملتها جمحت وشردت، ولم تظفر بها بعد ذلك، وإن لزمتها بالتوبيخ رجونا أن تصير مطمئنة، فلا تغفلن عن تذكيرها. وسبيلك أن تقبل عليها، فتقرر عندها جهلها وغباوتها وتقول: يا نفس، ما أعظم جهلك؛ تدَّعين الذكاء والفطنة وأنت أشد الناس غباوة وحمقًا، أما تعلمين أنك صائرة إلى الجنة أو النار؟ فكيف يلهو من لا يدري إلى أيتهما يصير، وربما اختطف في يومه أو في غده؟! أما تعلمين أن كل ما هو آت قريب، وأن الموت يأتي بغتة من غير موعد، ولا يتوقف على سن دون سن، بل كل نفس من الأنفاس يمكن أن يكون فيه الموت فجأة،وإن لم يكن الموت فجأة كان المرض فجأة، ثم يفضي إلى الموت؟ فمالك لا تستعدين للموت وهو قريب منك؟! يا نفس، إن كانت جرأتك على معصية الله تعالى لاعتقادك أن الله لا يراك فما أعظم كفرك! وإن كانت مع علمك باطلاعه عليك فما أشد رقاعتك، وأقل حياءك! ألك طاقة على عذابه؟ جربي ذلك بالقعود ساعة في الحمام، أو قرِّبي أصبعك من النار. يا نفس إن كان المانع لك من الاستقامة حب الشهوات فاطلبي الشهوات الباقية الصافية عن الكدر، ورب أكلة منعت أكلات.

وما قولك في عقل مريض أشار عليه الطبيب بترك الماء ثلاثة أيام ليصح ويتهيأ لشربه طول العمر؟ فما مقتضى العقل في قضاء حق الشهوة؟ أيصبر ثلاثة أيام ليتنعم طول العمر؟ أم يقضي شهوته في الحال ثم يلزمه الألم أبدًا؟ فجميع عمرك بالإضافة إلى الأبد الذي هو مدة نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار أقل من ثلاثة أيام بالإضافة إلى جميع العمر، بل أقل من لحظة بالإضافة إلى عمر الدنيا. وليت شعري! ألم الصبر عن الشهوات أشد وأطول، أم النار في الدركات؟ فمن لا يطيق الصبر على ألم المجاهدة، كيف يطيق ألم العذاب في الآخرة؟ أشغلك حب الجاه؟ أما بعد ستين سنة أو نحوها، لا تبقين أنت ولا من كان لك عنده جاه، هلا تركت الدنيا لخسة شركائها، وكثرة عنائها وخوفًا من سرعة فنائها؟ أتستبدلين بجوار رب العالمين صف النعال في صحبة الحمقى؟ قد ضاع أكثر البضاعة، وقد بقيت من العمر صبابة، ولو استدركت ندمت على ما ضاع، فكيف إذا أضفت الأخير إلى الأول؟ اعملي في أيام قصار لأيام طوال، وأعدي الجواب للسؤال. اخرجي من الدنيا خروج الأحرار قبل أن يكون خروج اضطرار. إنه من كانت مطيته الليل والنهار سير به وإن لم يسر. تفكري في هذه الموعظة فإن عدمت تأثيرها فابكي على ما أصبت به»(6).

أنواع محاسبة النفس :

الأول: محاسبة النفس على ما فرطت في جنب الله فيما سلف من العمر.

الثاني: محاسبة النفس على ما تستقبل من الأعمال.

1- محاسبتها على تفريطها في جنب الله تعالى فيما سلف من العمر:

وهو أنواع: أحدها: محاسبتها على طاعة لله تعالى قصرت فيها إما بتركها أو عدم إيقاعها على الوجه الذي ينبغي لله عز وجل. وأول هذه الطاعات: الواجبات القلبية من أعمال القلوب كالمحبة والتوكل والإخلاص، ثم الطاعات الواجبة على اللسان والجوارح.

يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «وحق الله تعالى في الطاعة ستة أمور، وهي: الإخلاص في العمل، والنصيحة لله فيه، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه، وشهود مشهد الإحسان فيه، وشهود منة الله عليه، وشهود تقصيره فيه بعد ذلك كله»(7).

فيحاسب العبد نفسه في مدى إتيانه بهذه الحقوق لله تعالى، فإن وجدها متوفرة في العمل فليحمد الله تعالى، وإن وجد نفسه قد فرط في شيء منها فليتب إلى الله تعالى، وليتدارك بقية عمره في المحافظة على أعماله بما يجعلها مقبولة عند الله عز وجل.

الثاني: محاسبتها على ما ارتكبت من معاصي الله عز وجل وغشيت من محارمه - وذلك من المنهيات التي بين العبد وربه - والمبادرة إلى التوبة النصوح منها بالإقلاع عنها والندم على فعلها، والعزم على أن لا يعود إليها. ويبدأ بالمحرمات القلبية لأنها أشد تحريمًا وإثمًا، ثم ينظر إلى المحرمات الظاهرة التي اقترفتها جوارحه - كالعين والأذن واللسان والرجل واليد - ويتوب إلى الله عز وجل مما بدر منها قبل أن يسأله الله عز وجل عنها؛ قال الله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء:36).

يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «... وقد قيل: من حفظ هذه الأربعة أحرز دينه: اللحظات، والخطرات، واللفظات، والخطوات. فينبغي للعبد أن يكون بواب نفسه على هذه الأبواب الأربعة، ويلازم الرباط على ثغورها؛ فمنها يدخل العدو فيجوس خلال الديار ويتبر ما علا تتبيرًا ...

فأما اللحظات: فهي رائدة الشهوة ورسولها،وحفظها أصل حفظ الفرج؛ فمن أطلق بصره أورد نفسه موارد المهلكات ... ومن آفات النظر أنه يورث الحسرات والزفرات والحرقات ... وقد قيل: إن حبس اللحظات أيسر من دوام الحسرات ...

وأما الخطرات: فشأنها أصعب؛ فإنها مبدأ الخير والشر، ومنها تتولد الإرادات والهمم والعزائم، فمن راعى خطراته ملك زمام نفسه وقهر هواه، ومن غلبته خطراته فهواه ونفسه له أغلب، ومن استهان بالخطرات قادته قهرًا إلى الهلكات ....

وأما اللفظات: فحفظها بأن لا يخرج لفظة ضائعة، بأن لا يتكلم إلا فيما يرجو فيه الربح والزيادة في دينه؛ فإذا أراد أن يتكلم بالكلمة نظر: هل فيها ربح وفائدة أم لا؟ فإن لم يكن فيها ربح أمسك عنها، وإن كان فيها ربح نظر: هل تفوت بها كلمة أربح منها؟ فلا يضيعها بهذه. وإذا أردت أن تستدل على ما في القلب فاستدل عليه بحركة اللسان فإنه يطلعك على ما في القلب شاء صاحبه أم أبى ...

وأما الخطوات: فحفظها بأن لا ينقل قدمه إلا فيما يرجو ثوابه، فإن لم يكن في خطاه مزيد ثواب فالقعود عنها خير له. ويمكنه أن يستخرج من كل مباح يخطر إليه قربة ينويها لله فتقع خطاه قربة»(8).

الثالث: محاسبتها على ما فرطت فيه من حقوق العباد، أو ارتكبت ظلمًا وعدوانًا نحوهم، والمبادرة إلى إرجاع الحقوق لأهلها، ورد المظالم إلى أربابها. ويشتد الإثم إذا كان المظلوم ذا قرابة ورحم. وظلم الناس يكون في أديانهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وإن لم ترجع الحقوق إلى أهلها في الدنيا رجعت يوم القيامة، ولكنها لا تكون يومئذ بالدينار والدرهم، وإنما بالحسنات التي تؤخذ من الظالم أو السيئات التي تطرح عليه من أصحاب الحقوق(9).

الرابع: محاسبة النفس على كل عمل كان تركه خيرًا له من فعله ففعله(10).

الخامس: محاسبة النفس على ما قدمت لدين الله عز وجل،وما يجب عليها في ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله تعالى، والجهاد في سبيله سبحانه، وهل قامت بهذا الواجب أم قصرت فيه؟ ولا سيما في هذه الأزمنة التي تداعت فيه أمم الكفر على بلدان المسلمين كما تتداعى الأكلة على قصعتها، ورمتها عن قوس واحد بمساعدة المنافقين من هذه الأمة يريدون إفساد الأديان والأعراض والعقول والأموال.

يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما كان عليه هو وأصحابه رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس دينًا والله المستعان. وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها، وهو بارد القلب ساكت اللسان شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق. وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورئاستهم فلا مبالاة بما جرى على الدين»(11).

السادس: «أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد: لم فعله؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة فيكون رابحًا؟ أو أراد به الدنيا وعاجلها فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به»(12).

السابع: محاسبة النفس على نعم الله عز وجل العظيمة؛ هل قامت بواجب الشكر فيها أم قصرت في ذلك؟

2- محاسبتها على ما تستقبل من الأعمال :

وذلك بأن ينتفع من محاسبته لنفسه فيما مضي من عمره، وما قصر فيه من الواجبات الظاهرة والباطنة، وارتكب فيه المحرمات الظاهرة والباطنة؛ بأن يتدارك ما بقي من عمره فيقوم فيه بحق الله تعالى وحقوق عباده ولا يفرط في شيء من ذلك. هذا في الحقوق والواجبات بصورة عامة.

أما القربات التطوعية، ولا سيما التي يتعدى أثرها إلى الغير فينبغي للعبد أن يحاسب نفسه فيما يستقبل من هذه الأعمال قبل الشروع فيها؛ وذلك بما فصله الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - بقوله: «أن يقف عند أول هَمِّه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه.

قال الحسن رحمه الله: (رحم الله عبدًا وقف عند هَمِّه؛ فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر).

وشرح هذا بعضهم فقال: إذا تحركت النفس لعمل من الأعمال وهَمَّ به العبد، وقف أوّلاً ونظر: هل ذلك العمل مقدور له، أو غير مقدور ولا مستطاع؟ فإن لم يكن مقدورًا لم يقدم عليه، وإن كان مقدورًا وقف وقفة أخرى ونظر: هل فعلُه خير له من تركه، أو تركه خير له من فعله؟ فإن كان الثاني تركه ولم يقدم عليه، وإن كان الأول وقف وقفة ثالثة ونظر: هل الباعث عليه إرادة وجه الله عز وجل وثوابه، أو إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق؟ فإن كان الثاني لم يقدم عليه، وإن أفضى به إلى مطلوبه، لئلا تعتاد النفس الشرك، ويخفّ عليها العمل لغير الله؛ فبقدر ما يخف عليها ذلك يثقل عليها العمل لله تعالى، حتى يصير أثقل شيء عليها. وإن كان الأول وقف وقفة أخرى، ونظر: هل هو مُعان عليه، وله أعوان يساعدونه وينصرونه إذا كان العمل محتاجًا إلى ذلك أم لا؟ فإن لم يكن له أعوان أمسك عنه، كما أمسك النبي صلى الله عليه وسلم عن الجهاد بمكة حتى صار له شوْكة وأنصار، وإن وجده مُعانًا عليه فليقدم عليه فإنه منصور. ولا يفوت النجاح إلا مَنْ فَوَّتَ خصلة من هذه الخصال، وإلا فمع اجتماعها لا يفوته النجاح.

فهذه أربع مقامات يحتاج إلى محاسبة نفسه عليها قبل العمل؛ فما كل ما يريد العبد فعله مقدورًا له، ولا كل ما يكون مقدورًا له يكون فعله خيرًا له من تركه، ولا كل ما يكون فعله خيرًا له من تركه يفعله لله، ولا كل ما يفعله لله يكون معانًا عليه، فإذا حاسب نفسه على ذلك تبين له ما يقدم عليه وما يحجم عنه»(13).

من ثمرات محاسبة النفس:

في محاسبة النفس ومراقبتها منافع كثيرة أذكر منها ثمرتين كبيرتين:

الثمرة الأولى: الإطلاع على عيوب النفس وآفاتها وتقصيرها:

وهذا يفيد في أمرين:

الأول: تدارك النفس، وإصلاح عيوبها، والتوبة من تقصيرها قبل حلول الأجل.

الثاني: مقت النفس في ذات الله عز وجل والإزراء بها، وأنها هالكة لا محالة إن لم يرحمها الله عز وجل ويثبتها ويعينها. وهذا يحدث في النفس انكسارًا ومسكنة لله عز وجل، وينفي آفة العجب والغرور، وفي ذلك مصلحة عظيمة للعبد؛ فما دخل عبد على الله عز وجل وقرب من رحمته وعفوه إلا من باب الانكسار والذل، والتبرؤ من الحول والقوة.

وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «ومن لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته، فإذا اطلع على عيبها مقتها في ذات الله تعالى.

وقد روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: لا يَفْقَه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتًا.

وقال مُطَرِّف بن عبد الله: لولا ما أعلم من نفسي لقَلَيْتُ الناس.

وقال أيوب السِّختياني: إذا ذكر الصالحون كنتُ عنهم بمعْزِل.

ولما احْتُضِرَ سفيان الثوري دخل عليه أبو الأشهب، وحماد بن سلمة، فقال له حماد: يا أبا عبدالله، أليس قد أمنت مما كنت تخافه وتقدم على من ترجوه، وهو أرحم الراحمين؟ فقال: يا أبا سلمة، أتطمع لمثلي أن ينجو من النار؟ قال: أي والله، إني لأرجو لك ذلك.

وذكر عن مسلم بن سعيد الواسطي قال: أخبرني حَمَّاد بن جعفر ابن زيد أن أباه أخبره قال: خرجنا في غَزاةٍ إلى كابُل، وفي الجيش صِلة بن أشْيَم؛ فنزل الناس عند العتمة، فصلوا، ثم اضطجع، فقلت: لأرمقَنّ عمله، فالتمسَ غفلة الناس، حتى إذا قلت: هَدأت العيون وَثَبَ فدخل غَيْضَة قريبًا منا، فدخلت على أثره، فتوضأ، ثم قام يصلي، وجاء أسد حتى دنا منه، فصعدت في شجرة فتراهُ التفت أو عَدَّهُ جَرْوا؟ فلما سجد قلت: الآن يفترسه، فجلس ثم سلم، ثم قال: أيها السبع، اطلب الرزق في مكان آخر. فولَّى وإن له لزئيراً، أقول: تصدّع الجبال منه. قال: فما زال كذلك يصلي حتى كان عند الصبح جلس، فحمد الله بمحامد لم أسمع بمثلها، ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار، ومثلي يصغر أن يجترئ أن يسألك الجنة؛ قال: ثم رجع وأصبح كأنه بات على الحشايا، وأصبحت وبي من الفترة شيء الله به عالم.

وقال يونس بن عبيد: إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير، ما أعلم أن في نفسي منها واحدة.

وقال محمد بن واسع: لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد يجلس إليّ ...

وذُكِرَ داود الطائي عند بعض الأمراء، فأثنوا عليه، فقال: لو يعلم الناس بعض ما نحن فيه ما ذلَّ لنا لسان بذكر خيرٍ أبدًا.

وقال أبو حفص: من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات، ولم يخالفها في جميع الأحوال، ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أوقاته؛ كان مغرورًا، ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها.

فالنفس داعية إلى المهالك، معينة للأعداء، طامحة إلى كل قبيح، متبعة لكل سوء، فهي تجرى بطبعها في ميدان المخالفة.

فالنعمة التي لا خطر لها: الخروج من رقها؛ فإنها أعظم حجاب بين العبد وبين الله تعالى، وأعرف الناس بها أشدهم إزراء عليها، ومقتًا لها.

قال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا علي بن الحسين المقدمى، حدثنا عامر بن صالح عن أبيه عن ابن عمر: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: اللهم اغفر لي ظلمي وكفري، فقال قائل: يا أمير المؤمنين، هذا الظلم، فما بال الكفر؟ قال: إن الإنسان لظلوم كفار.

قال: وحدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، عن الصلت بن دينار، حدثنا عُقبة بن صهبان الهنائي قال: «سألت عائشة رضي الله عنها عن قول الله عز وجل: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) (فاطر: من الآية32) فقالت: يا بنيّ، هؤلاء في الجنة؛ أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة والرزق، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم، فجعلت نفسها معنا(14).

وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج حدثنا شريك عن عاصم عن أبي وائل عن مسروق قال: دخل عبدالرحمن على أم سلمة رضي الله عنها، فقالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ من أصحابي لمن لا يراني بعد أن أموت أبدًا» فخرج عبدالرحمن من عندها مذعورًا، حتى دخل على عمر رضي الله عنه. فقال له: اسمع ما تقول أُمك، فقام عمر رضي الله عنه حتى أتاها فدخل عليها، فسألها، ثم قال: أنشدك بالله، أَمِنْهُمْ أَنا؟ قالت: لا، ولن أَُبَرِّئ بعدك أحدًا(15).

فسمعت شيخنا يقول: إنما أرادت أني لا أفتح عليها هذا الباب، ولم ترد أنك وحدك البريء من ذلك دون سائر الصحابة(16).

ومقت النفس في ذات الله من صفات الصديقين، ويدنو العبد به من الله تعالى في لحظة واحدة أضعاف أضعاف ما يدنو بالعمل»(16).

وينقل الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - ما شاهده من شيخه ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في هذا المقام فيقول: «ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - من ذلك أمرًا لم أشاهده من غيره. وكان يقول كثيرًا: ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا فيَّ شيء. وكان كثيرًا ما يتمثل بهذا البيت:

أنا المُكَدّى وابـن المكدى وهكـذا كـان أبـي وجدي

وكان إذا أُثني عليه في وجهه يقول: والله إلى الآن أجدد إسلامي كل وقت. وما أسلمت بعد إسلامًا جيدًا.

وبعث إليَّ في آخر عمره قاعدة في التفسير بخطه. وعلى ظهرها أبيات بخطه منه نظمه:

أنـا الفقير إلــى رب البريات

أنا المسيكين في مجموع حالاتي

أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي

والخير إن يأتنا من عنده يأتي

لا أستطيع لنفسي جلب منفعة

ولا عن النفس لي دفع المضرات

وليس لي دونه مولى يُدَبِّرني

ولا شفيـع إذا حاطت خطيئاتـي

إلا بـإذن مـن الرحمن خالقنـا

إلى الشفيع كما قد جاء في الآيات

ولست أملك شيئًا دونــه أبــدا

ولا شريك أنا في بعض ذرات

ولا ظهـير لــه كي يستعين بــه

كمـا يكــون لأربــاب الولايــات

والفقر لي وصف ذات لازم أبدا

كما الغنى أبـدًا وصف له ذاتـي

وهذه الحال حال الخلق أجمعهم

وكلهم عنــده عبــدٌ لـــه آتـي

فمن بغى مطلبـًا من غيـر خالقـه

فهو الجهول الظلوم المشرك العاتي

والحمد لله مِـلء الكـون أجمعـه

ما كان منه وما من بعد قد يأتي(17)

الثمرة الثانية:

النظر في حق الله تعالى والاعتراف بالتقصير الشديد في ذلك:

وفي ذلك يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «فمن نظر في الحق الذي لربه عليه عَلِم علم اليقين أنه غير مؤد له كما ينبغي، وأنه لا يسعه إلا العفو والمغفرة، وأنه إن أحيل على عمله هلك.

فهذا محل نظر أهل المعرفة بالله تعالى وبنفوسهم، وهذا الذي أيأسهم من أنفسهم، وعلق رجاءهم كله بعفو الله ورحمته.

وإذا تأملت حال أكثر الناس وجدتهم بضد ذلك؛ ينظرون في حقهم على الله، ولا ينظرون في حق الله عليهم. ومن ههنا انقطعوا عن الله، وحجبت قلوبهم عن معرفته ومحبته والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره، وهذا غاية جهل الإنسان بربه ونفسه.

فمحاسبة النفس هي: نظر العبد في حق الله عليه أوّلا، ثم نظره هل قام به كما ينبغي ثانيًا؟ وأفضل الفكرِ الفكرُ في ذلك؛ فإنه يُسيِّرُ القلب إلى الله، ويطرحه بين يديه ذليلاً خاضعًا منكسرًا كسرًا فيه جبره، ومفتقرًا فقرًا فيه غناه، وذليلاً ذلاً فيه عزه، ولو عمل من الأعمال ما عساه أن يعمل، فإنه إذا فاته هذا، فالذي فاته من البر أفضل من الذي أتى... ومن فوائد نظر العبد في حق الله عليه أن لا يتركه يدلُّ بعمل أصلاً كائنًا ما كان، ومن أدَلَّ بعمله لم يصعد إلى الله تعالى»(18) ا.هـ.

ويقول في موطن آخر وهو يشرح قول الهروي في منازل السائرين: «قال صاحب المنازل (المحاسبة لها ثلاثة أركان: أحدها: أن تقايس بين نعمته وجنايتك).

يعني تقايس بين ما مِنَ الله وما منك. فحينئذ يظهر لك التفاوت، وتعلم أنه ليس إلا عفوه ورحمته، أو الهلاك والعطَب.

وبهذه المقايسة تعلم أن الرب رب، والعبد عبد. ويتبين لك حقيقة النفس وصفاتها، وعظمة جلال الربوبية، وتفرد الرب بالكمال والإفضال، وأن كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل. وأنت قبل هذه المقايسة جاهل بحقيقة نفسك، وبربوبية فاطرها وخالقها؛ فإذا قايست ظهر لك أنها منبع كل شر، وأساس كل نقص، وأن حَدَّها: الجاهلة الظالمة، وأنه لولا فضل الله ورحمته بتزكيته لها ما زَكَتْ أبدًا. ولولا هداه ما اهتدت. ولولا إرشاده وتوفيقه لما كان لها وصول إلى خير ألبتة. وأن حصول ذلك لها من بارئها وفاطرها، وتوقفه عليه كتوقف وجودها على إيجاده؛ فكما أنها ليس لها من ذاتها وجود، فكذلك ليس لها من ذاتها كمال الوجود. فليس لها من ذاتها إلا العدم - عدم الذات، وعدم الكمال - فهناك تقول حقًا: (أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي)(19)»(20).

ويقول في نفس الموطن: «فكم من مُسْتَدْرَج بالنعم وهو لا يشعر، مفتون بثناء الجهال عليه، مغرور بقضاء الله حوائجه وستره عليه! وأكثر الخلق عندهم أن هذه الثلاثة علامة السعادة والنجاح. ذلك مبلغهم من العلم.

فإذا كملت هذه الثلاثة فيه عرف حينئذ أن ما كان من نعم الله عليه يجمعه على الله فهو نعمة حقيقة.وما فرقه عنه وأخذه منه فهو البلاء في صورة النعمة، والمحنة في صورة المنحة. فليحذر فإنما هو مستدرج. ويميز بذلك أيضًا بين المنة والحجة؛ فكم تلتبس إحداهما عليه بالأخرى!.

فإن العبد بين منة من الله عليه، وحجة منه عليه، ولا ينفك عنهما ...

فكل علم صحبه عمل يرضي الله سبحانه فهو منة، وإلا فهو حجة.

وكل قوة ظاهرة وباطنة صحبها تنفيذ لمرضاته وأوامره فهي منة، وإلا فهي حجة.

وكل حال صحبه تأثير في نصرة دينه والدعوة إليه فهو منة منه، وإلا فهو حجة.

وكل مال اقترن به إنفاق في سبيل الله وطاعته لا لطلب الجزاء ولا الشكور فهو منة من الله عليه، وإلا فهو حجة.

وكل فراغ اقترن به اشتغال بما يريد الرب من عبده فهو منة عليه، وإلا فهو حجة.

وكل قبول في الناس، وتعظيم ومحبة له، اتصل به خضوع للرب، وذل وانكسار، ومعرفة بعيب النفس والعمل، وبذل النصيحة للخلق فهو منة، وإلا فهو حجة.

وكل بصيرة وموعظة، وتذكير وتعريف من تعريفات الحق سبحانه إلى العبد، اتصل به عبرة ومزيد في العقل، ومعرفة في الإيمان فهي منة، وإلا فهي حجة.

وكل حال مع الله تعالى، أو مقام اتصل به السير إلى الله، وإيثار مراده على مراد العبد فهو منة من الله، وإن صحبه الوقوف عنده والرضى به، وإيثار مقتضاه من لذة النفس به وطمأنينتها إليه، وركونها إليه، فهو حجة من الله عليه.

فليتأمل العبد هذا الموضع العظيم الخطير، ويميز بين مواقع المنن والمحن، والحجج والنعم؛ فما أكثر ما يلتبس ذلك على خواص الناس وأرباب السلوك. (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة: من الآية213)»(21).


كيف تتم المحاسبة للنفس ؟

الواجب على المسلم أن يكون محاسبًا لنفسه دائمًا قبل أن يقول قولاً، أو يعمل عملاً، وبعد أن يقول أو يعمل. هذا هو الأصل في المحاسبة: أن تكون مصاحبة للعبد ما دام حيًا، وهذا من علامات توفيق الله عز وجل لعبده. وقد ذكر الإمامان ابن القيم وابن الجوزي - رحمهما الله تعالى - أوقاتًا في اليوم أو الليلة ينبغي أن يحافظ المسلم على محاسبته لنفسه فيها.

يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - وهو يتحدث عن الأسباب المنجية من عذاب القبر: «ومن أنفعها أن يجلس الرجل عندما يريد النوم لله ساعة يحاسب نفسه فيها على ما خسره وربحه في يومه، ثم يجدد له توبة نصوحًا بينه وبين الله، فينام على تلك التوبة، ويعزم على ألا يعاود الذنب إذا استيقظ، ويفعل هذا كل ليلة، فإن مات من ليلته فعلى توبة، وإن استيقظ استيقظ مستقبلاً للعمل مسرورًا بتأخير أجله حتى يستقبل ربه، ويستدرك ما فاته، وليس للعبد أنفع من هذه النومة، ولا سيما إذا عقب ذلك بذكر الله واستعمال السنن التي وردت عن رسول الله > عند النوم حتى يغلبه النوم، فمن أراد الله به خيرًا وفقه لذلك ولا قوة إلا بالله»(22).

ويقول ابن الجوزي - رحمه الله تعالى -: «فإذا فرغ العبد من فريضة الصبح، ينبغي أن يفرغ قلبه ساعة لمشارطة نفسه؛ فيقول للنفس: ما لي بضاعة إلا العمر، فإذا فني مني رأس المال وقع اليأس من التجارة، وطلب الربح، وهذا اليوم الجديد قد أمهلني الله فيه، وأخّر أجلي، وأنعم عليَّ به. ولو توفاني لكنت أتمنى أن يرجعني إلى الدنيا حتى أعمل فيه صالحًا، فاحسبي يا نفس أنك قد توفيت ثم رددت، فإياك أن تضيعي هذا اليوم، واعلمي أن اليوم والليلة أربع وعشرون ساعة، وأن العبد ينشر له بكل يوم أربع وعشرون خزانة مصفوفة، فيفتح له منها خزانة، فيراها مملوءة نورًا من حسناته التي عملها في تلك الساعة، فيحصل له من السرور بمشاهدة تلك الأنوار ما لو وزع على أهل النار لأدهشتهم عن الاحساس بألم النار، ويفتح له خزانة أخرى سوداء مظلمة يفوح ريحها ويغشاه ظلامها، وهي الساعة التي عصى الله تعالى فيها، فيحصل له من الفزع والخزي ما لو قسم على أهل الجنة لنغص عليهم نعيمهم، ويفتح له خزانة أخرى فارغة ليس فيها ما يسوؤه ولا يسره، وهي الساعة التي نام فيها أو غفل أو اشتغل بشيء من المباح، ويتحسر على خلوها، ويناله، ما نال القادر على الربح الكثير إذا أهمله حتى فاته، وعلى هذا تعرض عليه خزائن أوقاته طول عمره فيقول لنفسه: اجتهدي اليوم في أن تعمري خزانتك، ولا تدعيها فارغة، ولا تميلي إلى الكسل والدعة والاستراحة، فيفوتك من درجات عليين ما يدركه غيرك»(23).

نماذج مضيئة من محاسبة السلف لأنفسهم:

«ذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا؛ فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم. وتزيَّنوا للعرض الأكبر؛ يومئذ تُعرضون لا تخفى منكم خافية).

وذكر أيضًا عن الحسن قال: لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه: ماذا أردت تعملين؟ وماذا أردت تأكلين؟ وماذا أردت تشربين؟ والفاجر يمضي قُدُمًا لا يحاسب نفسه.

وقال قتادة في قوله تعالى: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف: من الآية28): أضاع نفسه وغبن، مع ذلك تراه حافظًا لماله مضيعًا لدينه.

وقال الحسن: إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همته.

قال ميمون بن مهران: لا يكون العبد تقيًا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه؛ ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوّان؛ إن لم تحاسبه ذهب بمالك.

وقال ميمون بن مهران أيضًا: إن التقي أشد محاسبة لنفسه من سلطان عاص،ومن شريك شحيح.

وذكر الإمام أحمد عن وهب قال: مكتوب في حكمة آل داود: حق على العاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل، فإن في هذه الساعة عونًا على تلك الساعات، وإجمامًا للقلوب...

وكان الأحنف بن قيس يجيء إلى المصباح، فيضع أصبعه فيه، ثم يقول: حِسّ يا حنيف، ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟

وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى بعض عماله: حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة؛ فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة.

وقال الحسن: المؤمن قَوّام على نفسه؛ يحاسب نفسه لله؛ وإنما خفّ الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة. إن المؤمن يفاجئه الشيء ويعجبه، فيقول: والله إني لأشتهيك، وإنك لمن حاجتي، ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات هيهات، حيل بيني وبينك. ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه، فيقول: ما أردت إلى هذا؟ ما لي ولهذا؟ والله لا أعود إلى هذا أبدًا. إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم؛ إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئًا حتى يلقى الله؛ يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره، وفي لسانه، وفي جوارحه؛ مأخوذ عليه في ذلك كله.

قال مالك بن دينار: رحم الله عبدًا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم زمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل، فكان لها قائدًا»(24).

«وعن ثابت البناني قال: قال شداد بن أوس يومًا لرجل من أصحابه: هات السفرة نتعلل بها؛ قال: فقال رجل من أصحابه: ما سمعت منك مثل هذه الكلمة منذ صحبتك؛ فقال: ما أفلتت مني كلمة منذ فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مزمومة مخطومة؛ وأيم الله، لا تنفلت غير هذه»(25).

«وعن نافع: أن ابن عمر رضي الله تعالى عنه كان إذا فاتته صلاة العشاء في جماعة أحيى بقية ليلته. وقال بشر بن موسى: أحيى ليلته»(26).

«وقال مطرف بن عبدالله: إني لأستلقي من الليل على فراشي فأتدبر القرآن، وأعرض عملي على عمل أهل الجنة؛ فإذا أعمالهم شديدة: (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) (الذريات:17)، (يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً) (الفرقان: من الآية64)، (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً) (الزمر: من الآية9). فلا أراني فيهم؛ فأعرض نفسي على هذه الآية: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) (المدثر:42)؛ فأرى القوم مكذبين، وأمر بهذه الآية: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) (التوبة: من الآية102)؛ فأرجو أن أكون أنا وأنتم يا إخوتاه منهم»(27).

«وعن أبي سنـان عن عمرو بن قيس الملائي قـال: إذا شغلت بنفسك ذهلت عن النـاس، وإذا أشغلت بالنـاس ذهلت عن ذات نفسك(28).

وقال يونس بن عبيد: ما لي تضيع لي الدجاجة فأجد لها، وتفوتني الصلاة فلا أجد لها؟(29).

وعن عبدالله بن عون: أنه نادته أمه، فأجابها، فعلا صوته صوتها؛ فأعتق رقبتين(30).

وعن أبي حازم - سلمة بن دينار - قال: انظر الذي تحب أن يكون معك في الآخرة فقدمه اليوم، وانظر الذي تكره أن يكون معك ثَمَّ فاتركه اليوم(31).

وعن سفيان بن عيينة قال: قال إبراهيم التيمي: مثلت نفسي في النار أعالج أغلالها وسعيرها، وآكل من زقومها، وأشرب من زمهريرها؛ فقلت: يا نفسي، أي شيء تشتهين؟ قالت: أرجع إلى الدنيا أعمل عملاً أنجو به من هذا العذاب؛ ومثلت نفسي في الجنة، مع حورها، وألبس من سندسها وإستبرقها وحريرها؛ فقلت: يا نفسي، أي شيء تشتهين؟ قالت: أرجع إلى الدنيا، فأعمل عملاً أزداد من هذا الثواب؛ فقلت: أنت في الدنيا، وفي الأمنية(32).

عن حامد اللفاف قال: سمعت حاتمًا الأصم يقول: تعاهد نفسك في ثلاث مواضع: إذا عملت فاذكر نظر الله تعالى عليك، وإذا تكلمت فانظر سمع الله منك، وإذا سكت فانظر علم الله فيك(33).


(1) «إغاثة اللهفان»: (1/84).

(2) «في ظلال القرآن»: (6/3531).

(3) رواه الترمذي، أبواب صفة القيامة، باب الكيس من دان نفسه، وقال: هذا حديث حسن، وذهب الشيخ الألباني رحمه الله تعالى إلى تضعيفه. انظر ضعيف سنن الترمذي (436).
(4) المصدر السابق.

(5) «إغاثة اللهفان»: (1/80، 81).

(6) «مختصر منهاج القاصدين»: (ص 377، 378).

(7) «إغاثة اللهفان»: (1/82).

(8) «الجواب الكافي»: (ص 208-220) باختصار شديد، ت/ حسين عبدالحميد.

(9) انظر تفصيل هذه المظالم وكيف تكون التوبة منها في رسالة: (وقد خاب من حمل ظلمًا)
للمؤلف.

(10) ينظر «إغاثة اللهفان»: (1/82).

(11) «أعلام الموقعين»: (2/164) مكتبة ابن تيمية.

(12) «إغاثة اللهفان»: (1/82).

(13) «إغاثة اللهفان»: (1/81، 82).

(14) الحاكم: (2/426).

(15) مسند أحمد: (6/290)، وجَوَّد الساعاتي إسناده في الفتح الرباني: (19/310).

(16) «إغاثة اللهفان»: (ص 84-87) مختصرًا.

(17) «مدارج السالكين»: (1/524).

(18) «إغاثة اللهفان»: (1/88، 89).

(19) جزء من حديث سيد الاستغفار، البخاري: (6306).

(20) «مدارج السالكين»: (1/170، 171).

(21) «مدارج السالكين»: (1/172، 173) باختصار يسير.

(22) «الروح»: (ص 186)، ت: محمد سكر.

(23) «مختصر منهاج القاصدين»: (ص 371).

(24) «إغاثة اللهفان»: (1/78، 79).

(25) «حلية الأولياء»: (1/265).

(26) «الحلية»: (10/303).

(27) «الحلية»: (2/198).

(28) «الحلية»: (5/79).

(29) «الحلية»: (3/19).

(30) «الحلية»: (3/39).

(31) «الحلية»: (3/238).

(32) «الحلية»: (4/211).

(33) «الحلية»: (8/75).


 

 

الفصل السابع

التفكر في الدنيا والآخرة وحقيقة كل منهما

سبق أن ذكرت في مبحث سابق الآيات من كتاب الله عز وجل التي يحث فيها الرب سبحانه وتعالى على النظر والتفكر في حقيقة الدنيا وزهادتها وسرعة زوالها، وحقيقة الآخرة وبقائها وما أعد الله فيها من النعيم السرمدي لأوليائه أو العذاب السرمدي لأعدائه، نعوذ بالله من سخطه وعذابه. وأكتفي من هذه الآيات بآيتين ختمهما الله سبحانه بثنائه على المتفكرين في الدنيا والآخرة.

الآية الأولى: قوله تعالى: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) (البقرة: 219، 220).

الآية الثانية: قوله تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (يونس:24، 25).

يقول الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى - عند تفسير آية سورة البقرة: «وقوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) أي: كما فصَّل لكم هذه الأحكام وبيَّنها وأوضحها، كذلك يبين لكم سائر الآيات في أحكامه، ووعده ووعيده لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يعني: في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدّثنا على بن محمد الطنافسي حدّثنا أبو أسامة عن الصعق التميمي قال: شهدت الحسن وقرأ هذه الآية من البقرة (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) قال: هي والله لمن تفكر فيها ليعلم أن الدنيا دار بلاء، ثم دار فناء،وليعلم أن الآخرة دار جزاء، ثم دار بقاء. وهكذا قال قتادة وابن جريج وغيرهما. وقال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة: لتعلموا فضل الآخرة على الدنيا»(1).

وأما الآية الثانية آية سورة يونس: فيقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «شبَّه سبحانه الحياة الدنيا في أنها تتزين في عين الناظر، فتروقه بزينتها وتعجبه، فيميل إليها ويهواها اغترارًا بها، حتى إذا ظن أنه مالك لها قادر عليها سلبها بغتة أحوج ما كان إليها، وحيل بينه وبينها، فشبهها بالأرض التي ينزل الغيث عليها، فتعشب ويحسن نباتها، ويروق منظرها للناظر، فيغتر به، ويظن أنه قادر عليها مالك لها، فيأتيها أمر الله، فتدرك نباتها الآفة بغتة، فتصبح كأن لم يكن قبل، فيخيب ظنه، وتصبح يداه صفرًا منها.

فهكذا حال الدنيا والواثق بها سواء، وهذا من أبلغ التشبيه والقياس، ولما كانت الدنيا عرضة لهذه الآفات والجنة سليمة منها قال: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ) فسماها هنا دار السلام لسلامتها من هذه الآفات التي ذكرها في الدنيا. فعم بالدعوة إليها، وخص بالهداية من يشاء، فذاك عدله، وهذا فضله»(2) ا.هـ.

ويقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عند آية يونس أيضًا: «ذلك مثل الحياة الدنيا التي لا يملك الناس إلا متاعها، حين يرضون بها، ويقفون عندها، ولا يتطلعون منها إلى ما هو أكرم وأبقى.

هذا هو الماء ينزل من السماء، وهذا هو النبات يمتصه ويختلط به فيمرع ويزدهر. ها هي ذي الأرض كأنها عروس مجلوة تتزين لعرس وتتبرج. وأهلها مزهوون بها، يظنون أنها بجهدهم ازدهرت، وبإرادتهم تزينت،وأنهم أصحاب الأمر فيها، لا يغيرها عليهم مغير، ولا ينازعهم فيها منازع.

وفي وسط هذا الخصب الممرع، وفي نشوة هذا الفرح الملعلع، وفي غمرة هذا الاطمئنان الواثق (أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ)..

في ومضة، وفي جملة، وفي خطفة. وذلك مقصود في التعبير بعد الإطالة في عرض مشهد الخصب والزينة والاطمئنان.

وهذه هي الدنيا التي يستغرق فيها بعض الناس، ويضيعون الآخرة كلها لينالوا منها بعض المتاع.

هذه هي: لا أمن فيها ولا اطمئنان، ولا ثبات فيها ولا استقرار، ولا يملك الناس من أمرها شيئًا إلا بمقدار.

هذه هي، (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).

فيالبعد الشقة بين دار يمكن أن تطمس في لحظة، وقد أخذت زخرفها، وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها، فإذا هي حصيد كأن لم تغن بالأمس، ودار السلام التي يدعو إليها الله، ويهدي من يشاء إلى الصراط المؤدي لها حينما تنفتح بصيرته، ويتطلع إلى دار السلام»(3) ا.هـ.

وقد ذم الله عز وجل الغافلين عن الآخرة العالمين بظاهر من الحياة الدنيا؛ وذلك في قوله تعالى: (وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم:6، 7).

وهذه الآيات جاءت بعد قوله تعالى: ( وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم:4، 5).

يقول السعدي - رحمه الله تعالى - عند تفسير قوله تعالى: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ...) الآيات: ((وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن ما وعد الله به حق، فذلك يوجد فريق منهم، يكذبون بوعده، ويكذبون آياته. وهؤلاء الذين لا يعلمون، أي: لا يعلمون بواطن الأشياء وعواقبها، وإنما (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) فينظرون إلى الأسباب، ويجزمون بوقوع الأمر الذي في رأيهم انعقدت أسباب وجوده، ويتيقنون عدم الأمر الذي لم يشاهدوا له من الأسباب المقتضية لوجوده شيئًا. فهم واقفون مع الأسباب، غير ناظرين إلى مسببها، المتصرف فيها.

(وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) قد توجهت قلوبهم وأهواؤهم وإراداتهم إلى الدنيا وشهواتها وحطامها، فعملت لها وسعت، وأقبلت بها وأدبرت، وغفلت عـن الآخـرة. فـلا الجنـة تشتاق إليهـا، ولا النـار تخافها وتخشاها، ولا المقام بين يدي الله ولقائه يروعها ويزعجها. وهذا علامة الشقاء، وعنوان الغفلة عن الآخرة. ومن العجب أن هذا القسم من الناس قد بلغت بكثير منهم الفطنة والذكاء في ظاهر الدنيا إلـى أمـر يحيـر العقـول، ويدهش الألبـاب. وأظهـروا مـن العجائب الذرية، والكهربائية والمراكب البحرية والهوائية ما فاقوا به، وبرزوا، وأعجبوا بعقولهم، ورأوا غيرهم عاجزًا عما أقدرهم الله عليه. فنظروا إليهم بعين الاحتقار والازدراء. وهم مع ذلك أبلد الناس في أمر دينهم، وأشدهم غفلة عن آخرتهم، وأقلهم معرفة بالعواقب؛ قد رآهـم أهـل البصائـر النافـذة في جهلهم يتخبطـون، وفـي ضلالهـم يعمهون، وفي باطلهم يترددون، نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون»(4).

أمثلة نبوية تدعو إلى التفكر في حقيقة الدنياوفنائها:

المثال الأول:

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وجلسنا حوله، فقال: «إن مما أخاف عليكم بعدي: ما يفتح عليكـم من زهـرة الدنيـا وزينتهـا»، فقـال رجـل: أوَيـأتي الخيـر بالشـر يا رسول الله؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له: ما شأنك تكلم رسول الله ولا يكلمك؟ قال: ورأينا أنه ينزل عليه، فأفاق يمسح عنه الرُّحَضاءَ، وقال: أين هذا السائل؟ - وكأنه حمده - فقال: إنه لا يأتي الخير بالشر» وفي رواية فقال: «أين السائل آنفًا؟ أوَخيرٌ هو؟ - ثلاثاً - إن الخير لا يأتي إلا بالخير - وإن مما ينبت الربيع يقتل حَبَطًا(5) أو يُلم(6)، إلا آكلة الخْضِر(7)، فإنها أكلت، حتى إذا امتدت خاصِرتاها استقبلت عين الشمس، فثلَطَت(8) وبالت، ثم رتعت، وإن هذا المال خَضِرٌ حلو، ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل - أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وإن من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيدًا يوم القيامة»(9).

علَّق صاحب جامع الأصول على هذا الحديث بقوله: «في هذا الحديث مثلان: أحدهما: للِمُفْرطِ في جمع الدنيا، والآخر: لِلْمُقْتَصد في أخذها والانتفاع بها، فأمَّا قوله: «وإن مما يُنبت الربيع ما يقتل حَبَطًا أو يُلِمَّ» فإنه مثل للمفرط الذي يأخذ الدنيا بغير حقها؛ وذلك أن الربيع ينبت أحرار البقول، فتستكثر الماشية منه لاستطابتها إياه، حتى تنتفخ بطونها عند مجاوزتها حدَّ الاحتمال، فتنشقُّ أمعاؤها من ذلك فتهلك، أو تُقارب الهلاك؛ وكذلك الذي يجمعُ الدنيا من غير حقها ويمنعها من حقها: قد تعرض للهلاك في الآخرة، لا بل في الدنيا.

وأما مثل المقتصد، فقوله: «إلا آكلة الخضر»؛ وذلك أن الخضر ليس من أحرار البقول وجيِّدها التي ينبتها الربيع بتوالي أمطاره فتحسن وتنعم، ولكنه من التي ترعاها المواشي بعد هيج البقول ويبْسِها، حيث لا تجد سواها، وتُسميها العرب: الجَنْبَةَ، فلا ترى الماشية تكثر من أكلها ولا تَستَمْرِئُهَا، فضرب آكلة الخضر من المواشي مثلاً لمن يقتصر في أخذ الدنيا وجمعها، ولا يحمله الحرصُ على أخذها بغير حقها، فهو ينجو من وبالها، كما نجت آكلة الخضِر. ألا تراه قال: «أكلت، حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس، فثلطت وبالت» أراد أنها إذا شبعت منها بَرَكت مستقبلة عين الشمش، تستمرئُ بذلك ما أكلت، وتجْترُّ وتثلِطُ فإذا ثلطت فقد زال عنها الحبط، وإنما تحبط الماشية لأنها تمتلئُ بطونها ولا تثلط ولا تبول، فيعرضُ لها المرض فتهلك»(10).

ويقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - معلقًا على هذا المثال: «أخبر صلى الله عليه وسلم أنه إنما يخاف عليهم الدنيا، وسمَّاها زهرة؛ فشبهها بالزهر في طيب رائحته وحسن منظره وقلة بقائه، وأن وراءه ثمرًا خيرًا وأبقى منه.

وقوله: «إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطًا أو يلم»، هذا من أحسن التمثيل المتضمن للتحذير من الدنيا والانهماك عليها والمسرة فيها؛ وذلك أن الماشية يروقها نبت الربيع، فتأكل منها بأعينها، فربما هلكت حبطًا. والحبط: انتفاخ بطن الدابة من الامتلاء أو من المرض؛ يقال: حبط الرجل والدابة تحبطًا وحبطًا إذا أصابه ذلك.

ولما أصاب الحارث بن مازن بن عمرو بن تميم ذلك في سفره، فمات حبطًا، فنسب الحبطي كما يقال السلمي. فكذلك الشرهة في المال يقتله شرهه وحرصه، فإن لم يقتله قارب أن يقتله؛ وهو قوله: «أو يلم». وكثير من أرباب الأموال إنما قتلتهم أموالهم؛ فإنهم شرهوا في جمعها واحتاج إليها غيرهم، فلم يصلوا إليها إلا بقتلهم أو ما يقاربه من إذلالهم وقهرهم.

وقوله: «إلا آكلة الخضر». هذا تمثيل لمن أخذ من الدنيا حاجته؛ مثَّله بالشاة الآكلة من الخضر بقدر حاجتها: «أكلت حتى إذا امتلأت خاصرتاها». وفي لفظ آخر: «امتدت خاصرتها»؛ وإنما تمتد من امتلائها من الطعام.وثنى الخاصرتين لأنهما جانبا البطن.

وفي قوله: «استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت» ثلاث فوائد:

إحداها: أنها لمَّا أخذت حاجتها من المرعى، تركته وبركت مستقبلة الشمس لتستمرئ بذلك ما أكلته.

الثانية: أنها أعرضت عما يضرها من الشره في المرعى، وأقبلت على ما ينفعها من استقبال الشمس التي يحصل لها بحرارتها إنضاج ما أكلته وإخراجه

الثالثة: أنها استفرغت بالبول والثلط ما جمعته من المرعى في بطنها، فاستراحت بإخراجه، ولو بقي فيها لقتلها. فكذلك جامع المال مصلحته أن يفعل به كما فعلت هذه الشاة.

وأولُ الحديث: مثل الشره في جمع الدنيا الحريص على تحصيلها، فمثاله مثال للدابة التي حملها شره الأكل على أن يقتلها حبطًا، أو يلم إذا لم يقتلها؛ فإن الشره الحريص إما هالك وإما قريب من الهلاك؛ فإن الربيع ينبت أنواع البقول والعشب، فتستكثر منه الدابة حتى ينتفخ بطنها لما جاوزت حد الاحتمال، فتنشق أمعاؤها وتهلك. كذلك الذي يجمع الدنيا من غير حلها، ويحبسها أو يصرفها في غير حقها.

وآخر الحديث: مثل للمقتصد بآكلة الخضر الذي تنتفع الدابة بأكله،ولم يحملها شرهها وحرصها على تناولها منه فوق ما تحتمله، بل أكلت بقدر حاجتها. وهذا مثل الذي أخذ ما يحتاج إليه ثم أقبل على ما ينفعه. وضرب بول الدابة وثلطها مثلاً لإخراجه المال في حقه؛ حيث يكون حبسه وإمساكه مضرًا به. فنجا من وبال جمعه بأخذ قدر حاجته منه، ونجا من وبال إمساكه بإخراجه، كما نجت الدابة من الهلاك بالبول والثلط.

وفي هذا الحديث إشارة إلى الاعتدال والتوسط بين الشره في المرعى القاتل كثرته،وبين الإعراض عنه وتركه بالكلية فتهلك جوعًا.

وتضمن الخبر أيضًا إرشاد المكثر من المال إلى ما يحفظ عليه قوته وصحته في بدنه وقلبه؛ وهو الإخراج منه وإنفاقه، ولا يحبسه فيضره حبسه. وبالله التوفيق»(11).

المثال الثاني :

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نام على رُمَالِ حَصِير،وقد أثَّرَ في جنبه، فقلنا: يا رسول الله، لو اتَّخَذنا لك وطاءً تجعلُهُ بينك وبين الحصير، يقيك منه؟ فقال: «ما لي وللدنيا؛ ما أَنا والدنيا إلا كَرَاكبٍ استَظَلّ تحت شجرة ثم راح وتركها»(12).

ويعلق الإمام ابن القيم على هذا المثال بقوله: «فتأمل حسن هذا المثال، ومطابقته للواقع سواء؛ فإنها في خضرتها كشجرة، وفي سرعة انقضائها وقبضها شيئًا فشيئًا كالظل، والعبد مسافر إلى ربه، والمسافر إذا رأى شجرة في يوم صائف لا يحسن به أن يبني تحتها دارًا، ولا يتخذها قرارًا، بل يستظل بها بقدر الحاجة، ومتى زاد على ذلك انقطع عن الرفاق»(13).

المثال الثالث:

عن قيس بن أبي حازم - رحمه الله - قال: سمعت مستوردًا أخا بني فهر وهو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه - وأشار يحيى بن سعيد بالسبابة - في اليم، فلينظر بم ترجع؟»(14).

يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «وهذا أيضًا من أحسن الأمثال؛ فإن الدنيا منقطعة فانية، ولو كانت مدتها أكثر مما هي، والآخرة أبدية لا انقطاع لها، ولا نسبة للمحصور إلى غير المحصور. بل لو فرض أن السموات والأرض مملوءتان خردلاً وبعد كل ألف سنة طائر ينقل خردلة لفني الخردل، والآخرة لا تفنى؛ فنسبة الدنيا إلى الآخرة في التمثيل كنسبة خردلة واحدة إلى ذلك الخردل»(15).

المثال الرابع :

عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل». وكان ابن عمر يقول: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك»(16).

المثال الخامس:

عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق، داخلاً من بعض العَوَالي، والناس كنفتيه، فمر بجدي ميت أسك(17)، فتناوله وأخذ بأُذنه، ثم قال: أيُّكم يحب أن هذا له بدرهم؟ قالوا: ما نحب أنَّه لنا بشي، ما نصنع به؟ إنه لو كان حيًا كان عيبًا فيه أنَّهُ أسكُّ. قال: «فوالله للدُّنيا أَهون على الله من هذا عليكم»(18).

المثال السادس:

عن المطلب بن عبدالله عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان واقفًا بعرفات فنظر إلى الشمس حين تدلت مثل الترس للغروب فبكى واشتد بكاؤه. فقال له رجل عنده: يا أبا عبدالرحمن قد وقفت معك مرارًا لم تصنع هذا. فقال: ذكرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بمكاني هذا فقال: «أيها الناس إنه لم يبق من دنياكم فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه»(19).

في هذا الحديث بيان أن الدنيا كلها كيوم واحد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخره قبل غروب الشمس بيسير.

نماذج مضيئة من تفكير السلف في حقيقة الدنيا والآخرة وأثر ذلك في أحوالهم:

إن من معجزات هذا الدين العظيم أنه خرَّج رجالاً أفذاذًا زاهدين في هذه الدنيا الفانية، ولم يغتروا بزينتها وزخرفها، ومع ذلك كانوا فاعلين في دنيا الناس، لم يمنعهم زهدهم في الدنيا وحذرهم منها أن يصلحوا فيها ويدفعوا الفساد عن حياة الناس، ويجاهدوا في سبيل الله تعالى حتى فتح الله لهم الدنيا، وعلت كلمة الله عز وجل، وصار الدين كله لله؛ فلما أقبلت الدنيا عليهم رفضوها، ولم تعشعش في قلوبهم؛ بل كانت في أيديهم وسخروها لنصرة دين الله تعالى والاستعانة بها على طاعة الله عز وجل، وتقديمها لأنفسهم في الدار الآخرة.

والمقصود من هذه المقدمة أن لا يفهم من عرض حياة السلف وحذرهم من الدنيا وزهدهم فيها أنهم تركوها لعدم قدرتهم وحيازتهم لها، بل تركوها مختارين بعد أن وصلت إلى أيديهم. كما ينبغي أن لا يفهم أنهم كانوا منعزلين عن الناس أو أنهم كانوا سلبيين مع ما يحصل في حياة الناس من فساد وشر، بل كانوا رحمهم الله تعالى كما وصفهم الواصف: عُبَّادًا في الليل فرسانًا مجاهدين في النهار، ومن هذه النماذج الوضيئة ما يلي:

في «الزهد» لابن المبارك: حدثنا معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: قدم عمر رضي الله عنه الشام، فتلقاه الأمراء والعظماء، فقال: أين أخي أبو عبيدة؟ قالوا: يأتيك الآن، قال: فجاء على ناقةٍ مخطومةٍ بحبل، فسلَّم عليه، ثم قال للناس: انصرفوا عنا. فسار معه حتى أتى منزله، فنزل عليه، فلم يَرَ في بيته إلاّ سيفَه وتُرسَه ورحْلَه، فقال له عمر: لو اتخذتَ متاعًا، أو قال شيئًا، فقال: يا أمير المؤمنين إن هذا سيبلغنا المقيل(20).

وعن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أنتم أطول صلاةً وأكثر اجتهادًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا أفضل منكم. قيل له: بأي شيء؟ قال: إنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة منكم(21).

وعن الأوزاعي، عن بلال بن سعد، أن أبا الدرداء رضي الله عنه قال: أعوذ بالله من تفرقة القلب. قيل: وما تفرقة القلب؟ قال: أن يُجعل لي في كل واد مال(22).

روى الإمام أحمد قال: حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا المسعودي عن سِمَاك بن حرب عن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه ابن مسعود قال: بينما رجل فيمن كان قبلكم كان في مملكته، فتفكّر، فعلم أن ذلك مُنْقَطِعٌ عنه، وأن ما هو فيه قد شغله عن عبادة ربه، فتَسرَّب فانساب ذاتَ ليلةٍ من قصره، فأصبح في مملكةِ غيره، وأتَى ساحلَ البحر، وكان يَضرِبُ اللَّبِنَ بالأجر، فيأكل ويتصدق بالفَضْل، فلم يزل كذلك حتى رَقِىَ أَمرهُ إلى ملكهم وعبادتُه وفضلُه، فأرسل ملكهم إليه أن يأتيه، فأَبى أن يأتيه، فأعاد، ثم أعاد إليه، فأبى أن يأتيه، وقال: ما له وما لي؟! قال: فركب الملكُ، فلما رآه الرّجلُ ولى هاربًا، فلما رأى ذلك الملكُ ركَضَ في أثره، فلم يدركه، قال: فناداه: يا عبد الله، إنه ليس عليك مني بأسٌ، فأقام حتى أدركه، فقال له: من أنت رحمك الله؟: قال أنا فلان بن فلان، صاحب مُلْك كذا وكذا، تفكرتُ في أمري، فعلمتُ أن ما أنا فيه منقطعٌ، فإنه قد شغلني عن عبادة ربي، فتركتُه، وجئت ههنا أعبدُ ربي عز وجل، فقال: ما أنت بأحْوَج إلى ما صنعتَ منّي، قال: ثم نزل عن دابته فسَيَّبها، ثم تبعه، فكانا جميعًا يعبدَانِ الله عز وجل، فدعَوَا الله أن يميتهما جميعًا، قال: فماتا. قال عبد الله: لو كنتُ بِرُمَيْلة مصرَ لأريتكم قبورَهما، بالنعتِ الذي نعتَ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم(23).

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: إياكم وما شغل من الدنيا؛ فالدنيا كثيرة الأشغال؛ لا يفتح رجل على نفسه باب شغل إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب(24).

وعن همام قال: لما حضر أبا هريرة الموتُ جعل يبكي. قيل له: ما يبكيك يا أبا هريرة؟ قال: قلة الزاد وبُعد المفازة، وعقبة هبوطها الجنة أو النار(25).

وعن أبي صالح قال: قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لضرار ابن ضمرة: صف لي عليّاً. فقال: أو تعفني يا أمير المؤمنين؟ قال: بل تصفه. لي قال: أو تعفني؟ قال: لا أعفيك. قال: أما إذ لا بد، فإنه والله كان بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلب كفه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب - (أي ما غلظ أو ما كان بلا أدم) - كان والله كأحدنا؛ يجيبنا إذا سألناه، ويبتدينا إذا أتيناه،ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه هيبة، ولا نبتديه لعظمته، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد بالله لرأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، وقد مَثُل في محرابه قابضًا على لحيته، يتململ تململ السليم - يعني القريص - ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه وهو يقول: يا دنيا يا دنيا أبي تعرَّضْتِ، أم لي تشوَّقْتِ، هيهات هيات، غُرِّي غيري؛ قد بتتك ثلاثًا، لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كبير، آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق.

قال: فذرفت دموع معاوية رضي الله عنه، فما يملكها، وهو ينشفها بكمه، وقد اختنق القوم بالبكاء. ثم قال معاوية: رحم الله أبا الحسن؛ كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذُبِحَ ولدها في حجرها، فلا ترقأ عبرتها، ولا تسكن حسرتها(26).

وعن قيس أن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه بكى، فبكت امرأته، فقال: ما يبكيك؟ قالت: رأيتك تبكي فبكيت، فقال: «إني أنبئت أني وارد، ولم أنبأ أني صادر»(27).

وعن زياد بن ماهك قال: كان شداد بن أوس يقول: إنكم لن تَروْا من الخير إلا أسبابه، ولن تَروا من الشر إلا أسبابه. الخير كله بحذافيره في الجنة، والشر بحذافيره في النار، وإن الدنيا عَرَضٌ حاضر يأكل منها البَرّ والفاجر، والآخرةُ وعْد صادق يحكم فيها ملك قاهر، ولكلٍ بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا(28).

وأخرج أبو نعيم عن شداد بن أوس الأنصاري رضي الله عنه أنه كان إذا دخل الفراش يتقلب على فراشه، لا يأتيه النوم فيقول: اللهم إن النار أذهبت مني النوم، فيقوم يصلي حتى يصبح(29).

وعن عبد السلام مولى مسلمة بن عبد الملك، قال: بكى عمر بن عبد العزيز، فبكت فاطمة، فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء. فلما تجلَّى عنهم العَبْرُ قالت فاطمة: بأبي أنت يا أمير المؤمنين! ممَّ بكيت؟ قال: ذكرت يا فاطمة منصرف القوم من بين يدي الله: فريق في الجنة، وفريق في السعير، ثم صرخ وغُشي عليه(30).

عن الحسن أن رجلاً من الصدر الأول حضره الموت فجعل يبكي، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أما والله ما أبكي على شيء تركته بعدي إلا ثلاث خصال: ظمأ الهاجرة في يوم بعيد ما بين الطرفين، أو ليلة أبيت فيها أراوح بين جبهتي وقدمي، أو غدوة وروحة في سبيل الله عز وجل(31).

وعن عون بن عبد الله بن عتبة قال: إن من كان قبلكم كانوا يجعلون للدنيا ما فضل عن آخرتهم، وإنكم اليوم تجعلون لآخرتكم ما فضل من دنياكم(32).

ويقول ابن الجوزي - رحمه الله تعالى -: «هِمَّةُ المؤمن متعلقة بالآخرة؛ فكلُّ ما في الدُّنيا يُحرِّكُهُ إلى ذكر الآخرة. وكلُّ من شغله شيءُ فهمته شغله؛ ألا ترى أنَّه لو دخل أربابُ الصنائع إلى دارٍ معمورةٍ رأيت البزَّازَ ينظرُ إلى الفرشِ ويحرزُ قيمته، والنَّجَّارَ إلى السَّقْفِ، والبَّناءَ إلى الحيطان، والحائكَ إلى النسيج المخيط ...

والمؤمن إذا رأى ظلمة، ذكر ظلمة القبر، وإن رأى مؤلمًا ذكر العقاب، وإن سمع صوتًا فظيعًا ذكر نفخة الصور، وإن رأى الناس نيامًا ذكر الموتى في القبور، وإن رأى لذةً ذكر الجنة؛ فهمتُهُ متعلقةٌ بما ثَمَّ، وذلك يشغله عن كل ما تم.

وأعظمُ ما عندَه أنه يتخايلُ دوام البقاء في الجنة، وأنَّ بقاءه لا ينقطع ولا يزالُ ولا يعتريه منغصٌ، فيكاد إذا تخايل نفسه متقلبًا في تلك اللَّذَّات الدائمة التي لا تفنى يطيشُ فَرَحًا، ويسهُلُ عليه ما في الطريق إليها من ألم، ومرض، وابتلاءٍ، وفقد محبوبٍ، وهُجوم الموت ومعالجةِ غُصَصِهِ؛ فإنَّ المشتاق إلى الكعبة يهونُ عليه رمْلُ زَرُودَ، والتائِقُ إلى العافية لا يبالي بمرارة الدواء، ويعلم أن جوْدَةَ الثمر ثَمَّ على مقدار جودَةِ البَذْرِ ها هُنا؛ فهو يتخيَّرُ الأجودَ، ويغتنم الزرع في تشرين العمر من غير فتورٍ. ثم يتخايلُ المؤمن دخول النار والعقوبة، فيتنغص عيشهُ ويقوى قلقُه. فعنده بالحالين شغل عن الدنيا وما فيها، فقلبه هائم في بيداء الشوق تارة، وفي صحراء الخوف أخرى، فما يرى البنيان»(33).

قال الأعمش: إن كنا لنشهد الجنازة؛ فما ندري مَنْ نعزي مِنْ حزن القوم(34).

عن سرار أبي عبيدة، قال: قالت لي امرأة عطاء السليمي: عاتب عطاء في كثرة البكاء، فعاتبته، فقال لي: يا سرار، كيف تعاتبني في شيء ليس هو إليَّ؟! إني إذا ذكرتُ أهل النار وما ينزل بهم من عذاب الله وعقابه، تمثلت لي نفسي بهم، فكيف بنفس تُغَلُّ يدُها إلى عنقها،وتُسحب إلى النار، ألا تصيح وتبكي؟ وكيف لنفس تُعَذَّب ألا تبكي؟ ويحك يا سرار! ما أقل غَنَاء البكاء عن أهله إن لم يرحمهم الله(35).

والآثار في تفكر السلف في الآخرة والاستعداد لها كثيرة جدًا، فأين نحن منهم؟ نعم؛ أين نحن من حال سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى؟ مع أنهم يتميزون عنا بقوة الإيمان، وكثرة الأعمال الصالحة، وقلة الذنوب، وشدة خشيتهم لله تعالى، كما أن زمانهم يتميز عن زماننا بصلاح أهله، وبكون الدنيا لم تفتح عليهم انفتاحها علينا اليوم. نسأل الله عز وجل أن يوقظنا من غفلتنا، وأن يرزقنا الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور(*).

من ثمرات التفكر في الدنيا والآخرة:

إن في التفكر في حقيقة الدنيا واليوم الآخر وأنبائه العظيمة لآثارًا واضحة وثمارًا طيبة، لا بد أن تظهر على قلب العبد ولسانه وجوارحه، وعلى حياته كلها، ولكن هذا التفكير وحده لا يكفي حتى ينضم إليه الصبر، ومجاهدة الشهوات والعوائق.

فالملاحظ على كثير منا أنه مع يقينه باليوم الآخر وأهواله إلا أن ثمرات هذا اليقين ضعيفة، فلا بد إذن من سبب لهذا الضعف.

ويجلي هذه المسألة الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، فيقول: «فإن قلت: كيف يجتمع التصديق الجازم الذي لا شك فيه بالمعاد والجنة والنار ويتخلف العمل؟ وهل في الطباع البشرية أن يعلم العبد أنه مطلوب غدًا إلى بين يدي بعض الملوك ليعاقبه أشد عقوبة، أو يكرمه أتم كرامة، ويبيت ساهيًا غافلاً! ولا يتذكر موقفه بين يدي الملك، ولا يستعد له، ولا يأخذ له أهبته؟!

قيل: هذا لعمر لله سؤال صحيح وارد على أكثر الخلق؛ فاجتماع هذين الأمرين من أعجب الأشياء، وهذا التخلف له عدة أسباب:

أحدها: ضعف العلم ونقصان اليقين. ومن ظن أن العلم لا يتفاوت، فقوله من أفسد الأقوال وأبطلها.

وقد سأل إبراهيم الخليل ربه أن يريه إحياء الموتى عيانًا بعد علمه بقدرة الرب على ذلك؛ ليزداد طمأنينة، ويصير المعلوم غيبًا شهادة.

وقد روى أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس المخبر كالمعاين»(36)؛ فإذا اجتمع إلى ضعف العلم عدم استحضاره أو غيبته عن القلب في كثير من أوقاته - أو أكثرها - لاشتغاله بما يضاده، وانضم إلى ذلك تغاضي الطبع، وغلبات الهوى، واستيلاء الشهوة، وتسويل النفس، وغرور الشيطان، واستبطاء الوعد، وطول الأمل، ورقدة الغفلة، وحب العاجلة، ورخص التأويل، وإلف العوائد، فهناك لا يمسك الإيمان إلا الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا. وبهذا السبب يتفاوت الناس في الإيمان والأعمال، حتى ينتهي إلى أدنى مثقال ذرة في القلب.

وجماع هذه الأسباب يرجع إلى ضعف البصيرة والصبر، ولهذا مدح الله سبحانه أهل الصبر واليقين، وجعلهم أئمة الدين؛ فقال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24)»(37) ا.هـ.

وبعد هذه المقدمة التي لا بد منها حول ثمرات التفكير في الدنيا والآخرة أسوق ما تيسر من هذه الثمرات، والله ولي التوفيق:

1- الإخلاص لله عز وجل والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم:

إن الموقن بلقاء الله عز وجل يوم الفزع الأكبر لا تلقاه إلا حريصًا على أعماله، خائفًا من كل ما يحبطها من أنواع الشرك الأكبر، أو الشرك الأصغر؛ حيث إن الشرك الأكبر يحبط جميع الأعمال، فتصير هباءً منثورًا، والشرك الأصغر يحبط العمل الذي حصل فيه هذا النوع من الشرك؛ كيسير الرياء، والعجب، والمنِّ، وطلب الجاه والشرف في الدنيا؛ فكلما كان العبد موقنًا بلقاء ربه كان منه الحرص الشديد على ألا تضيع منه أعماله الصالحة في موقف القيامة، يوم أن يكون في أشد الأوقات حاجة إليها؛ ولذلك فهو يجاهد نفسه بحماية أعماله في الدنيا بالإخلاص فيها لله تعالى، لعل الله عز وجل أن ينفعه بها.

كما أن اليقين بالرجوع إلى الله عز وجل يجعل العبد في أعماله كلها متبعًا للرسول صلى الله عليه وسلم غير مبتدع ولا مبدل؛ لأن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا صوابًا؛ قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (الكهف: من الآية110).

2- الحذر من الدنيا، والزهد فيها، والصبر على شدائدها وطمأنينة القلب وسلامته:

إذا أكثر العبد ذكر الآخرة وكانت منه دائمًا على بال، فإن الزهد في الدنيا والحذر منها ومن فتنتها سيحلان في القلب، وحينئذ لا يكترث بزهرتها، ومن ثم لا يحزن على فواتها، ولا يمدن عينيه إلى من متعهم الله بها ليفتنهم فيها.

وهذه الثمرة يتولد عنها بدورها ثمار أخرى مباركة طيبة؛ منها القناعة، وسلامة القلب من الحرص والحسد والغل والشحناء؛ لأن الذي يعيش بتفكيره في الآخرة وأنبائها العظيمة لا تهمه الدنيا الضيقة المحدودة؛ إنها في نظره كالجحر الضيق؛ فكيف يتنافس مع غيره أو يحسد غيره على جحر ضيق زائل، وهو يعيش في هذا الأفق الواسع الرحب، أفق الآخرة والحياة الأبدية فيها. قال أبو الدرداء رضي الله عنه: «من أكثر ذكر الموت قل فرحه وقل حسده»(38).

كما يتولد أيضًا من هذا الشعور الراحة النفسية، والسعادة القلبية، وقوة الاحتمال والصبر على الشدائد والابتلاءات؛ وذلك للرجاء فيما عند الله عز وجل من العـوض والثـواب، وأنه مهما جـاء من شدائد الدنيا فهي منقطعة ولها أجل، فهو ينتظر الفرج ويرجو الثواب الذي لا ينقطع يوم الرجوع إلى الله عز وجل؛ قال تعالى: (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ) (النساء: من الآية104).

وما أن يفقد القلب هذه المعاني، حتى يخيّم الهم والغم عليه؛ ومن هنا ينشأ القلق والانزعاج والهم والحزن، أما ذاك الذي عرف الدنيا على حقيقتها، وامتلأ قلبه بهم الآخرة وأنبائها؛ فإن نفسه لا تذهب على الدنيا حسرات، ولا تنقطع نفسه لهثًا في طلبها، ولا يأكل قلبه الغل والحسد والتنافس فيها،ولا يقل صبره، ولا يجزع قلبه عند المحن والشدائد، ومهما حُرِمَ في هذه الدنيا الفانية فهو يعلم أن لله عز وجل في ذلك حكمة، وهو يرجو ثواب الله عز وجل.

يقول سيد قطب - رحمه الله -: «إن الذي يعيش بلا عقيدة في الآخرة يعيش في عذاب نفس: لا أمل له ولا رجاء، ولا عدل ولا جزاء، ولا عوض عما يلقاه في الحياة.

وفي الحياة مواقف وابتلاءات لا يقوى الإنسان على مواجهتها إلا وفي نفسه رجاء الآخرة، وثوابها للمحسن وعقابها للمسيء، وإلا ابتغاء وجه الله والتطلع إلى رضاه في ذلك العالم الآخر الذي لا تضيع فيه صغيرة ولا كبيرة. والذي يُحرم هذه النافذة المضيئة الندية المريحة يعيش ولا ريب في العذاب كما يعيش في الضلال. يعيش فيهما وهو حي على هذه الأرض قبل أن يلقى عذاب الآخرة جزاء على هذا العذاب الذي لقيه في دنياه.

إن الاعتقاد بالآخرة رحمة ونعمة يهبها الله لمن يستحقها من عباده؛ بإخلاص القلب، وتحري الحق، والرغبة في الهدى»(39).

كما أن الموقن بلقاء ربه عز وجل لا تلقاه عند النعماء إلا شاكرًا لربه، سالمًا من الأشر والبطر والطغيان عند انفتاح الدنيا عليه؛ لأنه يشعر بالابتلاء في السراء كابتلائه في الضراء، فيشكر في السراء، كما صبر على بلائه في الضراء.

3- التزود بالأعمال الصالحة وأنواع القربات واجتناب المعاصي والمبادرة بالتوبة والاستغفار :

سبق أن مر بنا في مقدمة الحديث عن الثمرات أنه لا يمكن أن يوجد اليقين بالآخرة، وما أعد الله فيها من النعيم لأوليائه ومن العذاب لأعدائه، ثم مع ذلك يتخلف العمل الصالح الذي يثمر رضا الله عز وجل وجنته. ولو وجد تقصير في العمل الصالح أو جرأة على ما يسخط الله سبحانه فإنما يدل هذا إما على ضعف في اليقين والبصيرة، أو ضعف في الصبر والإرادة، أما من رجا النعيم في الدار الآخرة فلابد أن يعد لذلك عدته، وأن يبادر بعمل الصالحات والتوبة من الزلات والهفوات.

يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «ومما ينبغي أن من رجا شيئًا استلزم رجاؤه ثلاثة أمور:

أحدها: محبة ما يرجوه.

الثانـي: خوفه من فواته.

الثالث: سعيه في تحصيله بحسب الإمكان.

وأما رجاء لا يقارنه شيء من ذلك فهو من باب الأماني، والرجاء شيء والأماني شيء آخر؛ فكل راج خائف، والسائر على الطريق إذا خاف أسرع السير مخافة الفوات.

وفـي جامع الترمـذي من حديث أبـي هريرة رضي الله عنه قـال: قـال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)(40)»(41).

4- الدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله :

وهذا يدخل في الثمرة السابقة؛ حيث إنه من أفضل القربات والأعمال الصالحة، وقد أفردته هنا كثمرة مستقلة من ثمار التفكر في الدنيا والآخرة وذلك لأمرين:

الأول: فضل الجهاد والدعوة إلى الله سبحانه، وأثرهما في إنقاذ الناس بإذن ربهم من الظلمات إلى النور؛ ولذلك كانا من أحب الأعمال إلى الله عز وجل، قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت:33).

والجهاد هو ذروة سنام الإسلام، وهو من أفضل الأعمال؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أي الناس أفضل؟ فقال: «رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه»، قال: ثم من؟ قال: «مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله ربه، ويدع الناس من شره»(42).

الثاني: في الحديث عن الجهاد في سبيل الله عز وجل، ومحاربة الفساد، وتعبيد الناس لرب العالمين أكبر رد على الذين يرون أن التعلق باليوم الآخر والاستعداد له يعني اعتزال الناس وترك الدنيا لأهلها، والاشتغال بالنفس وعيوبها، وترك الحياة تأسن ويفسد فيها أهلها. نعم، هذا ما يراه بعض المتصوفة وأصحاب الفهم المنحرف لحقيقة الدنيا والآخرة.

إنها النظرة السلبية لحقيقة الآخرة، وإلا فالدنيا مزرعة الآخرة، وهؤلاء هم سلفنا الصالح رضوان الله عليهم؛ أزهد الناس في الدنيا، وأكثرهم إنابة إلى الله وذكرًا للآخرة؛ ولكنهم - حيث علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله - رأوا أن من أكبر الاستعداد للآخرة وأفضل الأعمال المقربة إلى الله عز وجل الجهاد في سبيله والدعوة إليه سبحانه، وأن من اليقين بالآخرة الشفقة على الناس ورحمتهم، وعدم تركهم لأهل الشر والطغيان يفسدون عليهم دينهم؛ فيشقون في الدنيا والآخرة؛ ولذلك شرع الجهاد في سبيل الله عز وجل حتى لا تكون فتنة وتكون كلمة الله هي العليا.

«والذين يفترون على عقيدة الآخرة فيقولون: إنها تدعو الناس إلى السلبية في الحياة الدنيا، وإلى إهمال هذه الحياة، وتركها بلا جهد لتحسينها وإصلاحها، وإلى تركها للطغاة والمفسدين تطلعًا إلى نعيم الآخرة. الذين يفترون هذا الافتراء على عقيدة الآخرة يضيفون إلى الافتراء الجهالة؛ فهم يخلطون بين عقيدة الآخرة كما هي في التصورات الكنسية، وعقيدة الآخرة كما هي في دين الله القويم.

فالدنيا - في التصور الإسلامي - هي مزرعة الآخرة، والجهاد في الحياة الدنيا لإصلاح هذه الحياة، ودفع الشر والفساد عنها، ورد الاعتداء عن سلطان الله فيها، ودفع الطواغيت وتحقيق العدل والخير للناس جميعًا، كل أولئك هو زاد الآخرة؛ وهو الذي يفتح للمجاهدين أبواب الجنة، ويعوضهم عما فقدوا في صراع الباطل، وما أصابهم من الأذى.

إن الناس إذا كانوا في فترات من الزمان يعيشون سلبيين، ويدَعون الفساد والشر والظلم والطغيان والتخلف والجهالة تغمر حياتهم الدنيا - مع ادعائهم الإسلام - فإنما هم يصنعون ذلك كله أو بعضه لأن تصورهم للإسلام قد فسد وانحرف، ولأن يقينهم في الآخرة قد تزعزع وضعف! لا لأنهم يدينون بحقيقة هذا الدين، ويستيقنون من لقاء الله في الآخرة، فما يستيقن أحد من لقاء الله في الآخرة، وهو يعي حقيقة هذا الدين، ثم يعيش في هذه الحياة سلبيّاً أو متخلفًا أو راضيًا بالشر والفساد والطغيان، إنما يزاول المسلم هذه الحياة الدنيا، وهو يشعر أنه أكبر منها وأعلى، ويستمتع بطيباتها، أو يزهد فيها وهو يعلم أنها حلال في الدنيا خالصة له يوم القيامة، ويجاهد لترقية هذه الحياة وتسخير طاقاتها، وهو يعرف أن هذا واجب الخلافة فيها،ويكافح الشر والفساد والظلم محتملاً الأذى والتضحية حتى الشهادة، وهو إنما يقدم لنفسه في الآخرة .. إنه يعلم من دينه أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن ليس هنالك طريق للآخرة لا يمر بالدنيا، وأن الدنيا صغيرة زهيدة، ولكنها من نعمة الله التي يجتاز منها إلى نعمة الله الكبرى»(43).

ويكفينا في الدلالة على أن الجهاد في سبيل الله عز وجل والتسابق إليه من أعظم ثمرات اليقين باليوم الآخر قوله تعالى: (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) (التوبة:44، 45).

5- اجتناب الظلم بشتى صوره :

وهذه الثمرة أيضًا تندرج تحت الثمرة الثالثة التي تمت الإشارة فيها إلى أثر اليقين باليوم الآخر في ترك معاصي الله عز وجل، وكل ما نهى الله عنه، ولكن إفرادها هنا في ثمرة مستقلة جاء لكثرة الظلم والشحناء بين المسلمين في عصرنا الحاضر.

وإنه لا شيء يمنع النفس من ظلم الغير في نفسٍ أو مالٍ أو عرضٍ كاليقين بالرجوع إلى الله عز وجل، وإعطاء كل ذي حقه حقه، وإنصاف المظلوم ممن ظلمه، فإذا تذكر العبد هذا الموقف العصيب الرهيب وأنه لا يضيع عند الله شيء كما قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء:47)، وقوله تعالى: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) (طـه:111).

إذا تذكر هذه المواقف واتعظ بهذه الآيات، وأيقن بتحققها، فلا شك سيمنعه ذلك من التهاون في حقوق الخلق، والحذر من ظلمهم في دم أو مال أو عرض، خاصة وأن حقوق العباد مبنية على المشاحة والحرص على استيفاء الحق من الخصم، وبالذات في يوم الهول الأعظم، الذي يتمنى العبد فيه أن يكون له مظلمة على أحد، حتى ولو كان أمه وأباه وصاحبته وبنيه، فضلاً عن غيرهم من الأباعد. ومعلوم أن التقاضي هنالك ليس بالدينار والدرهم، ولكن بالحسنات والسيئات.

6- سلامة التفكير وانضباط الموازين :

لا يستوي من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويوقن بيوم الحساب والجزاء، ويوقن بفناء الدنيا ولا يغفل عن ذلك؛ لا يستوي في تفكيره وتصوراته وموازينه مع من لا يؤمن بالآخرة أو يؤمن بها ولكنه في لهو وغفلة عنها، إنهما لا يستويان أبدًا لا في الدنيا ولا في الآخرة. أما في الآخرة فيوضحه قوله تعالى: (لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) (الحشر:20).

وأما في الحياة الدنيا: فلا يلتقي أبدًا من يعلم أن له غاية عظيمة في هذه الحياة، وأن مرده إلى الله عز وجل في يوم الجزاء والحساب والنشور مع من لا يعلم من هذه الحياة الدنيا إلا ظاهرها، وأنها كل شيء عنده،وهو عن الآخرة من الغافلين.

إنهما لا يلتقيان لا في التفكير، ولا في الميزان الذي توزن به الأشياء والأحداث، ولا في الأحكام، وبالتالي فبقدر ما تسمو أخلاق الأول وتعلو همته لسمو منهجه وميزانه بقدر ما تسفل وترذل أخلاق الآخر لسفالة تصوره وفساد ميزانه؛ قال تعالى في وصف أهل الدنيا: (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم:7).

«ومن ثم لا يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويحسب حسابها، مع آخر يعيش لهذه الدنيا وحدها ولا ينتظر ما وراءها؛ لا يلتقي هذا وذاك في تقدير أمر واحد من أمور هذه الحياة، ولا قيمة واحدة من قيمها الكثيرة، ولا يتفقان في حكم واحد على حادث أو حالة أو شأن من الشؤون؛ فلكل منهما ميزان، ولكل منهما زاوية للنظر، ولكل منهما ضوء يرى عليه الأشياء والأحداث والقيم والأحوال. هذا يرى ظاهرًا من الحياة الدنيا، وذلك يدرك ما وراء الظاهر من روابط وسنن، ونواميس شاملة للظاهر والباطن، والغيب والشهادة، والدنيا والآخرة، والموت والحياة، والماضي والحاضر والمستقبل، وعالم الناس والعالم الأكبر الذي يشمل الأحياء وغير الأحياء»(44).

7- تقصير الأمل وحفظ الوقت :

إن من أخطر الأبواب التي يدخل منها الشيطان على العبد طول الأمل، والأماني الخادعة التي تجعل صاحبها في غفلة شديدة عن الآخرة، واغترار بزينة الحياة الدنيا، وتضييع ساعات العمر النفيسة في اللهث وراءها حتى يأتي الأجل الذي يقطع هذه الآمال، وتذهب النفس حسرات على ما فرطت في عمرها، وأضاعات من أوقاتها، ولكن اليقين بالرجوع إلى الله عز وجل، والتذكر الدائم لقصر الحياة الدنيا وأبدية الآخرة وبقائها هو العلاج النافع لطول الأمل وضياع الأوقات.

يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «فأما قصر الأمل: فهو العلم بقرب الرحيل، وسرعة انقضاء مدة الحياة. وهو من أنفع الأمور للقلب؛ فإنه يبعثه على معافصة الأيام، وانتهاز الفرص التي تمر مَرَّ السحاب، ومبادرة طَيَّ صحائف الأعمال. ويثير ساكن عزماته إلى دار البقاء، ويحثه على قضاء جهاز سفره، وتدارك الفارط، ويزهده في الدنيا، ويرغبه في الآخرة؛ فيقوم بقلبه - إذا داوم مطالعة قصر الأمل - شاهدٌ من شواهد اليقين يريه فناء الدنيا، وسرعة انقضائها، وقلة ما بقي منها، وأنها قد ترحلت مُدْبِرَة ولم يبق منها إلا صُبابة كصبابة الإناء يتصابُّها صاحبها، وأنها لم يبق منها إلا كما بقي من يوم صارت شمسه على رؤوس الجبال. ويريه لقاء الآخرة ودوامها، وأنها قد ترحلت مقبلة، وقد جاء أشراطُها وعلاماتها، وأنه من لقائها كمسافر خرج صاحبه يتلقاه، فكل منهما يسير إلى الآخر، فيوشك أن يلتقيا سريعًا.

ويكفي في قصر الأمل قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) (الشعراء:205-207).

وقوله تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ) (يونس: من الآية45).

وقوله تعالى: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) (النازعات:46).

وقوله تعالى: (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (المؤمنون:113، 114).

وقوله تعالى: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) (الأحقاف: من الآية35).

وقوله تعالى: (يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) (طه:103، 104).

وخطب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يومًا والشمس على رؤوس الجبال فقال: «إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه»(45).

وقصر الأمل بناؤه على أمرين: تيقن زوال الدنيا ومفارقتها، وتيقن لقاء الآخرة وبقائها ودوامها. ثم يقايس بين الأمرين ويؤثر أولاهما بالإيثار»(46).

ويقول ابن الجوزي - رحمه الله تعالى -: «فإذا علم الإنسان - وإن بالغ في الجد - بأن الموت يقطعه عن العمل، عمل في حياته ما يدوم له أجره بعد موته، فإذا كان له شيء من الدنيا وَقَفَ وقفًا، وغرس غرسًا، وأجرى نهرًا، ويسعى في تحصيل ذرية تذكر الله بعده، فيكون الأجر له، أو أن يصنف كتابًا من العلم؛ فإن تصنيفَ العالم ولدُه المخلّد، وأن يكون عاملاً بالخير عالمًا فيه، فيُنقل من فعله ما يقتدي الغير به»(47) ا.هـ.

وعن قيمة الوقت يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «فوقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة معيشته الضنك في العذاب الأليم، وهو يمر أسرع من السحاب؛ فما كان من وقته لله وبالله فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوبًا في حياته وإن عاش عيش البهائم. فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو والأماني الباطلة، وكان خير ما قطعه به النوم والبطالة فموت هذا خير له من حياته.

وإذا كان العبد - وهو في الصلاة - ليس له من صلاته إلا ما عقل منها، فليس له من عمره إلا ما كان فيه بالله ولله»(48).

 

(1) «تفسير ابن كثير»: (1/256).

(2) «أعلام الموقعين»: (1/203).

(3) «في ظلال القرآن»: (3/1775).

(4) «تفسير السعدي: (4/76، 77).

(5) (حبطًا) حبط بطنه: إذا انتفخ فهلك.

(6) (أو يلم): ألمَّ به يلمُّ: إذا قاربه ودنا منه. يعني: أو يقرب من الهلاك.

(7) الخضِر: ضروب من النبات مما له أصل غامض في الأرض كالنصيِّ. وليس من أحرار البقول وإنما هو من كلأ الصيف. والنَّعمُ لا تستكثر منه وإنما ترعاه لعدم غيره.
(8) فثلطت: ثلط البعير يثلط: إذا ألقى رجيعه سهلاً رقيقًا.

(9) البخاري في الزكاة، باب الصدقة على اليتامى، مسلم: (1052).

(10) «جامع الأصول»: (4/502، 503).

(11) «عدة الصابرين»: (ص 281، 282).

(12) رواه الترمذي: (2378) في الزهد، باب رقم (44) وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم: (1936).

(13) «عدة الصابرين»: (ص 279).

(14) رواه مسلم (2858).

(15) «عدة الصابرين»: (279، 280).

(16) البخاري في الرقاق: (6416).

(17) الأسك: مقطوع الأذن أو صغيرها.

(18) رواه مسلم: (2957).

(19) «الفتح الرباني»: (4/24)، وقال البنا: إسناده صحيح.

(20) «سير أعلام النبلاء»: (1/16).

(21) «صفة الصفوة»: (1/420).

(22) «سير أعلام النبلاء»: (2/348).

(23) مسند أحمد: (4312)، وحسنه أحمد شاكر.

(24) «حلية الأولياء»: (2/153).

(25) «وصايا العلماء»: (ص 82).

(26) «غذاء الألباب» للسفاريني: (3/544).

(27) مصنف ابن أبي شيبة: (13/357).

(28) «صفة الصفوة»: (1/709).

(29) «حلية الأولياء»: ( /264).

(30) المصدر نفسه: (5/269).

(31) «وصايا العلماء»: (ص 93).

(32) «حلية الأولياء»: (4/242).

(33) «صيد الخاطر»: (ص 644، 645) (باختصار).

(34) «الزهد» لأحمد: (ص 365).

(35) «صفة الصفوة»: (3/237).

(*) لا يفهم من ذكر الآثار السابقة اعتزال الدنيا والرهبنة وترك طلب العيش والكفاف منها بالطريق الحلال، وإنما المقصود التحذير من الانهماك فيها وجعلها هي الهم الشاغل الذي يستولي على التفكير حتى يُنسي هم الآخرة والاستعداد لها، كما هو الحال عند أكثرنا في هذا الزمان. أما إذا عمل المسلم في الدنيا بنية عمارتها بطاعة الله تعالى، ونشر الخير ومدافعة الشر والفساد، وجعل الدنيا مزرعة للآخرة؛ فهذا مما يثاب عليه العبد لأنه عبادة الله عز وجل، بل قد يأثم العبد بتركه ذلك.
(36) رواه أحمد بنحوه: (1/215)، وصححه أحمد شاكر بلفظ (ليس الخبر كالمعاينة).

(37) «الجواب الكافي»: (ص 54).

(38) «الزيادة على الزهد» لابن المبارك: (ص 37).

(39) «اليوم الآخر في ظلال القرآن»: (ص 16).

(40) الترمذي: (2452) وحسنه. وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي: (1993).

(41) «الجواب الكافي»: (ص 57).

(42) البخاري: (2786).

(43) «اليوم الآخر في ظلال القرآن»: (ص 6).

(44) «في ظلال القرآن»: (5/2759).

(45) «الفتح الرباني»: (4/24)، وقال المحقق: إسناده صحيح.

(46) «مدارج السالكين»: (1/450).

(47) «صيد الخاطر»: (ص 367، 368).

(48) «الجواب الكافي»: (ص 213).


 

الفصل الثامن

التفكر في آيات الله عز وجل الخارقة

قد مر بنا في فصل سابق مجموعة من الآيات التي فيها ذكر بعض مظاهر القدرة الإلهية في خرق النواميس، والسنن التي جعلها الله عز وجل ثابتة، لتقوم حياة الناس عليها، ولكن الله عز وجل الذي ثبتها قادر على خرقها متى شاء سبحانه. وفي خرقها آيات بينات وزيادة إيمان ويقين لمن تأملها، وتفكر فيها، وكان في قلبه الاستعداد لقبول الحق والانقياد له.

وأما من أعرض وتكبر على الحق فإنه لا ينتفع ولا يستجيب لهذه الآيات؛ كما في قوله تعالى بعد ما قص علينا ما حل بالأمم المكذبة لرسلها من أنواع العذاب، وما أظهر على أيدي أنبيائه عليهم الصلاة والسلام من الآيات والمعجزات؛ قال عز وجل: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ) (هود: من الآية103).

أما من لم يؤمن بالله ولا باليوم الآخر فقد قال الله عز وجل عنه: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) (يونس:96، 97)، وإضلال الله عز وجل لهؤلاء لم يكن إلا بعد علم الله تعالى بكفرهم وأنهم سيعرضون عن الحق بعد بيانه، وظهور هذا العلم في تكذيبهم بالآيات لما رأوها؛ قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النحل:104).

وقبل الدخول في ذكر هذه الآيات وتفصيلاتها أود التنبيه إلى الأمور التالية:

أولاً: إن كل ما يراه الإنسان في الآفاق، والأنفس، والآلاء والنعم، لهو في حد ذاته آية من آيات الله عز وجل، ومعجزة من معجزاته سبحانه، ولكن إلفها وتكرارها أمام الحس أفقدها عند كثير من الناس هذا الشعور.

وصاحب الفكر المتيقظ، وغير المتبلد يجـد في كـل خلـق من مخلوقات الله عز وجل آية ومعجزة باهرة تدل على قدرة الله سبحانه، وقهره لكل شيء، وعظمته فوق كل شيء. ولكن لما كان كثير من الناس يغفلون عن هذه الآيات التي يرونها في الليل والنهار، فإن الله عز وجل برحمته يظهر للناس بعض الخوارق التي لم يكونوا يألفونها، بل إنها تصادم المألوف عندهم ليزداد بها الذين آمنوا إيمانًا وثباتًا، وتكون فتنة للذين كفروا ونافقوا، وحجة عليهم، وزيادة لهم رجسًا إلى رجسهم.

ثانيًا: الخوارق نوعان:

الأول: ما يظهره الله عز وجل على يد أنبيائه من المعجزات، أو على أيدي أوليائه من الكرامات. وكرامة الأولياء المتبعين لرسلهم هي في حقيقتها معجزة للرسول المتبع؛ إذ لولا الاتباع له لم تكن لهم هذه الكرامات. وجميع الكرامات والمعجزات هي في النهاية آية من آيات الله تعالى تدل على عظمته سبحانه، وقدرته وقهره، وطلاقة مشيئته عز وجل، ومحبته لأنبيائه وأوليائه ومعيته ونصرته لهم.

النوع الثاني: خوارق يجعلها الله عز وجل فتنة للذي تظهر على يديه ولمن يراها منه، وهذه مثل الخوارق التي يظهرها الله عز وجل على يد الدجال في آخر الزمان.

إذن لا بد أن نفرق بين أولياء الرحمن من أنبيائه، وما ظهر على أيديهم من المعجزات الدالة على نبوتهم ونصرة الله لهم، أو ما يظهره على أيدي أتباعهم من الكرامات التي هي في حقيقتها معجزة لأنبيائهم، وبين أولياء الشيطان الذين قد يظهر الله على أيديهم بعض الخوارق فتنة لهم ولأتباعهم.

وأسوق فيما يلي ما وقفت عليه في كتاب الله عز وجل من بعض الآيات البينات، والمعجزات الباهرات التي أظهرها الله عز وجل لعباده لتدلهم على عظمة الله سبحانه، وقدرته على كل شيء، وقهره لكل شيء، ولتدل في بعضها على صدق أنبيائه، ومحبته سبحانه وتعالى ونصرته لهم لعلها تدفعنا إلى التفكر فيها والتأمل في مدلولاتها مما يكون له الأثر في زيادة الإيمان وصدق اليقين والتوكل عليه سبحانه(1).

الآية الأولى: إحياؤه سبحانه للموتى:

ورد في القرآن الكريم، وفي أكثر من موطن إخباره سبحانه بإحياء الميتين بعد القطع بموتهم؛ ومن ذلك:

1- قصة المقتول من بني إسرائيل الذي أحياه الله تعالى بضربه بجزء من بقرة مذبوحة حتى أخبر بقاتله:

قال الله تعالى: (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (البقرة:73).

والقصة بتمامها في سورة البقرة تبدأ من قول الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (البقرة:67). إلى قولـه: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ ...الآية) (البقرة: من الآية74).

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن عبيدة السلماني قال: «كان رجل من بني إسرائيل عقيمًا لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه، فقتله، ثم احتمله رجلاً فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه عليهم، حتى تسلحوا وركب بعضهم إلى بعض، فقال ذوو الرأي منهم: علام يقتل بعضكم بعضًا وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا موسى فذكروا ذلك له، فقال: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (البقرة: من الآية67)، قال: فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة، ولكنهم شددوا فشدد عليهم، حتى انتهوا إلى البقرة التي أُمروا بذبحها، فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها فقال: والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهبًا، فذبحوها فضربوه ببعضها فقام، فقالوا: من قتلك؟ فقال: هذا لابن أخيه ثم مال ميتًا، فلم يعط من ماله شيئًا ولم يورث قاتل بعد»(2).

2- قصة الألوف من بني إسرائيل الذين خرجوا من أوطانهم فرارًا من الموت فأماتهم اللهم عز وجل ثم أحياهم :

قال الله عز وجل: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (البقرة:243).

أخرج ابن جرير في تفسيره من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) (البقرة: من الآية243) قال: «كانوا أربعة آلاف خرجوا من الطاعون وقالوا: نأتي أرضًا ليس بها موت، حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا قال لهم الله: موتوا. فمر عليهم نبي من الأنبياء فدعا ربه أن يحييهم حتى يعبدوه فأحياهم»(3).

3- قصة الرجل الذي مر على قرية (خربة) فاستبعد أن يحييها الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه :

قال الله عز وجل: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة:259).

يعلق سيد قطب على هذه الآية فيقول: «من هو (الذي مر على قرية)؟ ما هذه القرية التي مر عليها وهي خاوية على عروشها؟ إن القرآن لم يفصح عنهما شيئًا، ولو شاء الله لأفصح، ولو كانت حكمة النص لا تتحقق إلا بهذا الإفصاح ما أهمله في القرآن. فلنقف نحن - على طريقتنا في هذه الظلال - عند تلك الظلال. إن المشهد ليرتسم للحس قويًا واضحًا موحيًا؛ مشهد الموت والبلى والخواء. يرتسم بالوصف: (وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا): محطمة على قواعدها. ويرتسم من خلال مشاعر الرجل الذي مر على القرية؛ هذه المشاعر التي ينضح بها تعبيره: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا)..

إن القائل ليعرف أن الله هناك، ولكن مشهد البلى والخواء، ووقعه العنيف في حسه جعله يحار: كيف يحيي هذه الله بعد موتها؟ وهذا أقصى ما يبلغه مشهد من العنف والعمق في الإيحاء. وهكذا يلقي التعبير القرآني ظلاله وإيحاءاته، فيرسم المشهد كأنما هو اللحظة شاخص تجاه الأبصار والمشاعر.

(أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا).. كيف تدب الحياة في هذا الموات؟

(فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ). لم يقل له كيف، إنما أراه في عالم الواقع كيف! فالمشاعر والتأثرات تكون أحيانًا من العنف والعمق بحيث لا تعالج بالبرهان العقلي، ولا حتى بالمنطق الوجداني، ولا تعالج كذلك بالواقع العام الذي يراه العيان. إنما يكون العلاج بالتجربة الشخصية الذاتية المباشرة، التي يمتلئ بها الحس، ويطمئن بها القلب، دون كلام!

(قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ).. وما يدريه كم لبث والإحساس بالزمن لا يكون إلا مع الحياة والوعي؟ على أن الحس الإنساني ليس هو المقياس الدقيق للحقيقة؛ فهو يخدع ويضل؛ فيرى الزمن الطويل المديد قصيرًا لملابسة طارئة؛ كما يرى اللحظة الصغيرة دهرًا طويلاً لملابسة طارئة كذلك!

(قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ) .. وتبعًا لطبيعـة التجربـة، وكونها تجربـة حسيـة واقعية، نتصور أنه لا بد كانت هنالك آثار محسوسة تصور فعل مائة عام. هذه الآثار المحسوسة لم تكن في طعام الرجل ولا شرابه، فلم يكونا آسنين متعفنين:

(فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ).. وإذن فلا بد أن هذه الآثار المحسوسة كانت متمثلة في شخصه أو في حماره:

(وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً).. أية عظام؟ عظامه هو؟ لو كان الأمر كذلك - كما يقول بعض المفسرين إن عظامه هي التي تعرَّت من اللحم - للفت هذا نظره عندما استيقظ، ووخز حسه كذلك، ولما كانت إجابته: (لبثت يومًا أو بعض يوم).

لذلك نرجح أن الحمار هو الذي تعرَّت عظامه وتفسخت. ثم كانت الآية هي ضم هذه العظام بعضها إلى بعضها، وكسوتها باللحم وردها إلى الحياة، على مرأى من صاحبه الذي لم يمسه البلى، ولم يصب طعامه ولا شرابه التعفن؛ ليكون هذا التباين في المصائر والجميع في مكان واحد، معرضون لمؤثرات جوية وبيئية واحدة، آية أخرى على القدرة التي لا يعجزها شيء، والتي تتصرف مطلقة من كل قيد؛ وليدرك الرجل كيف يحيى هذه الله بعد موتها!

أمَّا كيف وقعت الخارقة؟ فكما تقع كل خارقة! كما وقعت خارقة الحياة الأولى؛ الخارقة التي ننسى كثيرًا أنها وقعت، وأننا لا ندري كيف وقعت ! ولا ندري كذلك كيف جاءت إلا أنها جاءت من عند الله بالطريق الذي أرادها الله ...

ونعود إلى خارقة القرية لنسأل: وما الذي يفسر لنا أن ينال البلى شيئًا ويترك شيئًا في مكان واحد وفي ظروف واحدة؟ إن خارقة خلق الحياة أول مرة، أو خارقة رجعها كذلك لا تفسر هذا الاختلاف في مصائر أشياء ذات ظروف واحدة.

إن الذي يفسر هذه الظاهرة هو طلاقة المشيئة؛ طلاقتها من التقيد بما نحسبه نحن قانونًا كليًا لازمًا ملزمًا لا سبيل إلى مخالفته أو الاستثناء منه! وحسباننا هذا خطأ بالقياس إلى المشيئة المطلقة؛ خطأ منشؤه أننا نفرض تقديراتنا نحن ومقرراتنا العقلية أو «العلمية!» على الله سبحانه! وهو خطأ يتمثل في أخطاء كثيرة:

فأولاً: ما لنا نحن نحاكم القدرة المطلقة إلى قانون نحن قائلوه؟ قانون مستمد من تجاربنا المحدودة الوسائل، ومن تفسيرنا لهذه التجارب ونحن محدودو الإدراك.

وثانياً: فهبه قانونًا من قوانين الكون أدركناه. فمن ذا الذي قال لنا: إنه قانون نهائي كلي مطلق، وأن ليس وراءه قانون سواه.

وثالثًا: هبه كان قانونًا نهائيًا مطلقًا. فالمشيئة الطليقة تنشئ القانون ولكنها ليست مقيدة به؛ إنما هو الاختيار في كل حال.

وكذلك تمضي هذه التجربة، فتضاف إلى رصيد أصحاب الدعوة الجدد، وإلى رصيد التصور الإيماني الصحيح. وتقرر - إلى جانب حقيقة الموت والحياة وردهما إلى الله - حقيقة أخرى هي التي أشرنا إليها قريبًا؛ حقيقة طلاقة المشيئة، التي يعنى القرآن عناية فائقة بتقريرها في ضمائر المؤمنين به، لتتعلق بالله مباشرة، من وراء الأسباب الظاهرة، والمقدمات المنظورة؛ فالله فعال لما يريد، وهكذا قال الرجل الذي مرت به التجربة: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)»(4).

4- قصة إحياء الله تبارك وتعالى للطيور الأربعة التي قطعها إبراهيم صلى الله عليه وسلم وفرق أوصالها :

يقول الله عز وجل: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260).

ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: رب أرني كيف تحيي الموتى؟ قال: أولم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي ...»(5) الحديث.

ومعناه: أنه لو كان إبراهيم شاكًا، لكنا نحن أحق به ونحن لا نشك فإبراهيم أحرى أن لا يشك؛ فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم(6).

وروى البيهقي في شعب الإيمان بسنده إلى الحسن أنه قال في قوله تعالى: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى)، قال: إن كان إبراهيم لموقنا أن الله يحيي الموتى، ولكن لا يكون الخبر كالعيان. إن الله أمره أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن وينتفهن، ثم قطعهن أعضاء أعضاء، ثم خلط بينهن جميعًا، ثم جزأهن أربعة أجزاء، ثم جعل على كل جبل منهن جزءًا، ثم تنحى عنهن فجعل يعدو كل عضو إلى صاحبه حتى استوين كما كن قبل أن يذبحهن، ثم أتينه سعيًا، وأخرج البيهقي عن مجاهد في قوله: (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ). قال: يقول انتف ريشهن ولحومهن ومزقهن تمزيقًا(7).

5- قصة إحياء السبعين من قوم موسى صلى الله عليه وسلم بعد موتهم بالصاعقة:

كما في قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة:55، 56). ولعلهم هم المذكورون في قوله تعالى: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) (الأعراف: من الآية155).

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله: (حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) قال: علانية.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس في قوله: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) قال: هم السبعون الذين اختارهم موسى (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) قال: ماتوا. (ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ): فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم(8).

6- إخراج الموتى وإحياء الجمادات وشفاء الأمراض المستعصية على يد عيسى صلى الله عليه وسلم بإذن الله تعالى:

قال الله عز وجل في معرض امتنانه على نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم: (ذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي) (المائدة: من الآية110).

يقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عن هذه الآية: «هذه المعجزات التي لا يقدر عليها بشر إلا بإذن الله؛ فإذا هو يصور من الطين كهيئة الطير بإذن الله - لا ندري كيف لأننا لا ندري إلى اليوم كيف خلق الله الحياة، وكيف يبث الحياة في الأحياء - وإذا هو يبرئ المولود أعمى بإذن الله، حيث لا يعرف الطب كيف يرد إليه البصر ولكن الله الذي يهب البصر أصلاً قادر على أن يفتح عينيه للنور. ويبرئ الأبرص بإذن الله، لا بدواء، والدواء وسيلة لتحقيق إذن الله في الشفاء، وصاحب الإذن قادر على تغيير الوسيلة، وعلى تحقيق الغاية بلا وسيلة. وإذا هو يحيي الموتى بإذن الله، وواهب الحياة أول مرة قادر على رجعها حين يشاء ...»(9).

الآية الثانية : قصة خلق الله لعيسى صلى الله عليه وسلم من غير أب، وتكلمه بلسان فصيح وهو رضيع في المهد:

قال الله تعالى: (إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران:45-47).

ومثله قوله تعالى: (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً) (مريم:29، 30).

قال ابن جرير الطبري في تفسيره لآيات آل عمران: «يعني بذلك جل ثناؤه: قالت مريم إذ قالت لها الملائكة إن الله يبشرك بكلمة منه: رب أنى يكون لي ولد؟ من أي وجه يكون لي ولد؟ أمن قبل زوج أتزوجه وبعل أنكحه، أو يبتدئ في خلقه من غير بعل ولا محل ومن غير أن يمسسني بشر؟ فقال الله لها: (كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) يعني: هكذا يخلق الله منك ولدًا لك من غير أن يمسك بشر، فيجعله آية للناس وعبرة؛ فإنه يخلق ما يشاء ويصنع ما يريد؛ فيعطي الولد من يشاء من غير فحل، ومن فحل، ويحرم ذلك من يشاء من النساء وإن كانت ذات بعل؛ لأنه لا يتعذر عليه خلق شيء أراد خلقه، إنما هو أن يأمر إذا أراد شيئًا ما أراد فيقول له: كن، فيكون ما شاء مما شاء وكيف شاء»(10).

وقال عند قوله تعالى: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً): «ويكلم الناس طفلاً في المهد دلالة على براءة أمه مما قذفها به المفترون عليها وحجة له على نبوته ...

وقال ابن عباس (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) قال: (مضجع الصبي في رضاعه)»(11).

الآية الثالثة: قصة مجيئ الولد من المرأة العجوز العقيم:

قال الله تعالى: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) (آل عمران:38-40).

ومثل ذلك بشارة الله عز وجل لإبراهيم صلى الله عليه وسلم بمجيء الغلام من زوجه العجوز العقيم.

قال تعالى: (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) (هود:71-73).

وفي آية الذاريات يقول الله عز وجل: «(فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (الذاريات:28-30).

قال الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: (وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) أي: أنى لي الولد وأنا عجوز قد بلغت من السن ما لا تلد معه النساء، ومع ذلك فأنا عقيم غير صالح رحمي للولادة أصلاً؛ فثم مانعان كل منهما مانع من الولد، وقد ذكرت المانع الثالث في سورة هود في قولها: (وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) (هود: من الآية72). (قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ) أي: الله الذي قدَّر ذلك وأمضاه فلا عجب في قدرة الله (إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) أي: الذي وضع الأشياء في مواضعها، وقد وسع كل شيء علمًا فسلموا لحكمه واشكروه على نعمته)(12).

الآية الرابعة: حفظ الله عز وجل لموسى صلى الله عليه وسلم في مهده وهو رضيع في التابوت ثم في البحر ثم في بيت عدوه فرعون:

قال الله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (القصص:7-13).

الآية الخامسة: عصا موسى صلى الله عليه وسلم وما أودع الله عز وجل فيها من الآيات والمعجزات الخارقة:

لقد جعل الله عز وجل في عصا موسى عليه الصلاة والسلام من الآيات والعجائب والمعجزات ما ذكره وقصه علينا سبحانه في كتابه الكريم تدليلاً على نبوة موسى عليه الصلاة والسلام، وإظهارًا لقدرته سبحانه وعظمته وقهره لكل شيء. ومن هذه الآيات والمعجزات:

1- تحول العصا الجامدة بإذن الله تعالى إلى ثعبان مبين:

وقد ذكر الله عز وجل هذه المعجزة في أكثر من موطن في القرآن؛ أذكر أهم موطنين في ذلك:

أولهما: أمام فرعون عندما واجهه موسى عليه الصلاة والسلام ودعاه إلى التوحيد؛ قال الله عز وجل: (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ) (الشعراء:30-33).

ثانيهما: في المباراة مع السحرة؛ حيث يقول الله عز وجل: (قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) (الشعراء:43-48).

يعلق سيد قطب - رحمه الله تعالى - على هاتين الآيتين بقوله: «ومعجزة الحياة التي تدب من حيث لا يعلم البشر تقع في كل لحظة، ولكن الناس لا يلقون لها بالاً لطول الألفة والتكرار، أو لأنهم لا يشهدون التحول على سبيل التحدي؛ فأما في مثل هذا المشهد وموسى عليه السلام يلقي في وجه فرعون بهاتين الخارقتين فالأمر يزلزل ويرهب ...

ثم إذا مشهد المبارة الكبرى وأحداثه الجسام: (قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ)، وفي التعبير ذاته ما يشي بالاستهانة (أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ) بلا مبالاة، ولا تحديد، ولا اهتمام. وحشد السحرة أقصى مهاراتهم، وأعظم كيدهم، وبدأو الجولة باسم فرعون وعزته: (فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ).

ولا يُفَصِّل السياق هنا ما كان من أمر حبالهم وعصيهم كما فصله في سورة الأعراف وطه ليبقى ظل الطمأنينة والثبات للحق، وينتهي مسارعًا إلى عاقبة المباراة بين الحق والباطل؛ لأن هذا هو هدف السورة الأصيل: (فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ)، ووقعت المفاجأة المذهلة التي لم يكن يتوقعها كبار السحرة؛ فلقد بذلوا غاية الجهد في فنهم الذي عاشوا به وأتقنوه، وجاءوا بأقصى ما يملك السحرة أن يضعوه، وهم جمع كثير محشود من كل مكان وموسى وحده وليس معه إلا عصاه. ثم إذا هي تلقف ما يأفكون. واللقف أسرع حركة للأكل. وعهدهم بالسحر أن يكون تخيلاً ولكن هذه العصا تلقف حبالهم وعصيهم حقًا؛ فلا تبقى لها أثرًا. ولو كان ما جاء به موسى سحرًا لبقيت حبالهم وعصيهم بعد أن خيل لهم وللناس أن حية موسى ابتلعتها، ولكنهم ينظرون فلا يجدونها فعلاً. عندئذ لا يملكون أنفسهم من الإذعان للحق الواضح الذي لا يقبل جدلاً، وهم أعرف الناس بأنه الحق (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ).

2- انفلاق البحر لموسى صلى الله عليه وسلم ومن معه بإذن الله تعالى لما ضرب بعصاه البحر:

يقول الله عز وجل: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الشعراء:61-68).

وقد ذكرت هذه المعجزة العظيمة في أكثر من سورة في القرآن الكريم؛ منها ما ورد في سورة البقرة في معرض امتنانه سبحانه على بني إسرائيل بالنعم العظيمة، ومنها قوله تعالى: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (البقرة:50)، وقوله تعالى في سورة طه: (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى) (طـه:77).

ويعلق سيد قطب - رحمه الله تعالى - على حصول هذه المعجزة العظيمة كما وردت في سورة الشعراء فيقول: «ووقعت المعجزة، وتحقق الذي يقول عنه الناس مستحيل؛ لأنهم يقيسون سنة الله على المألوف المكرور، والله الذي خلق السنن قادر على أن يجريها وفق مشيئته عندما يريد.

وقعت المعجزة وانكشف بين فرقي الماء طريق، ووقف الماء على جانبي الطريق كالطود(13) العظيم، واقتحم بنو إسرائيل. ووقف فرعون مع جنوده مبغوتًا مشدوهًا بذلك المشهد الخارق وذلك الحادث العجيب. ولا بد أن يكون قد وقف مبهوتًا فأطال الوقوف وهو يرى موسى وقومه يعبرون الخضم في طريق مكشوف قبل أن يأمر جنوده بالاقتحام وراءهم في ذلك الطريق العجيب. وتم تدبير الله فخرج بنو إسرائيل من الشاطئ الآخر بينما كان فرعون وجنوده بين فرقي الماء أجمعين وقد قربهم لمصيرهم المحتوم.

(وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) ومضت آية في الزمان تتحدث عنها القرون، فهل آمن بها الكثيرون؟ (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) فالآيات الخارقة لا تستتبع الإيمان حتمًا، وإن خضع بها الناس قسرًا. إنما الإيمان هدى في القلوب (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)»(14).

3- تفجر الحجر الصغير عيونًا من الماء بإذن الله تعالى لما ضربه موسى عليه السلام بعصاه:

قال الله تعالى: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (البقرة:60).

وقال عن نفس القصة في سورة الأعراف: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ...) (الأعراف: من الآية160).

يقول الرازي في التفسير الكبير عند آية سورة البقرة: «ما الحكمة في جعل الماء اثنتي عشرة عينًا؟ والجواب: أنه كان في قوم موسى كثرة والكثير إذا اشتدت بهم الحاجة إلى الماء ثم وجدوه فإنه يقع الشجار والتنازع، وربما أفضى ذلك إلى الفتن العظيمة، فأكمل الله تعالى هذه النعمة بأن عيَّن لكل سبط منهم ماء معينًا لا يختلط بغيره. والعادة في الرهط الواحد أن لا يقع بينهم من التنازع مثل ما يقع بين المختلفين.

وهذا الانفجار للماء من الحجر الذي ضربه موسى عليه السلام بعصاه يدل على وجوه من الإعجاز:

أحدها: أن نفس ظهور الماء معجزة.

وثانيها: خروج الماء العظيم من الحجر الصغير.

وثالثها: خروج الماء بقدر حاجتهم.

ورابعها: خروج الماء عند ضرب الحجر بالعصا.

فهذه الوجوه لا يمكن تحصيلها إلا بقدرة تامة نافذة، وعلم نافذ في جميع المعلومات، وحكمة عالية على الدهر والزمان، وما ذاك إلا للحق سبحانه وتعالى»(15).

ثم ذكر في سورة الأعراف الفرق بين قوله: (فَانْفَجَرَتْ) في سورة البقرة، وقوله: (فَانْبَجَسَتْ) في سورة الأعراف فقال: «الانبجاس خروج الماء بقلة، والانفجار خروجه بكثرة، وطريق الجمع: أن الماء ابتدأ بالخروج قليلاً، ثم صار كثيرًا، وهذا الفرق مروي عن أبي عمرو بن العلاء»(16).

الآية السادسة: قصة نتق الجبل وقلعه وتهديد بني إسرائيل أن يقع عليهم من فوقهم:

قال الله تعالى: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأعراف:171).

وهذا الجبل هو المصرح به في قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:63).

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ) قال: «رفعته الملائكة فوق رؤوسهم فقيل لهم (ذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) فكانوا إذا نظروا إلى الجبل قالوا: سمعنا وأطعنا، وإذا نظروا إلى الكتاب قالوا سمعنا وعصينا»(17).

وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «إني لأعلم لم تسجد اليهود على حرف؛ قال الله: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ). قال: لتأخذن أمري أو لأرمينكم به، فسجدوا وهم ينظرون إليه مخافة أن يسقط عليهم، فكانت سجدة رضيها الله تعالى فاتخذوها سنة»(17).

الآية السابعة: تدكدك الجبل وصيرورته ترابًا عندما تجلى الله تبارك وتعالى له:

قال الله تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (الأعراف:143).

أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تخيروني من بين الأنبياء؛ فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق؛ فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور»(18).

وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً). قال حماد(*): «هكذا وأمسك سليمان بطرف إبهامه على أنملة إصبعه اليمنى؛ قال: فساخ الجبل وخر موسى صعقا»(19).

وقال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: «أما قول موسى (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) فإنه حين قال: (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي)، ولا يراني أحد في الدنيا إلا مات (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) يعني: أول المصدقين أنه لا يراك أحد في الدنيا إلا مات»(20).

الآية الثامنة : الآيات البينات التي أرسلت على قوم فرعون رجزًا وعذابًا عليهم:

قال الله تعالى: (وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) (الأعراف:132، 133).

تحدث سيد قطب - رحمه الله تعالى - معلقًا على هذه الآيات فقال عند قوله تعالى: (وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ): «فهو الجموح الذي لا تروضه تذكرة، ولا يرده برهان، ولا يريد أن ينظر ولا أن يتدبر؛ لأنه يعلن الإصرار على التكذيب قبل أن يواجه البرهان - قطعًا للطريق على البرهان! - وهي حالة نفسية تصيب المتجبرين حين يدمغهم الحق، وتجبههم البينة، ويطاردهم الدليل، بينما هواهم ومصلحتهم وملكهم وسلطانهم كله في جانب آخر غير جانب الحق والبينة والدليل!

عندئذ تتدخل القوة الكبرى سافرة بوسائلها الجبارة: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّل...).

للإنذار والابتلاء، آيات مفصلات، واضحة الدلالة، منسقة الخطوات، تتبع الواحدة منها الأخرى، وتصدق اللاحقة منها السابقة.

ولقد جمع السياق هنا تلك الآيات المفصلة التي جاءتهم مفرقة واحدة واحدة، وهم في كل مرة يطلبون إلى موسى تحت ضغط البلية أن يدعو لهم ربه لينقذهم منها؛ ويعدونه أن يرسلوا معه بني إسرائيل إذا أنجاهم منها، وإذا رفع عنهم هذا «الرجز»، أي العذاب الذي لا قبل لهم بدفعه؛ (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائيلَ) (الأعراف:134).

وفي كل مرة ينقضون عهدهم، ويعودون إلى ما كانوا فيه قبل رفع العذاب عنهم وفق قدر الله في تأجيلهم إلى أجلهم المقدور لهم: (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ) (الأعراف:135).

جمع السياق الآيات كلها، كأنما جاءتهم مرة واحدة، وكأنما وقع النكث منهم مرة واحدة؛ ذلك أن التجارب كلها كانت واحدة، وكانت نهايتها واحدة كذلك. وهي طريقة من طرق العرض القرآني للقصص يجمع فيها البدايات لتماثلها، ويجمع فيه النهايات لتماثلها كذلك؛ ذلك أن القلب المغلق المطموس يتلقى التجارب المنوعة وكأنها واحدة؛ لا يفيد منها شيئًا، ولا يجد فيها عبرة ..

فأما كيف وقعت هذه الآيات، فليس لنا وراء النص القرآني شيء، ولم نجد في الأحاديث المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها شيئًا، ونحن على طريقتنا في هذه «الظلال» نقف عند حدود النص القرآني في مثل هذه المواضع؛ لا سبيل لنا إلى شيء منها إلا من طريق الكتاب أو السنة الصحيحة. وذلك تحرزًا من الإسرائيليات والأقوال والروايات التي لا أصل لها؛ والتي تسربت - مع الأسف - إلى التفاسير القديمة كلها، حتى ما ينجو منها تفسير واحد من هذه التفاسير، وحتى إن تفسير الإمام ابن جرير الطبري - على نفاسة قيمته - وتفسير ابن كثير كذلك - على عظيم قدره - لم ينجوا من هذه الظاهرة الخطيرة.

وقد وردت روايات شتى في شأن هذه الآيات عن ابن عباس، وعن سعيد بن جبير، وعن قتادة، وعن ابن إسحاق؛ رواها أبو جعفر ابن جرير الطبري في تاريخه وفي تفسيره.وهذه واحدة منها:

«حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن المغيرة، عن سعيد بن جبير قال: لما أتى موسى فرعون قال له: أرسل معي بني إسرائيل، فأبى عليه، فأرسل الله عليهم الطوفان - وهو المطر - فصب عليهم منه شيئًا، فخافوا أن يكون عذابًا، فقالوا لموسى: ادع لنا ربك أن يكشف عنا المطر فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل! فدعا ربه، فلم يؤمنوا، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل؛ فأنبت لهم في تلك السنة شيئًا لم ينبته قبل ذلك من الزرع والثمر والكلأ. فقالوا: هذا ما كنا نتمنى! فأرسل الله عليهم الجراد فسلطه على الكلأ. فلما رأوا أثره في الكلأ عرفوا أنه لا يبقي الزرع، فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك فيكشف عنا الجراد فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل! فدعا ربه، فكشف عنهم الجراد، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل! فداسوا وأحرزوا في البيوت، فقالوا: قد أحرزنا! فأرسل الله عليهم القمل - وهو السوس الذي يخرج منه - فكان الرجل يخرج الذي يخرج منه - فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها ثلاثة أقفزة(21). فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا القمل، فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل! فدعا ربه فكشف عنهم، فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل. فبينا هو جالس عند فرعون، إذ سمع نقيق ضفدع، فقال لفرعون: ما تلقى أنت وقومك من هذا! فقال: وما عسى أن يكون كيد هذا؟ فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع، ويهم أن يتكلم فتثب الضفادع في فيه. فقالوا لموسى: ادع لنا ربك يكشف عنا هذه الضفادع، فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل! فكشف عنهم فلم يؤمنوا. فأرسل الله عليهم الدم، فكانوا ما استقوا من الأنهار والآبار، أو ما كان في أوعيتهم، وجدوه دمًا عبيطًا. فشكوا إلى فرعون فقالوا: إنا قد ابتلينا بالدم، وليس لنا شراب! فقال: إنه قد سحركم! فقالوا: من أين سحرنا، ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئًا من الماء إلا وجدناه دمًا عبيطًا؟ فأتوه فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم، فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه، فكشف عنهم، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل».

والله أعلم أي ذلك كان والصورة التي جاءت بها هذه الآيات لا يؤثر اختلافها في طبيعة هذه الآيات؛ فالله - سبحانه - أرسلها بقدره، في وقت معين، ابتلاء لقوم معينين؛ وفق سنته في أخذ المكذبين بالضراء لعلهم يتضرعون.

ولقد كان قوم فرعون على وثنيتهم وجاهليتهم، وعلى استخفاف فرعون بهم لفسقهم، يلجأون إلى موسى - عليه السلام - ليدعو ربه بما عهد عنده، ليكشف عنهم البلاء. وإن كانت السلطات الحاكمة عليهم بعد ذلك تنكث ولا تستجيب؛ لأنها تقوم على ربوبية فرعون للبشر، وتفزع من ربوبية الله لهم؛ إذ إن ذلك معناه هدم نظام الحكم الذي يقوم على حاكمية فرعون لا حاكمية الله يسلط الآفات على زروعهم، فلا يريدون أن يرجعوا إلى الله البتة! وإذا أحس أصحاب الزروع من الفلاحين بيد الله في هذه الافات - وهو الشعور الفطري حتى في النفوس الكافرة في ساعات الخطر والشدة! - واتجهوا إلى الله بالدعاء أن يكشف عنهم البلاء، قال لهم أصحاب «العلمية!» الكاذبة: هذا الاتجاه خرافة «غيبية!» وتندروا عليهم وسخروا منهم! ليردوهم إلى كفر أشد وأشنع من كفر الوثنيين!»(22).

الآية التاسعة: قصة الناقة التي جعلها الله عز وجل آية مبصرة لثمود:

قال الله تعالى: (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) (الإسراء: من الآية59).

وقال تعالى: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (الأعراف:73).

روى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: «لا تسألوا الآيات وقد سألها قوم صالح، فكانت ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها، فكانت تشرب ماءهم يومًا ويشربون لبنها يومًا، فعقروها، فأخذتهم صيحة أهمد الله عز وجل من تحت أديم السماء منهم إلا رجلاً واحدًا كان في حرم الله عز وجل» قيل: من هو يا رسول الله قال: «هو أبو رغال؛ فلما خرج من الحرم أصابه ما أصابهم»(23).

ويعلق سيد قطب - رحمه الله تعالى - على آية الأعراف عند قوله تعالى: (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً) فيقول:

«والسياق هنا - لأنه يستهدف الاستعراض السريع للدعوة الواحدة ولعاقبة الإيمان بها وعاقبة التكذيب - لا يذكر تفصيل طلبهم للخارقة، بل يعلن وجودها عقب الدعوة، وكذلك لا يذكر تفصيلاً عن الناقة أكثر من أنها بيِّنة من ربهم، وأنها ناقة الله وفيها آية منه، ومن هذا الإسناد نستلهم أنها كانت ناقة غير عادية، أو أنها أخرجت لهم إخراجًا غير عادي؛ مما يجعلها بيِّنة من ربهم، ومما يجعل نسبتها إلى الله ذات معنى، ويجعلها آية على صدق نبوته.ولا نزيد على هذا شيئًا مما لا يرد ذكره من أمرها في هذا المصدر المستيقن، وفيما جاء في هذه الإشارة كفاية عن كل تفصيل آخر»(24).

الآية العاشرة : جعل النار المحرقة بردًا وسلامًا على إبراهيم صلى الله عليه وسلم:

قال الله تعالى: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) (الأنبياء:68-70) .

عن ابن عباس رضي الله عنه قال في قوله تعالى: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران: من الآية173): «قالها إبراهيم حين أُلقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ)»(25).

وعن سائبة - مولاة للفاكه بن المغيرة - أنها دخلت على عائشة رضي الله عنها فرأت في بيتها رمحًا موضوعًا فقالت: يا أم المؤمنين، ما تصنعين بهذا الرمح؟ قالت: نقتل به الأوزاغ؛ فإن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن إبراهيم عليه السلام حين أُلقي في النار لم تكن دابة إلا تطفئ النار غير الوزغ فإنه كان ينفخ عليه، فأمر عليه الصلاة والسلام بقتله»(26).

ويعلق سيد قطب - رحمه الله تعالى - على هذه الآية العظيمة (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ) فيقول: «فكانت بردًا وسلامًا على إبراهيم .. كيف؟

ولماذا نسأل عن هذه وحدها، و(كُونِي) هذه هي الكلمة التي تكون بها أكوان،وتنشأ بها عوالم، وتخلق بها نواميس؛ إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن، فيكون.

فلا نسأل: كيف لم تحرق النار إبراهيم، والمشهود المعروف أن النار تحرق الأجسام الحية؟ فالذي قال للنار: كوني حارقة هو الذي قال لها: كوني بردًا وسلامًا. وهي الكلمة الواحدة التي تنشئ مدلولها عند قولها كيفما كان هذا المدلول؛ مألوفًا للبشر أو غير مألوف.

إن الذين يقيسون أعمال الله سبحانه إلى أعمال البشر هم الذين يسألون: كيف كان هذا؟ وكيف أمكن أن يكون؟ فأما الذين يدركون اختلاف الطبيعتين، واختلاف الأداتين، فإنهم لا يسألون أصلاً، ولا يحاولون أن يخلقوا تعليلاً علميًا أو غير علمي؛ فالمسألة ليست في هذا الميدان أصلاً. ليست في ميدان التعليل والتحليل بموازين البشر ومقاييس البشر. وكل منهج في تصور مثل هذه المعجزات غير منهج الإحالة إلى القدرة المطلقة هو منهج فاسد من أساسه؛ لأن أعمال الله غير خاضعة لمقاييس البشر وعلمهم القليل المحدود.

إن علينا فقط أن نؤمن بأن هذا قد كان، لأن صانعه يملك أن يكون. أما كيف صنع بالنار فإذا هي برد وسلام؟ وكيف صنع بإبراهيم فلا تحرقه النار؟ فذلك ما سكت عنه النص القرآني لأنه لا سبيل إلى إدراكه بعقل البشر المحدود. وليس لنا سوى النص القرآني من دليل»(27).

الآية الحادية عشرة: تسخير الطير والجبال لداود عليه السلام يسبحن معه وإلانة الحديد له:

قال الله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) (سبأ:10).

يقول الطبري - رحمه الله تعالى - في تفسيره: «يقول الله تعالى ذكره: ولقد أعطينا داود منا فضلا، وقلنا للجبال (أَوِّبِي مَعَهُ): سبحي معه إذا سبح. والتأويب عند العرب: الرجوع ... (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) ذكر أن الحديد كان في يده كالطين المبلول يصرفه في يده كيف يشاء بغير إدخال نار ولا ضرب بحديد»(28).

وذكر الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسيره: «أن ذلك كان من خصائص داود عليه السلام التي لم تكن لأحد قبله ولا بعده، وأن ذلك يكون منهضًا له ولغيره على التسبيح؛ إذا رؤا الجمادات والحيوانات تتجاوب بتسبيح ربها، وتمجيده، وتكبيره، وتحميده كان ذلك مما يهيج على ذكر الله تعالى. ومنها أن ذلك كما قال كثير من العلماء أن طرب لصوت داود؛ فإن الله تعالى قد أعطاه من حسن الصوت ما فاق به غيره، وكان إذا رجع التسبيح والتهليل والتمجيد بذلك الصوت الرخيم الشجي المطرب طرب كل من سمعه من الإنس والجن حتى الطيور والجبال وسبحت بحمد ربها»(29).

وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت أبي موسى الأشعري رضي الله عنه يقرأ في الليل، فوقف فاستمع لقراءته. ثم قال صلى الله عليه وسلم: «لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود»(30).

الآية الثانية عشرة: تسخير الله عز وجل الريح والجن لسليمان صلى الله عليه وسلم وإسالة النحاس له:

قال الله تعالى: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ) (سبأ:12).

أخرج أحمد في الزهد عن الحسن رضي الله عنه في قوله: (غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ) قال: «كان سليمان عليه السلام يغزو من بيت المقدس فيقيل باصطخر، ثم يروح من اصطخر فيقيل بقلعة خراسان»(31).

ويقول السعدي - رحمه الله تعالى - عند تفسير هذه الآية: «لما ذكر فضله على داود عليه السلام، ذكر فضله على ابنه سليمان عليه الصلاة والسلام، وأن الله سخر له الريح تجري بأمره، وتحمله، وتحمل جميع ما معه، وتقطع المسافة البعيدة جدًا، في مدة يسيرة، فتسير في اليوم مسيرة شهرين.

(غُدُوُّهَا شَهْرٌ) أي: أول النهار إلى الزوال، (وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ) من الزوال إلى آخر النهار، (وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) أي: سخرنا له عين النحاس، وسهلنا له الأسباب في استخراج ما يستخرج منها من الأواني وغيرها. وسخر الله له أيضاً الشياطين والجن؛ لا يقدرون أن يستعصوا عن أمره. (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ). وأعمالهم: كل ما شاء سليمان عملوه»(32).

ولصاحب التحرير والتنوير رأي في تسخير الريح لسليمان عليه السلام؛ وذلك في قوله: «ومعنى تسخيره الريح: خلق ريح تلائم سيرَ سفائنه للغزو أو التجارة، فجعل الله لمراسيه في شطوط فلسطين رياحًا موسمية تهبّ شهرًا مشرّقة لتذهب في ذلك الموسم سفنه، وتهبّ شهرًا مغرّبة لترجع سفنه إلى شواطئ فلسطين كما قال تعالى: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا) (الأنبياء: من الآية81) في سورة الأنبياء»(33). وفي هذا بعد وتكلف والله أعلم.

ولم يأت دليل صحيح يفسر غدو الريح ورواحها إلا بعض الإسرائيليات. وعلى أية حال فإنها تبقى معجزة على أي وجه فسرت؛ حيث سخرت لسليمان عليه السلام، ولم تسخر لغيره. وكذلك إسالة عين النحاس له، وتسخير الجن المردة لخدمته. وهذا كله بإذن الله عز وجل وقدرته العظيمة.

الآية الثالثة عشرة: تعليم الله سبحانه سليمان عليه السلام منطق الطير:

قال الله تعالى: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (النمل:16).

يقول الشيخ السعدي في تفسيره: «فكان عليه الصلاة والسلام يفقه ما تقول الطير وتتكلم به؛ كما راجع الهدهد وراجعه، وكما فهم قول النملة للنمل كما يأتي. وهذا لم يكن لأحد غير سليمان عليه السلام»(34).

ويعلق سيد قطب - رحمه الله تعالى - على هذه الخارقة بقوله: «... فما يملك تعليم منطق الطير للبشر إلا الله. وكذلك لا يؤتي أحدًا من كل شيء - بهذا التعميم - إلا الله.

وللطيور والحيوان والحشرات وسائل للتفاهم - هي لغاتها ومنطقها - فيما بينها. والله سبحانه خالق هذه العوالم يقول: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) (الأنعام: من الآية38)، ولا تكون أممًا حتى تكون لها روابط معينة تحيا بها، ووسائل معينة للتفاهم فيما بينها. وذلك ملحوظ في حياة أنواع كثيرة من الطيور والحيوان والحشرات. ويجتهد علماء هذه الأنواع في إدراك شيء من لغاتها، ووسائل التفاهم بينهم عن طريق الحدس والظن، لا عن الجزم واليقين. فأما ما وهبه الله لسليمان - عليه السلام - فكان شأنًا خاصًا به على طريق الخارقة التي تخالف مألوف البشر، لا على طريق المحاولة منه والاجتهاد لتفهم وسائل الطير وغيره في التفاهم، على طريق الظن والحدس، كما هو حال العلماء اليوم ...

أحب أن يتأكد هذا المعنى ويتضح لأن بعض المفسرين المحدثين ممن تبهرهم انتصارات العلم الحديث يحاولون تفسير ما قصه القرآن عن سليمان - عليه السلام - في هذا الشأن بأنه نوع من إدراك لغات الطير والحيوان والحشرات على طريقة المحاولات العلمية الحديثة. وهذا إخراج للخارقة عن طبيعتها، وأثر من آثار الهزيمة والانبهار بالعلم البشري القليل! وإنه لأيسر شيء وأهون شيء على الله أن يعلم عبدًا من عباده لغات الطير والحيوان والحشرات، هبة لدنية منه، بلا محاولة ولا اجتهاد، وإن هي إلا إزاحة لحواجز النوع التي أقامها الله بين الأنواع. وهو خالق هذه الأنواع!

على أن هذا كله لم يكن إلا شقًا واحدًا للخارقة التي أتاحها الله لعبده سليمان. أما الشق الآخر فكان تسخير طائفة من الجن والطير لتكون تحت إمرته، وطوع أمره، كجنود من الإنس سواء بسواء. والطائفة التي سخرها له من الطير وهبها إدراكًا خاصًا أعلى من إدراك نظائرها في أمة الطير.

يبدو ذلك في قصة الهدهد الذي أدرك من أحوال ملكة سبأ وقومها ما يدركه أعقل الناس وأذكاهم وأتقاهم. وكان ذلك كذلك على طريق الخارقة والإعجاز.

حقيقة إن سنة الله في الخلق جرت على أن يكون للطير إدراك خاص يتفاوت فيما بينه، ولكنه لا يصل إلى مستوى إدراك الإنسان؛ وإن خلقة الطير على هذا النحو حلقة في سلسلة التناسق الكوني العام. وإنها خاضعة - كحلقة مفردة - للناموس العام الذي يقتضي وجودها على النحو الذي وجدت به.

وحقيقة إن الهدهد الذي يولد اليوم هو نسخة من الهدهد الذي وجد منذ ألوف أو ملايين من السنين، منذ أن وجدت الهداهد، وإن هناك عوامل وراثة خاصة تجعل منه نسخة تكاد تكون طبق الأصل من الهدهد الأول. ومهما بلغ التحوير فيه، فهو لا يخرج من نوعه، ليرتقي إلى نوع آخر. وإن هذا - كما يبدو - طرف من سنة الله في الخلق، ومن الناموس العام المنسق للكون.

ولكن هاتين الحقيقتين الثابتتين لا تمنعان أن تقع الخارقة عندما يريدها الله خالق السنن والنواميس. وقد تكون الخارقة ذاتها جزءًا من الناموس العام الذي لا نعرف أطرافه؛ جزءًا يظهر في موعده الذي لا يعلمه إلا الله، يخرق المألوف المعهود للبشر، ويكمل ناموس الله في الخلق والتناسق العام. وهكذا وجد هدهد سليمان، وربما كل الطائفة من الطير التي سخرت له في ذلك الزمان»(35).

الآية الرابعة عشرة: إحضار عرش ملكة سبأ من اليمن إلى فلسطين في طرفة العين:

قال الله تعالى: (قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل:38-40).

يقول الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «( الَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ) والعفريت هو: القوي النشيط جدًا. (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) والظاهر أن سليمان إذ ذاك في الشام، فيكون بينه وبين سبأ نحو مسيرة أربعة أشهر؛ شهران ذهابًا، وشهران إيابًا. ومع ذلك يقول هذا العفريت: أنا ألتزم بالمجيء به، على كِبَره وثقله وبُعْدِه، قبل أن تقوم من مجلسك الذي أنت فيه. والمعتاد من المجالس الطويلة أن تكون معظم الضحى، نحو ثلث يوم؛ هذا نهاية المعتاد. وقد يكون دون الثلث، أو أكثر...

وأبلغ من ذلك أن: (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ). قال المفسرون: هو رجل عالم صالح عند سليمان يقال له «آصف بن برخيا»، كان يعرف اسم الله الأعظم الذي إذا دعا به أجاب، وإذا سأل به أعطى(36).

(أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) بأن يدعو الله بذلك الاسم، فيحضر، وأنه دعا الله فحضر.

فالله أعلم، هل هذا هو المراد، أم أن عنده علمًا من الكتاب، يقتدر به على البعيد، وتحصيل الشديد؟

(فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ) حمد الله تعالى على إقداره وملكه، وتيسير الأمور له، و(قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) أي: ليختبرني بذلك. فلم يغتر عليه السلام بملكه وسلطانه وقدرته، كما هو دأب الملوك الجاهلين؛ بل علم أن ذلك اختبار من ربه، فخاف أن لا يقوم بشكر هذه النعمة.

ثم بيَّن أن هذا الشكر لا ينتفع الله به، وإنما يرجع نفعه إلى صاحبه، فقال: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)؛ غني عن أعماله، كريم كثير الخير، يعم به الشاكر والكافر. إلا أن شكر نعمه داع للمزيد منها، وكفرها داع لزوالها»(37).

الآية الخامسة عشرة: نومة أهل الكهف:

قال الله تعالى: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً) (الكهف:9-12).

يقول الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «أي: لا تظن أن قصة أصحاب الكهف، وما جرى لهم، غريبة على آيات الله، وبديعة في حكمته، وأنه لا نظير لها، ولا مجانس لها. بل لله تعالى من الآيات العجيبة الغريبة ما هو كثير، من جنس آياته في أصحاب الكهف، وأعظم منها. فلم يزل الله يُري عباده من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم ما يتبين به الحق من الباطل والهدى من الضلال. وليس المراد بهذا النفي عن أن تكون قصة أصحاب الكهف من العجائب، بل هي من آيات الله العجيبة. وإنما المراد أن جنسها كثير جدًا؛ فالوقوف معها وحدها في مقام العجب الاستغراب نقص في العلم والعقل. بل وظيفة المؤمن التفكر بجميع آيات الله التي دعا الله العباد إلى التفكير فيها؛ فإنها مفتاح الإيمان، وطريق العلم والإتقان. وإضافتهم إلى الكهف، الذي هو الغار في الجبل، والرقيم: أي: الكتاب الذي قد رقمت فيه أسماؤهم وقصتهم، لملازمتهم له دهرًا طويلاً. ثم ذكر قصتهم مجملة، وفصلها بعد ذلك»(38).

ويؤيد هذا المعنى أيضًا الشيخ الشنقيطي في تفسيره حيث يقول: «وأظهر الأقوال في معنى الآية الكريمة: أن الله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: إن قصة أصحاب الكهف، وإن استعظمها الناس وعجبوا منها، فليست شيئًا عجبًا بالنسبة إلى قدرتنا وعظيم صنعنا؛ فإن خلقنا السموات والأرض، وجعلنا ما على الأرض زينة لها، وجعلنا إياها بعد ذلك صعيدًا جرزًا أعظم وأعجب مما فعلنا بأصحاب الكهف، من كوننا أنمناهم هذا الزمن الطويل، ثم بعثناهم»(39).

الآية السادسة عشرة: الرزق الذي آتاه الله عز وجل مريم رضي الله عنها بغير حساب:

قال الله تعالى: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران: من الآية37).

روى ابن جرير بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً) قال: «وجد عندها ثمار الجنة؛ فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف»(40).

الآية السابعة عشرة: كون يعقوب عليه السلام يجد ريح يوسف عليه السلام من مسافة بعيدة جدًا ويعود إليه بصره:

قال الله تعالى: (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (يوسف:94-96).

روى ابن جرير بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «لما خرجت العير هاجت ريح فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف، فقال: (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ) قال: فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام»(41).

الآية الثامنة عشرة: مسخ الذين اعتدوا في السبت من اليهود قردة خاسئين:

قال الله تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) (البقرة:65).

عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «مسخهم الله قردة بمعصيتهم، ولم يعش مسيخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب ولم تنسل»، وقال الحسن: «انقطع ذلك النسل»، وقال ابن عباس رضي الله عنه: «صار شباب القوم قردة، والمشيخة صاروا خنازير»(42).

ويعلق الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - على قصة أصحاب السبت فيقول: «إن الله تعالى أخبر عن أهل السبت من اليهود بمسخهم قردة لمَّا احتالوا على إباحة ما حرَّمه الله تعالى من الصيد بأن نصبوا الشباك يوم الجمعة، فلما وقع فيها الصيد أخذوه يوم الأحد؛ قال بعض الأئمة: ففي هذا زجر عظيم لمن يتعاطى الحيل على المناهي الشرعية ممن يتلبس بعلم الفقه وهو غير فقيه؛ إذا الفقيه هو من يخشى الله تعالى بحفظ حدوده، وتعظيم حرماته، والوقوف عندها، ليس المتحيل على إباحة محارمه، وإسقاط فرائضه، ومعلوم أنهم لم يستحلوا ذلك تكذيبًا لموسى عليه السلام، وكفرًا بالتوراة، وإنما هو استحلال تأويل واحتيال، ظاهره ظاهر الاتقاء وباطنه باطن الاعتداء، ولهذا والله أعلم مُسخوا قردة لأن صورة القرد فيها شبه من صورة الإنسان، وفي بعض ما يذكر من أوصافه شبه منه، وهو مخالف له في الحد والحقيقة، فلما مسخ أولئك المعتدون دين الله تعالى بحيث لم يتمسكوا إلا بما يشبه الدين في بعض ظاهره دون حقيقته مسخهم الله تعالى قردة؛ يشبهونهم في بعض ظواهرهم دون الحقيقة جزاء وفاقًا»(43).

الآية التاسعة عشرة: إنجاء الله عز وجل لرسله وأتباعهم، وإهلاك أعدائهم المكذبين بعذاب من عنده:

قص الله عز وجل علينا في كتابه الكريم أخبار أنبيائه ورسله مع أقوامهم، وكيف انتهت الحال إلى نجاة الرسل والمؤمنين معهم، وهلاك الكافرين المكذبين؛ فقال تعالى: (فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (العنكبوت:40).

ولما قص الله عز وجل علينا بعض هذه القصص في سورة الشعراء كان يختم كل قصة بقوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الشعراء:8، 9) أي أن في إنجاء الله عز وجل لأوليائه وإهلاكه لأعدائه آية عظيمة لمن تدبرها؛ فبعزته سبحانه أهلك الكافرين وبرحمته أنجى المؤمنين.

وقد تنوع عذاب الله عز وجل وعقابه للمكذبين الكافرين؛ فمنهم من أهلكه بالطوفان والغرق كقوم نوح وفرعون وقومه، ومنهم من أهلكه بريح عاتية كقوم هود، ومنهم من أخذته الصيحة والصاعقة فقطعت قلوبهم كقوم صالح، ومنهم من أرسل الله عليهم حاصبًا وحجارة من سجيل وخسف كقوم لوط،ومنهم من أهلكته الرجفة كقوم شعيب.

وكون هذه الألوان من العذاب آيات تأتَّى من أنها بأمر لله عز وجل القادر على كل شيء، والذي له جنود السماوات والأرض ولا يستعصي عليه شيء؛ كذلك هي آيات وخوارق لأنها تأتي في الوقت الذي حدَّده الله عز وجل، وأخبر به رسول كل قوم ليخرج هو ومن آمن معه قبل حلول العذاب؛ فمن الذي أعلمه بوقت حلول العذاب لولا إعلام الله عز وجل له.

قال تعالى عن نبيه صالح صلى الله عليه وسلم بعد أن عقر قومه الناقة: (فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) (هود:65).

وقال عن نبيه نوح صلى الله عليه وسلم: (فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ... الآية) (المؤمنون: من الآية27).

وقال لنبيه لوط صلى الله عليه وسلم: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) (هود: من الآية81).

فلو قال قائل من الطبائعيين الملاحدة أن ما حصل من هذه الكوارث إن هي إلا ظواهر كونية طبيعية كالأعاصير والبراكين والانهيارات الأرضية والزلازل .. إلخ، نقول له: وكيف علم الأنبياء وأتباعهم بوقت حدوث هذه البراكين والزلازل حتى يخرجوا من الأماكن التي حصلت فيها وينجوا من الهلاك قبل وقوعه؟. والجواب: أن الله عز وجل الذي لا يعلم جنوده إلا هو هو الذي أعلمهم بالوقت المحدد للعذاب وأمرهم بالخروج من مكانه قبل نزوله.

ونقول لهؤلاء الماديين: إن العلم الحديث بكل أجهزته وتقنياته ومراصده لا يستطيع أن يعلم متى تحدث الزلازل والبراكين والانهيارات، وإنما تبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون. ولو قال إنه يمكن أن يعلموا بآلات الرصد بعض التوقعات للرياح أو الأمطار أو الأعاصير، فنقول لهم: وأين هذه الأجهزة لأنبياء الله تعالى حتى يعلموا بها قرب العذاب فيخرجوا؛ إنه لا علم لهم إلا من الله العزيز الرحيم الذي لا ملجأ منه إلا إليه، ولا عاصم من أمره إلا من رحم.

 

الآية العشرون : إهلاك أصحاب الفيل بحجارة من سجيل :

قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) (الفيل:5).

ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: «إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فليبلغ الشاهد الغائب»(44).

وجاء في قصة صلح الحديبية الطويل: «... حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حَلْ حَل(45).. فألحت». فقالوا: خلأت القصواء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل .. الحديث»(46).

وأخرج ابن المنذر، والحاكم وصححه، أبو نعيم، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «أقبل أصحاب الفيل حتى إذا دنوا من مكة استقبلهم عبد المطلب فقال لملكهم: ما جاء بك إلينا؟ ألا بعثت فنأتيك بكل شيء أردت؟ فقال: أخبرت بهذا البيت الذي لا يدخله أحد إلا أمن، فجئت أخيف أهله، فقال: إنا نأتيك بكل شيء تريد فارجع، فأبى أن يرجع إلا أن يدخله، وانطلق يسير نحوه، وتخلَّف عبد المطلب، فقام على جبل فقال: لا أشهد مهلك هذا البيت وأهله. ثم قال: اللهم إن لكل إله حلالاً فامنع حلالك، لا يغلبن محالهم أبدًا محالك، اللهم فإن فعلت فأمر ما بدا لك. فأقبلت مثل السحابة من نحو البحر حتى أظلتهم طيرًا أبابيل التي قال الله ترميهم بحجارة من سجيل، فجعل الفيل يعج عجًا، فجعلهم كعصف مأكول»(47).

وقال الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى - في مقدمة تفسير سورة الفيل: «هذه من النعم التي امتن الله بها على قريش، فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل، الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة ومحو أثرها من الوجود، فأبادهم الله، وأرغم آنافهم، وخيب سعيهم، وأضل عملهم، ورَدّهم بشر خيبة. وكانوا قومًا نصارى، وكان دينهم إذ ذاك أقرب حالاً مما كان عليه قريش من عبادة الأوثان. ولكن كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه في ذلك العام ولد على أشهر الأقوال، ولسان حال القدر يقول: لم ننصركم يا معشر قريش على الحبشة لخيريتكم عليهم، ولكن صيانة للبيت العتيق الذي سنُشرِّفه ونعظمه ونوقره ببعثة النبي الأمي محمد صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء»(48).

الآية الحادية والعشرون: بعض الخوارق والمعجزات التي ظهرت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كرامة وتأييدًا له ولأصحابه ودلائل على نبوته صلى الله عليه وسلم:

ومن ذلك:

1- معجزة القرآن الكريم:

وهو المعجزة الخالدة الكبرى للنبي صلى الله عليه وسلم؛ قال الله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء:82).

وقال تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الإسراء:88).

وقال تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (يونس:38).

ولا عجب أن يكون القرآن المعجزة الخالدة للرسول صلى الله عليه وسلم؛ ذلك لأنه كلام الله عز وجل العليم الحكيم عالم الغيب والشهادة. فهو معجز في لفظه، وفي معناه، وكماله وشموله، وخيره ونوره،ولا يستطيع مخلوق أن يأتي بمثله ولا بسورة واحدة مثله.

وهو معجز كذلك لما فيه من ذكر الغيوب الماضية والمستقبلة، والتي لا يعلمها إلا الله عز وجل؛ فما يدري محمد صلى الله عليه وسلم بقصص الأنبياء مع أقوامهم بالتفصيل الذي ورد في كتاب الله عز وجل، كما في قصة نوح وهود وصالح وإبراهيم ويوسف وموسى وعيسى وبقية أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام؟.

وما علم النبي صلى الله عليه وسلم بما يجد للناس في المستقبل وما هو مغيب في اليوم الآخر؟ إنه لا علم له صلى الله عليه وسلم لولا أن الله عز وجل أوحى إليه هذا القرآن الذي فيه خبر من قبلنا ونبأ من بعدنا، وفيه من المصالح والخير والهدى والنور ما لا يقدر على الإتيان به إلا الله عز وجل؛ قال الله تعالى: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (هود:49). وقال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ.. الآية) (الإسراء: من الآية9).

2- آية الإسراء والمعراج:

قال الله عز وجل: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء:1).

وقال سبحانه عن عروجه صلى الله عليه وسلم إلى السماء: (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (لنجم:12-18).

فآية سورة الإسراء فيها ذكر مسراه صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في ليلة واحده. وآيات سورة النجم فيها ذكر عروجه صلى الله عليه وسلم إلى السماء ورؤيته من آيات الله الكبرى.

وقد جاء عند الإمام مسلم وغيره ذكر خبر الإسراء والمعراج بطوله؛ حيث قال رحمه الله تعالى: حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أُتيتُ بالبُراق - وهو دابةٌ أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه - قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس. قال: فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء. قال: ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين. ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن. فقال جبريل صلى الله عليه وسلم: اخترت الفطرة. ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بُعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. فَفُتح لنا، فإذا أنا بآدم، فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل عليه السلام. فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بُعث إليه؟ قال: قد بُعث إليه. ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا صلوات الله عليهما. فرحبا ودعوا لي بخير. ثم عرج بي إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل. فقيل: من أنت؟ قال:جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم. قيل: وقد بُعث إليه؟ قال: قد بُعث إليه. ففتح لنا فإذا أن بيوسف صلى الله عليه وسلم؛ إذا هو قد أُعطي شطر الحُسن، فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة. فاستفتح جبريل عليه السلام. قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قال:وقد بُعث إليه؟ قال: قد بُعث إليه. ففتح لنا فإذا أنا بإدريس. فرحب ودعا لي بخير؛ قال الله عز وجل: (وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً) (مريم:57). ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة. فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل وقد بُعث إليه؟ قال: قد بُعث إليه. ففتح لنا فإذا أنا بهارون صلى الله عليه وسلم. فرحب ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء السادسة. فاستفتح جبريل عليه السلام. قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بُعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا فإذا أنا بموسى صلى الله عليه وسلم. فرحب ودعا لي بخير. ثم عرج بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل. فقيل: من هذا. قال: جبريل. قيل: ومن معك؟. قال: محمد صلى الله عليه وسلم. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم صلى الله عليه وسلم، مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه. ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال. قال: فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت. فما أحدٌ من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها. فأوحى الله إليَّ ما أوحى، ففرض عليَّ خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فنزلت إلى موسى صلى الله عليه وسلم فقال: ما فرض ربُك على أُمتك؟ قلت: خمسين صلاة. قال: ارجع إلى ربِّك فاسألهُ التخفيف؛ فإن أمتك لا يُطيقون ذلك، فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتُهُم. قال: فرجعت إلى ربي فقلت: يا رَبِّ! خفف على أُمتي. فحَطَّ عني خمسًا. فرجعت إلى موسى فقلتُ: حط عني خمسًا. قال: إن أمتك لا يُطيقون ذلك فارجع إلى ربك فاسألهُ التخفيف. قال: فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى عليه السلام حتى قال: يا محمد! إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة؛ لكل صلاة عشرٌ فذلك خمسون صلاة. ومن هم بحسنةٍ فلم يعملها كُتبت له حسنة، فإن عملها كُتبت له عشرًا. ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تُكتب شيئًا. فإن عملها كُتبت سيئة واحدة. قال: فنزلتُ حتى انتهيتُ إلى موسى صلى الله عليه وسلم فأخبرته. فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقلتُ: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه»(49).

3- آية انشقاق القمر :

قال الله عز وجل: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) (القمر:1، 2).

روى البخاري في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين: فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشهدوا»(50).

وروى أيضاً عن أنس رضي الله عنه قال: «سأل أهل مكة أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر»(51).

4- آية تأييد الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم والمجاهدين معه بالملائكة والرياح:

قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً) (الأحزاب:9)، وهذا في غزوة الأحزاب.

وقال تعالى في غزوة بدر: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) (الأنفال:9)، وقال بعد ذلك: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) (الأنفال:12).

وقال الله عز وجل في عزوة حنين: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) (التوبة:26).

وعن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرفي عن أبيه - وكان أبوه من أهل بدر - قال: «جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين - أو كلمة نحوها - قال: وكذلك من شهد بدرًا من الملائكة»(52).

وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: «هذا جبريل آخذ فرسه عليه أداة الحرب»(53).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل عليه السلام فقال: قد وضعت السلاح! والله ما وضعناه فاخرج إليهم. قال: فإلى أين؟ قال: ها هنا، وأشار إلى قريظة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم»(54).

وروى الطبري بسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قلنا يوم الخندق: يا رسول الله بلغت القلوب الحناجر، فهل من شيء نقوله؟ قال: «نعم، قولوا اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، فضرب الله وجوه أعدائه بالريح، فهزمهم الله بالريح»(55).

5- خروجه صلى الله عليه وسلم مهاجرًا إلى المدينة، وتعمية أمره عن المشركين ومعية الله للرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه:

قال الله تعالى: (إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:40).

وعن أنس رضي الله عنه قال: حدثني أبو بكر رضي الله عنه قال: «كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرأيت المشركين. قلت: يا رسول الله لو أن أحدهم رفع قدمه رآنا. قال: ما ظنك باثنين الله ثالثهما»(56).

6- إلقاء الرعب في قلوب الكافرين:

قال الله عز وجل عن بني النضير: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (الحشر:2).

وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة»(57).

وهناك معجزات وخوارق كثيرة أجراها الله عز وجل على يدي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم غير ما ذكر في القرآن الكريم ثبتت صحتها في كتب السنة أذكر منها:

1- إخبـاره صلى الله عليه وسلم بالمغيبات :

فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: بينما أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقـة، ثم أتـاه آخر فشكا إليه قَطْعَ السبيل. فقال: «يا عديُّ، هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها، وقد أُنبئتُ عنها، قال: إن طالت بك حياةٌ لتَرَيَنَّ الظَّعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحدًا إلا الله تعالى». قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دُعَّارُ طيءٍ الذين سعَّروا البلاد؟ «ولئن طالت بك حياة لتُفْتَحنَ كنوز كسرى» قلت: كسرى بن هُرمُز؟ قال: «كسرى بن هرمز. ولئن طالت بك حياةٌ لتَرَينَّ الرجل يخرج ملء كفِّه من ذهب أو فضة يطلب من يقْبَلُهُ منه، فلا يجد أحدًا يقبله منه. وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يُترجم له، فيقولن: ألم أبعث إليك رسولاً فيُبلغك؟ فيقول: بلى يا رب، فيقول: ألم أعطك مالاً، وأُفْضِلْ عليك؟ فيقول: بلى. فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنَّم» قال عديُّ: فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد شق تمرة فبكلمة طيبة» قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: «يخرج ملء كفِّه ...»(58).

2- تكليم الجمادات وانقيادها له بإذن الله تعالى :

فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحنَّ الجذع، فأتاه فمسح عليه - وفي رواية - فنزل فاحتضنه وسارَّه بشيء»(59).

وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن بمكة حجرًا يسلم عليَّ ليالي بعثت وإني لأعرفه الآن»(60).

3- زيادة الطعام والشراب ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم :

فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «عطش الناس يوم الحديبية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة، فتوضأ منها، ثم أقبل الناس نحوه - وفي رواية: جَهش الناس نحوه - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لكم؟ قالوا: يا رسول الله، ليس عندنا ماءُ نتوضأ به ولا نشرب، إلا ما في ركوتك، قال: فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون. قال: فشربنا وتوضأنا. قال: فقلت لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمسة عشرة مائة»(61).

وعن عبد الواحد بن أيمن عن أبيه قال: أتيت جابرًا رضي الله عنه فقال:«إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كُدْيةٌ شديدةٌ، فجاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كديةٌ عرضت في الخندق، فقال: أنا نازل، ثم قام وبَطْنُه معصوبٌ -ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوقُ ذَواقًا - فأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم المعوَلَ، فعاد كثيبًا أهْيَلَ - أو أهيم - فقلت: يا رسول الله، ائذن لي إلى البيت، فقلتُ لامرأتي: إني رأيتُ بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئًا، ما في ذلك صبرٌ، فعندك شيء؟ قالت: عندي شعيرٌ وعَنَاق، فذبحتُ العَنَاق، وطحَنَتِ الشعير، حتى جعلنا اللحم في البُرْمة، ثم جئتُ النبي صلى الله عليه وسلم والعجينُ قد انكسر، والبُرْمة بين الأثافيِّ، قد كادت أن تنضج، فقلت: طُعَيِّمٌ لي، فَقُمْ أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان، قال: كم هو؟ فذكرت له، قال: كثير طيِّبٌ، قل لها: لا تنزع البُرمة، ولا الخبزَ من التَّنُّور حتى آتي، فقال: قوموا، فقام المهاجرون والأنصـار، فلـما دخـل على امرأتـه قـال: ويحك، جـاء النبـيّ صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم، قالت: هل سألك؟ قلت: نعم، فقال: ادخلوا، ولا تضاغطُوا، فجعل يَكْسِر الخبز، ويجعل عليه اللحم، ويُخَمِّر البُرمةَ والتَّنُّور إذا أخذ منه، ويقرِّب إلى أصحابه، ثم ينزع، فلم يزل يكْسِر ويغرف حتى شبعوا، وبقيَ منه (بقيَّةٌ)، فقال: كلي هذا وأهدي؛ فإن الناس أصابتهم مجاعة»(62).

4- في إجابة دعائه عليه الصلاة والسلام :

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان رجل نصرانيُّ أسلم، فقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب الوحي للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فعاد نصرانيًا، فكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كَتَبْتُ له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اجعله آيةً، فأماته الله، فدفنوه، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه، لما هَرَب منهم نبشوا عن صاحبنا، فألقوه، فحفروا له وأعمقوا ما استطاعوا، فأصبحوا وقد لفظته الأرضُ، فقالوا مثل الأول، فحفروا له وأعمقوا، فلفظته الثالثة، فعلموا أنه ليس من الناس، فألقوه بين حجرين، ورضموا عليه الحجارة»(63).

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «أصابت الناس سَنَةٌ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما النبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قام أعرابيٌ فقال: يا رسول الله هلك المالُ، وجاعَ العِيال، فادْعُ الله لنا، فرفع يديه وما نرى في السماء قَزَعةً، فوالذي نفسي بيده، ما وضعهما حتي ثارَ السحابُ أمثالَ الجبال، ثم لم ينزلْ عن منبره حتى رأيتُ المطر يتحادَرُ على لحيته، فمُطِرنا يومَنا ذلك، ومن الغد، ومن بعد الغد، والذي يليه، حتى الجمعة الأخرى، فقام ذلك الأعرابي - أو قال: غيره - فقال: يا رسول الله، تهدَم البناءُ، وغَرِق المال، فادْعُ الله لنا، فرفع يديه فقال: اللهم حوالَيْنا ولا علينا. فما يُشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت، وصارت المدينةُ مثل الجوبة، وسال وادي قناة شهرًا،ولم يأتِ أحدٌ من ناحية إلا حدَّث بالجَوْدِ»(64).

5- في كف الأعداء عنه صلي الله عليه وسلم :

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو جهل: «يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قيل: نعم. قال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته أو لأعفرن وجهه في التراب. قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته. قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه. فقيل له: مالك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار وهولاً وأجنحة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا، فأنزل الله - لا ندري أفي حديث أبي هريرة أو شيء بلغه - (كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى) إلى قوله: (كَلَّا لا تُطِعْهُ) (العلق: 6-19) »(65).

من ثمار التفكر في آيات الله عز وجل الخارقة:

بعد هذه الجولة الطويلة في ذكر آيات الله عز وجل الخارقة والتي يحثنا الله عز وجل على التبصر والتفكر فيها، نختم هذا الفصل بذكر أهم الثمرات التي تنجم عن التفكر في هذه الآيات؛ ومن ذلك:

1- زيادة الإيمان بزيادة اليقين واطمئنان القلب:

لا شك أن ظهور هذه الخوارق العظيمة تزيد المؤمن إيمانًا ويقينًا راسخًا؛ وذلك لدلالتها على عظمة الله عز وجل وقهره لكل شيء وقدرته على كل شيء، كما أن فيها قطعًا لوساوس وشبهات شياطين الجن والإنس الذين يثيرون الشكوك والشبهات على ما ذكره الله عز وجل من المغيبات التي لم تُعط العقول القدرة على إدراكها ولا على إدراك كنهها وكيفياتها. وفي الوقوف على هذه الخوارق والآيات العظيمة زيادة في اليقين وطمأنينة للنفس المؤمنة.

ومن رحمة الله لنا أن أظهر لنا في هذه الحياة الدنيا من الخوارق التي تمت في عالم الحس المشاهد القطعي، لنستدل بها على ما غاب عنا مما لا تدرك العقول كنهه وكيفية حدوثه، وليستدل بها على ربوبيته، وأسمائه وصفاته، وأنه على كل شيء قدير، والفعال لما يريد. وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده وفضله ومنته عليهم.

2- تعظيم الله عز وجل ومحبته والخوف منه وحده :

ففي هذه الآيات العظيمة دلالة باهرة على عظمة الله عز وجل وقوته وقهره لكل شيء. والله سبحانه على كل شيء قدير، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء فهو الفعال لما يريد. وهذا كله يورث في قلب المؤمن مزيدًا من التعظيم والإجلال والخوف والمحبة والعبودية لله تعالى، ويذهب منه الخوف والرهبة من المخلوق الضعيف الذي ناصيته ونواصي جميع الخلائق بيد الله تعالى.

3- الثقة في وعد الله تعالى ونصره للمؤمنين :

ذلك أن الله عز وجل على كل شيء قدير وله جنود السموات والأرض، وقد أظهر الله عز وجل لنا هذا في صراع أوليائه مع أعدائه؛ وذلك في ما سخر لهم من بعض جنود السماوات والأرض، وكذلك فيما خرق لهم من السنن الكونية الثابتة لمَّا أطاعوه وصدقوه. وهذا يبث الأمل في نفوس المؤمنين في كل زمان، وأن الله سبحانه على نصرهم لقدير، ويسخر لهم جنود السماوات والأرض إن هم أخذوا بأسباب النصر وسننه.

 

 

هوامش:-_________________

(1) قد أضطر في بعض الآيات إلى الاستشهاد ببعض ما نقل عن بني إسرائيل حول هذه الخوارق استئناسًا بها، ما دامت لا تخالف أصلاً من أصول الدين ولا مقصدًا من مقاصد الشريعة، ولها أصل في كتاب الله عز وجل.

(2) «الدر المنثور»: (1/148).

(3) «تفسير الطبري»: (2/586).

(4) «في ظلال القرآن»: (1/299-301) باختصار.

(5) البخاري في الأنبياء، باب قول الله عز وجل: (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ)، مسلم (151).

(6) انظر فتح البيان: (1/436).

(7) انظر الدر المنثور: (1/594).

(8) الدر المنثور: (1/136).

(9) «في ظلال القرآن»: (2/997).

(10) «تفسير الطبري»: (3/273).

(11) المصدر نفسه: (3/271، 272) (باختصار).

(12) «تفسير السعدي»: (5/96، 97).

(13) الطود: الجبل.

(14) «في ظلال القرآن»: (5/2599).

(15) التفسير الكبير: (3/90) بتصرف يسير.

(16) التفسير الكبير: (15/33).

(17) «الدر المنثور»: (3/257).

(18) البخاري: (4638)، ومسلم: (2374).

(*) أحد رواة الحديث.

(19) رواه الترمذي في التفسير، من سورة الأعراف وحسنه، وصححه الألباني في صحيح الترمذي: (2458).

(20) مرويات أحمد في التفسير: (2/197).

(21) الجريب والقفيز مكيالان للحبوب، والجريب أربعة أقفزة.

(22) في ظلال القرآن»: (3/1358-1360).

(23) المسند: (3/296)، والحاكـم: (2/320)، وقـال صحيـح الإسناد، ووافقـه الذهبي.

(24) «في ظلال القرآن»: (3/1313).

(25) البخاري في تفسير سورة آل عمران، باب: إن الناس قد جمعوا لكم.

(26) المسند: (6/109)، وابن ماجة: (3231)، وأخرجه البخاري في صحيحه (3359) بنحوه.

(27) «في ظلال القرآن»: (4/2387، 2388).

(28) تفسير الطبري: (22/65، 66) باختصار.

(29) تفسير السعدي: (4/180، 181).

(30) البخاري: (5048)، ومسلم: (793).

(31) «الدر المنثور»: (5/428).

(32) «تفسير السعدي»: (5/181).

(33) «التحرير والتنوير»: (11/158).

(34) تفسير السعدي: (3/498).

(35) «في ظلال القرآن»: (5/2634، 2635).

(36) ذكر بعض المفسرين أن الذي عنده علم من الكتاب هو سليمان عليه السلام نفسه.

(37) تفسير السعدي: (3/506) (باختصار).

(38) تفسير السعدي: (3/143).

(39) «أضواء البيان»: (4/20).

(40) تفسير الطبري: (3/246).

(41) تفسير الطبري: (12/58).

(42) انظر فتح البيان، صديق حسن خان: (1/157).

(43) «إغاثة اللهفان»: (1/343).

(44) البخاري في العلم، باب كتابة العلم، ومسلم في الحج، باب تحريم مكة.

(45) كلمة تقال للناقة إذا تركت السير.

(46) البخاري: (2731).

(47) انظر «الدر المنثور»: (6/73).

(48) تفسير ابن كثير: (4/548، 549).

(49) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم، الحديث (162).

(50) البخاري: (4864).

(51) البخاري: (4867).

(52) البخاري: (3992).

(53) البخاري: (3995).

(54) البخاري: (4117).

(55) تفسير الطبري: (21/127)، وأورده الألباني في الصحيحة بدون (قالوا). (2018).

(56) البخاري: (4663).

(57) البخاري: (335).

(58) البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام: (3595).

(59) البخاري في المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام: (3583).

(60) مسلم: (2277).

(71) البخاري في المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام: (3576).

(62) البخاري في المغازي، باب غزوة الخندق: (4101).

(63) البخاري في المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام: (3617).

(64) البخاري في الاستسقاء، باب الاستسقاء في المسجد الجامع: (933)، وفي المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام: (3582).

(65) رواه مسلم: (2797).


 

الخلل في التفكير : مظاهره وأسبابه

قد مر بنا في المباحث السابقة تفصيلٌ واستطرادٌ للمنهج الصحيح للتفكير وأصوله ومجالاته التي تنفع المتفكر فيها في الدنيا والآخرة. ولكن كم هم الذين يفكرون مثل هذا التفكير الصحيح النافع؟ إنهم القليل من عباد الله عز وجل، وهم أولئك الذين اهتدوا بما في كتاب الله تعالى من المنهج القويم للتفكير؛ (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء: من الآية9).

وأما الكثير - وما أبرئ نفسي - فقد اعترى تفكيرهم جوانب من الخلل والمرض، ولكن ما بين مقل ومكثر. ولهذا الخلل أسباب عدة ومظاهر متعددة. وسأذكر في الصفحات القادمة إن شاء الله تعالى ما يفتح الله عز وجل به من هذه المظاهر، وأُضمِّن كُلَ مظهر ما يكون سببًا لظهوره وعلاجه. أسأل الله عز وجل التوفيق والسداد.

المظهر الأول : الغرور بالعقل والوثوق المطلق به:

العقل نعمة عظيمة من نعم الله عز وجل التي امتن بها على الإنسان، وخصه بها من بين المخلوقات في هذه الأرض؛ فهو الوسيلة إلى معرفة الله عز وجل، وإدراك ما جاءت به الرسل من عند الله تعالى والتفكر في ما خلق الله عز وجل في هذا الكون، والاستدلال بذلك على ربوبية الله تعالى وألوهيته وأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وكذلك التفكير في شرعه تعالى وما فيه من المصالح، والمجال في هذا واسع، ومع ذلك فهو محدود بحدود لا يستطيع الفكر أن يعبرها لعدم قدرته على إدراك ما وراءها بفكره وعقله؛ لأنه لم يعط القدرة على ذلك، وإنما دوره في ذلك التسليم والانقياد لما جاء عن الله عز وجل، وعن رسله عليهم الصلاة والسلام من الأخبار المغيبة التي ليس لنا علم بها إلا من الله الحكيم عالم الغيب والشهادة، أو ما خص الله عز وجل به بعض رسله من هذه المغيبات.

قال الله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) (الأنعام: من الآية59)، وقال سبحانه: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (النمل:65)، وقال تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (الإسراء:85)، وقال تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) (الجـن:26، 27)، وقال سبحانه: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) (يونس: من الآية39)، وقال صلى الله عليه وسلم: «تفكَّروا في آلاء الله ولا تفكَّروا في الله عز وجل»(1).

وجعل الله عز وجل أعظم صفات المتقين إيمانهم بالغيب، وذلك في قوله تعالى: (... هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (البقرة:2-4).

والله عز وجل قد جعل للعقول حدًا في إدراكها، كما جعل للبصر والسمع حدًا لهما. وإذا استقل الإنسان، وسيطر عليه غروره بعقله، وانفصل عن الوحي، ولم يسترشد به في تفسيره للكون والحياة والإنسان فإنه يصبح كالأعمى والأصم، وكالمتخبط في تيه صحراء مهلكة لا يستطيع الخروج منها، ويصاب بخلل عظيم في تفكيره وموازينه.

وهذه حال كثير من الفلاسفة والملاحدة الذين كفروا بالله تعالى، وبما جاء من عنده سبحانه على لسان رسله عليهم الصلاة والسلام؛ فما وجدوا إلا التيه والضلال والحيرة والاضطراب، ولما وصفوا لأنفسهم شريعة من صنع عقولهم جاءوا بالظلم والتخبط والتناقض والشقاء لأنفسهم وللبشرية التي حكموها بهذه النظم. وما ذاك إلا أنهم اقتحموا أمورًا لا قبل لهم بها، ولا قدرة لعقولهم على إدراكها، وهذه نتيجة حتمية للغرور بالعقل، وعزله عن الوحي، أو جعله حكمًا على الوحي ومقدمًا عليه عياذًا بالله تعالى.

وهذا الغرور بالعقل والوثوق المطلق به أفرز خللاً كبيرًا في التفكير عند أهله، فنشأت منه المدارس الفكرية المادية الملحدة. وفي داخل دائرة الإسلام أفرزت مدارس المعتزلة في تاريخهم الطويل. وفي عصرنا الحاضر نشأت هذه المدارس التي تسمي نفسها تارة بالعقلانية، أو العصرانية، أو التنويرية، وغيرها من المدارس التي بعضها يخرج بمذهبه عن الإسلام، وبعضها يخرج عن دائرة أهل السنة؛ حسب المقاصد المختلفة لأهل هذه الأهواء.

والنظرة السليمة للعقل وتفكيره التي تقيه الخلل والاضطراب هي نظرة أهل السنة والجماعة التي تصدر عن الكتاب والسنة الصحيحة وفهم الصحابة. وهذه النظرة تتميز بكونها وسطًا بين الذين غلوا في العقل وعظموه وأدخلوه في غير مجاله، وظنوا أنه يمكن أن يقدم على النقل، وأوَّلوا الآيات بما يوافق عقولهم، وردوا الأحاديث الصحيحة بزعم مخالفتها للمعقول، وبين الطرف المقابل لهؤلاء؛ وهم الذين وقعوا في الطرف المناقض حتى للعقل الفطري البدهي؛ فابتعدوا عن تعليل الأحكام الشرعية وإظهار الحكمة فيها، أو قبلوا بالخرافات والأساطير المصادمة لبدهية العقول. وكلا الطرفين ابتعدا عن منهج أهل السُّنة. وهدى الله السلف وأتباعهم لما اختلف فيه من الحق بإذنه؛ حيث أعطوا العقل مكانته اللائقة به ولم يعارضوا به النصوص، وإنما وجهوه لتدبرها، والاستنباط منها، والتسليم بما لم تحط به العقول منها. والقرآن مليء بالاستدلالات العقلية، والبراهين النظرية؛ كالأقيسة والأمثال، ومليء بالنصوص التي تذم المعطلين لعقولهم كما في قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج:46).

كما أن أهل السُنة يوقنون أن لا تعارض بين النقل الصحيح والعقل الصريح؛ وإنما يظهر التعارض في العقول الفاسدة. وعندما يظهر شيء من التعارض فإما لفساد العقل، أو لعدم ثبوت النص، وفي ذلك يقول ابن القيم في نونيته:

فـإذا تعارض نـص لفــظ وارد

والعقــل حتـى ليـس يلتقيــان

فالعقــل إمــا فــاســد

ويظنـه الرائي صحيحًا وهو ذو بطـلان

أو أن ذاك النـص ليـس بثابـت

مـا قـالـه المعصـوم بالبـرهـان

ونصوصه ليس تعارض بعضها

بعضًا فسل عنهـا عليـم زمــان

وإذا ظننت تعارضًا فيها فـــذا

من آفــة الأفهـام والأذهــان(2)

ويقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - وهو يرد على من يسمون أنفسهم بأصحاب المدرسة العقلية: «... فإطلاق كلمة «العقل» إطلاق الأمر إلى شيء غير واقعي! - كما قلنا - فهناك عقلي وعقلك وعقل فلان وعقل علان. وليس هنالك عقل مطلق لا يتناوبه النقص والهوى والشهوة والجهل يحاكم النص القرآني إلى «مقرراته». وإذا أوجبنا التأويل ليوافق النص هذه العقول الكثيرة، فإننا ننتهي إلى فوضى!

وقد نشأ هذا كله من الاستغراق في مواجهة انحراف معين. ولو أخذ الأمر - في ذاته - لعرف العقل مكانه، ومجال عمله بدون غلو ولا إفراط، وبدون تقصير، ولا تفريط كذلك؛ وعرف للوحي مجاله، وحفظت النسبة بينهما في مكانها الصحيح ..

إن «العقل» ليس منفيًا ولا مطرودًا ولا مهملاً في مجال التلقي عن الوحي، وفهم ما يتلقى وإدراك ما من شأنه أن يدركه، مع التسليم بما هو خارج عن مجاله. ولكنه كذلك ليس هو «الحكم» الأخير. وما دام النص مُحْكما، فالمدلول الصريح للنص من غير تأويل هو الحكم. وعلى العقل أن يتلقى مقرارته هو من مدلول هذا النص الصريح»(3).

والكلام السابق عن الغرور بالعقل والوثوق المطلق به هو المعروف عند أهل البدع المفارقين لأهل السنة في نظرتهم للعقل.

أما إذا أردنا البحث عن هذا النوع من الخلل في التفكير عند بعض المنتسبين لأهل السنة - وما أبرئ نفسي - فسنجده متمثلاً في عدة صور منها:

تعصب صاحب هذا الفكر لرأيه واجتهاده، والنظر إليه أنه هو الصواب، وأن غيره هو الخطأ مهما اتضحت الدلائل على خطئه ومجانبته للصواب.

صاحب الفكر المغالي في وثوقه بعقله يميل إلى المبالغات والقطعيات في وصف اجتهاده واجتهاد غيره؛ فتراه يستخدم جملاً من نحو: أنا لا أقول هذا، أو لا أفعله أبدًا، وفلان لم يشم رائحة العلم، أو إنه يكذب دائمًا، وكلامك لا يمكن قبوله أبدًا، وغيرها من الألفاظ التي تدل على طريقة تفكيره، وعندما يسير أحدنا على هذه الطريقة من التفكير فإنه يعطي للآخرين شعورًا خفيًا بعدم جدوى الحوار معه. وبذلك يُحرم صاحب هذا التفكير من الاستفادة من الآخرين.

حساسية صاحب الفكر المتصلب لمشاعر الآخرين ضعيفة؛ ولذلك نراه يلقي الكلام على عواهنه، غير مراع لمشاعر السامعين وما يسببه لهم من أذى وحرج؛ فتراه مثلاً يعمم الأوصاف السيئة على بعض الناس، أو الشعوب؛ فيقول: هذا شعب معروف عنه الخداع، أو ضعف التدين، أو الكسل، أو الغباء .. إلخ.

يُظهر صاحب هذا التفكير الواثق من عقله المتصلب لرأيه أنه موسوعة لا يتردد في الإجابة على كل سؤال، أو حل أي إشكال ومعضلة، ويظهر عليه في الغالب صفة التعالم.

صاحب العقل المتصلب يغلو في الاعتداد برأيه ولا يأنس إلا بوجهات النظر التي تويد رؤيته، ويقابل ذلك وحشته من وجهات النظر التي لا توافقه، وهذا يجعله لا يطالع من الكتب إلا ما يوافق فكره ورأيه، ويعزف عن تلك الكتب التي تعارضه وينظر إليها نظر الشك والارتياب.

كما أنه ينفر من تلك الدراسات التي تتسم بالعدل، والموازنة بين العيوب والميزات؛ ولذلك لا تراه يقيم العلاقات إلا مع من يوافقه وينعزل عمن سواهم ويستوحش بهم(4).

لا يحترم المتصلب في فكره رأي أهل الاختصاص، ويشكك في علومهم ونزاهتهم إذا خالفوه.

الانفراد بالرأي أمام قضية كبيرة تحتاج إلى عدة عقول كبيرة.

انحصار صاحب هذا التفكير في طريق واحد يرى أنه هو الذي ينبغي أن يسلك، وأسلوب واحد هو الذي ينبغي أن يستخدم في الحلول المنشودة. وهذا يسد الباب على إمكانية الاهتداء إلى بدائل أكثر نفعًا وأقل تكلفة. وهذه الطريقة من التفكير تؤدي بصاحبها إلى تحمل المشاق والآلام حيث لا يخطر في باله أن ثمة مخرجًا ولا بديل لأفكاره.

يحدث هذا النوع من التفكير لدى صاحبه نوعًا من الارتباك والتناقض، وعدم التوافق بين المقدمات والنتائج(5).

ومن أسباب هذا الخلل: الهوى والكبر عياذًا بالله تعالى من الهوى والكبر والإعجاب بالنفس. وقد نبهنا نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا الخلل بقوله: «الكبر بطر الحق وغمط الناس»(6)، وعلاج ذلك هو سؤال الله تعالى الهداية إلى الحق والسداد في الأقوال والأعمال، والتفكير في عاقبة المتكبر في الدنيا والآخرة، وعقوبة رد الحق بعد بيانه.

تنبيه: عند الحديث عن التصلب في الفكر وكونه مظهرًا من مظاهر الخلل؛ فإنما يُعنى به الجانب المذموم منه، والذي يتمثل في ما سبق ذكره من التعصب للرأي والجمود علي بعض المفاهيم الخاطئة وعدم التزحزح عنها. أما التصلب للحق والثبات عليه فهو من التصلب الممدوح صاحبه.

المظهر الثاني: السلبية في التفكير:

التفكير السلبي هو الذي يميل بصاحبه إلى التشاؤم، والسوداوية في التفكير، وتغليب الشر، وإساءة الظن، وتغليب المساوئ على المحاسن. وهذا النوع من التفكير يقود صاحبه في الغالب إلى اليأس والإحباط والتشكيك في نوايا الناس ومقاصدهم.

وقد جاء في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم الأمر بالتفاؤل وتوقع الخير وإحسان الظن، كما جاء فيهما النهي والتحذير من هذه الآفة من آفات التفكير على لسانه أنبيائه - صلى الله عليهم وسلم - كما في قوله تعالى عن وصية يعقوب عليه السلام لبنيه: (يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف:87).

وقال سبحانه عن حوار الملائكة مع إبراهيم عليهم السلام جميعًا: (قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) (الحجر:54-56).

ويسوق الدكتور بكار - وفقه الله تعالى - بعض الأمثلة للتفكير السلبي فيقول: «لو طلبنا من أحد الناس أن يعدد لنا محاسن زيد من الناس والمآخذ التي يمكن أن تؤخذ عليه، لوجد أن من السهل عليه الاهتداء إلى نقائصه وعيوبه...

إذا سقط اسم أحدنا في أحد الاجتماعات أو ذكر في ذيل القائمة فإننا نسارع إلى الظن بأن ذلك تم عن عمد.

إذا تأخر ابنك المسافر عن الوصول في الوقت المعتاد؛ فإنك تميل إلى أن مكروها قد حل به حتى تأخر.

والأشخاص الذين امتلأت قلوبهم بمشاعر الخوف واليأس والإحباط والشك والقلق تتولد لديهم بشكل خفي هذه الأفكار التي تعزر هذه المشاعر؛ فترى الشخص السلبي إذا أراد دخول امتحان فإنه يخاف من الرسوب، ويتوقعه ويشك في قدرته على النجاح، فيتصرف تصرف المحبط اليائس مع أن المعلومات التي في حوزته، والمقدرة الذهنية التي لديه قد لا تقل عما لدى الواثقين بأنفسهم»(7).

وإن لشياطين الإنس والجن دورًا في إذكاء هذا النوع من التفكير بوساوسهم ونزغاتهم وإيعادهم وتخويفاتهم.

يقول الله عز وجل: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:268).

ويقول تبارك وتعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:175).

وجاء في الأثر: «إن للشيطان لمة من ابن آدم، وللملك لمة؛ فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فايعاد بالخير وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، وليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان. ثم قرأ: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ)»(8).

فدلت الآيتان والأثر على أثر الشيطان في التخويف والتيئيس، وإضفاء التشاؤم والسلبية؛ فلزم من ذلك الحذر من الشيطان وشروره ونزغاته والاستعاذة بالله عز وجل من ذلك.

المظهر الثالث: الغموض والتشوش والاضطراب في التفكير:

التفكير المشوش هو العاجز عن فهم وإدراك الموضوع الذي يفكر فيه، والعاجز عن إدراك العلاقة بين الأشياء التي يتعلق بها التفكير. كما أن من سماته أيضًا العجز عن التعبير عما يدور في النفس من أفكار بصورة واضحة. ومن أسباب وجود هذا النوع من التفكير: السطحية في التفكير، وضآلة المعلومات في الموضوع المراد التفكير فيه؛ حيث يكتفي صاحب هذا التفكير بظواهر الأشياء ولا ينفذ إلى معرفة حقائقها.

وقد يحكم على الناس بمظاهرهم أو مراكبهم أو أقوالهم دون معرفة لسلوكياتهم وتصرفاتهم.

كما أن من أسباب التشوش في التفكير الانشغال بأشياء مزعجة أو مقلقة، أو مؤلمة للنفس؛ فيضعف حيئذ التفكير، ويقل التركيز، ويتشوش الذهن.

ومن الأمور التي تؤلم النفس وتشوش الفكر: الحزن الشديد أو الهم والغم، أو الجوع أو المرض المؤلم، وغير ذلك من المؤلمات النفسية والجسدية، ويلحق بذلك أيضًا الانفعال والغضب الشديدين.

لذا ينبغي الكف عن التفكير الذي يترتب عليه اتخاذ موقف أو قرار في مثل هذه الظروف. من أجل ذلك - والله أعلم - نهى الشارع الحكيم عن الصلاة حال كون المصلي حاقنًا أو حاقبًا أو بحضرة طعام يشتهيه؛ لأن الفكر في مثل هذه الأحوال سيكون منشغلاً عن الصلاة وتدبرها. وقد قال أهل العلم يكره للقاضي أن يقضي وهو غضبان، أو جائع أو حاقنٌ أو حاقبٌ.

المظهر الرابـع: التشكك والوسوسة في التفكير:

ويقال له الموسوس. وهو الذي يتشكك في كل عمل يعمله، وفي كل شخص ونيته، ويعتقد أن وراء كل تصرف مؤامرة، وأنه المقصود بهذه المؤامرة.

وصاحب هذا التفكير يتعب نفسه ويتعب غيره. وهذا في الغالب من الشيطان، وقد أمرنا الله عز وجل بالاستعاذة من شره ووسوسته؛ قال تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) (الناس:1-6).

وقد يكون الفكر التشكيكي في الإيمانيات، وهذا أخطرها. ومن أسباب ذلك كثرة الخصومة والجدل في الدين؛ قال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله تعالى -: «من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر الشك - أو قال - أكثر التحول»(9).

وقد يكون في العبادات؛ كالوضوء، والصلاة، وقد يكون في المعاملات؛ كالبيـع، والشـراء، والنكـاح، والطلاق. وهذا النوع من التفكير إذا لم يبادر صاحبه بعلاجه قد يتحول إلى مرض نفسي خطير يصعب بعد ذلك علاجه.

وقد يكون في إساءة الظن الدائمة بنوايا الناس والتشكيك في مقاصدهم، وقد نهى الله سبحانه عن الظن السيئ بالناس في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (الحجرات: من الآية12).

المظهر الخامس: التهويل والمبالغة في التفكير والتصوير:

هناك من النـاس من فكـره وتفكيره مولع بالمبالغة في الأشيـاء وتهويلها؛ سواء في الوصف، أو المدح، أو الذم، أو الحب، أو البغض، أو الترغيب، أو الترهيب. وهو نوع من الخلل في التفكير وتصوير الأمور؛ فنجد صاحب هذا الفكر يعطي الأشياء أضعاف حجمها الحقيقي؛ سواء كان هذا الشيء سارًا أو ضارًا، حتى يُلقي في روع السامع أو القارئ ضخامة وهول هذا الأمر، ولكن ما إن يباشر هذا الأمر أو يراه حتى يتبين أنه أمر عادي وطبيعي.

يقول الأستاذ عبد الكريم بكار: «الإفراط في وصف الأشياء والحكم عليها في حالتي المدح والذم من العلل المستحكمة في حياتنا الفكرية، وفي لغة الخطاب اليومي. وأعتقد أن استقامة التفكير ستظل حلمًا بعيد المنال، ما لم نستطع تسليط المزيد من الأضواء على مناطق التماس بين العقل والعاطفة، والمبدأ والمصلحة، والذات والموضوع، و (الأنا) والآخر، وما شاكل ذلك من هذه الثنائيات؛ حيث إن كثيرًا من أخطاء التفكير ينشأ نتيجة انعدام التوازن في أشكال العلاقة بين هذه الأشياء. والتهويل يشكل منتجًا من منتجات طغيان العاطفة على العقل؛ حيث إننا إذا أحببنا شيئًا وفُتِنًّا به حاولنا تأمين شرعية ذلك الافتتان عن طريق كيل المدائح وإبراز المحاسن ورفعه إلى مستوى الأساطير والخوارق. وإذا أبغضنا شيئًا حاولنا أيضًا تسويغ ذلك البغض عن طريق إبراز مساوئه وعيوبه ...

والتهويل يتجلى في المدح والذم بوصفهما طرفي معادلة؛ إذ إن مديح فلان من الناس يقتضي ذم نظرائه ومنافسيه، كما أن ذم شخص من الناس يقتضي أيضًا مديح أنداده وخصومه. وللعاطفة أيضًا تأثيرها في هذا، فكما أن القلب لا يتسع لحبين، فكذلك الساحة لا تتسع لبطلين، فإذا وُجدا فلا بد من إخراج أحدهما، ولهذا كان لدينا فَنَّان عتيدان من فنون الشعر، هما فنا المديح والهجاء. ولم يقتصر ذلك على الشعر، بل تعداه إلى مجالات معرفية وثقافية أخرى؛ فكُتّاب السير والتراجم - مثلاً - لا يشعرون أنهم يستطيعون القيام بعملهم دون فعل ذلك، ونظرة في الكتب التي ترجمت لرجال المذاهب والمدارس العلمية تُظهر ذلك على نحو جَليّ؛ فالثناء على البصريين لا يكتمل من غير ذم الكوفيين، ومديح المذهب الشافعي - مثلاً - يقتضي ذم المذاهب الأخرى. والترغيب في الآخرة يقتضي الحط من شأن الأعمال الدنيوية. والنتيجة لكل ذلك ضياع الحق والحقيقة.

التهويل في مديح بعض الأشخاص وصل في تاريخنا وواقعنا إلى مستويات خطيرة؛ حيث لا يقف الأمر عند انتقاص كرامة المادح فقط، ولكن يتجاوزه إلى جرح صفاء عقيدته!

... وحين شددت النصوص الشرعية على ضرورة التزام أكبر قدر ممكن من الدقة في أعمال اللسان، وضرورة التزام الحق والعدل في تقويم الأشخاص والأشياء، كان الهدف من ذلك إحقاق الحق، وإيجاد أساس جديد لتوازن الشخصية على المستوى الفردي وعلى المستوى الاجتماعي، من أجل استقامة ديننا ودنيانا»(10).

المظهر السادس: التسرع والعجلة في التفكير:

العجلة من طبيعة الإنسان بدليل قوله تعالى: (وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً) (الإسراء: من الآية11). ولكن المسلم الذي تربى على الكتاب والسنة يتغلب على هذه الصفة؛ وذلك بتهذيبها حتى يغلب عليه الحلم والأناة والتؤدة والتثبت من الأمور، وبخاصة فيما يتعلق بالحكم على الناس أفرادًا كانوا أو جماعات، أو ما يتعلق بقضايا مصيرية في حياة الإنسان.

يقول الله عز وجل: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء:36).

وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات:6).

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «التؤدة كلها خير إلا في أمور الآخرة»(11).

ومع ذلك فهناك من يعرف عنه السرعة والعجلة في التفكير، والتخبط في اتخاذ القرارات والمواقف، والتسرع في إطلاق الأحكام.

ويتسم صاحب التفكير العجول بالسمات التالية:

1- سرعة التصديق للأفكار وقبولها؛ فهو ما أن يسمع فكرة من الأفكار الجديدة حتى يلتقطها ويبدأ بنشرها، والبناء عليها، مع أن الأفكار الجديدة تظل موضع شد وجذب بين العلماء فترة طويلة من الزمن حتى تختبر وتبلور ويجري تشذيبها وتعديلها، وفي النهاية قد تقبل وقد ترفض.

ولذا فإن صاحب الفكر المتعجل سريع التقلب؛ فبينما تجده على فكرة وموقف يتبناه ويدافع عنه، تجده بعد فترة من الزمن يتبنى ما يناقض الفكرة الأولى لتأثره المتسرع بطرح جديد من جهة أخرى، وهكذا.

وفي ذلك يقول الإمام مالك - رحمه الله تعالى -: «أرأيت إن جاء رجل أجدل من رجل، يدع الرجل دينه كل يوم لدين جديد!»(12).

2- صاحب الفكر المتعجل لا يناقش الكلام الذي يسمعه بعقلانية، وإنما تغلب عليه العاطفة؛ فإذا كان ما يسمعه موافقًا لمزاجه وهواه قبله دون إعمال الفكر فيه، وإن كان يخالف هواه اتخذ منه موقفًا سلبيًا سريعًا(13).

3- صاحب التفكير المتعجل لا يسمع ما يقال حقيقة، وإنما يسمع ما يحب أن يسمعه؛ ولذا فإن له دائمًا تأويلاً خاصًا للكلام الذي يقال، وهو لذلك لا ينتظر المتكلم حتى ينتهي من الكلام الذي يريد أن يتكلم به، وإنما يقاطعه ويكمل له من عنده. وكثيرًا ما يكون ذلك التكميل غير منسجم مع ما يريد المتكلم قوله»(14).

4- صاحب الفكر المتعجل رجل يغلب عليه حب العمل والحركة، ولا يعطي للتخطيط والتنظير الأهمية التي يستحقها، وهذا يجعله يبدأ بالعمل ثم يندم عليه، وقد يبدأ بالعمل ولا يكمله، وكثيرًا ما يجد الطرق أمامه مسدودة، وإنتاجيته ضعيفة، وقدرته على التطوير محدودة. وهو لغلبة النزعة العملية عليه لا يجد الفاعلية ولا الوقت للتبصر في مدى تحقيق أعماله لأهدافه في الحياة(14).

5- صاحب الفكر المتعجل قليل الاستشارة لأهل الخبرة كلٌ في مجاله.

6- صاحب الفكر المتسرع سريع الحكم على الناس أفرادًا أو جماعات، بمجرد ظهور أدنى مؤشر يدل على المدح أو القدح. وقد يندم على ذلك ويتخذ موقفًا مضادًا عندما يظهر له مؤشر آخر يضاد المؤشر السابق.

7- صاحب الفكر المتسرع مولع بالشائعات وقبولها، ونشرها، والتحديث بكل ما سمع دونما روية ولا تثبت، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع»(15). كما أنه سريع الانخداع بكل ما يطرحه أهل الباطل والنفاق من الأقوال الباطلة المزخرفة.

المظهر السابع: الأحادية في النظرة والتفكير:

وهذا النوع من الخلل يقع من كثير من الناس، ولا يسلم منه إلا من رحم الله عز وجل ووفقه للعدل والشمولية في النظر والتفكير.

ومن سمات أصحاب هذه النظرة المجتزءة ما يلي:

1- عندما يطرح أمر ليفكر فيه من حيث الأخذ به أو رفضه فإن صاحب النظرة الأحادية لا ينظر في هذا الأمر إلا إلى جانب واحد منه؛ يوجه تفكيره إليه ويبني قراره بالقبول أو الرد عليه؛ فنجد مثلاً من ينظر إلى حسنات وإيجابيات هذا الأمر فحسب دون النظر إلى المفاسد والسيئات فينشأ من ذلك القبول. ونظرة أحادية أخرى تنظر إلى المفاسد والسلبيات وتتجاهل الحسنات والإيجابيات مما ينجم عن ذلك الرد والرفض.

أما النظرة السليمة المتوازنة، فهي التي تنظر إلى المحاسن والمساوئ وتوازن بينهما، وتنظر إلى المحصلة النهائية التي تظهر بعد هذه الموازنة.

2- عندما يبحث صاحب هذه النظرة في موضوع ليقرأه، أو يكتبه فإنه حسب ميله وهواه في النتائج التي يريد أن ينتهي إليها تجده يركز بحثه ونظره وفكره على جانب واحد، وهو الذي يؤيد موقفه وفكره؛ فينتقي من النصوص ما يرى أنه يخدمه في نظرته وقناعته، ويبترها عن كل ما يشوش فكرته وقناعته. وهذا فوق ما فيه من قلة الأمانة العلمية، فإنه يؤول بصاحبه إلى الهوى ووصفه بأنه ذو فكر انتقائي.

3- صاحب الفكر والنظر الأحادي ينظر عند الحكم على الناس إلى جانب واحد من حياتهم وأخلاقهم، ويهمل الجوانب الأخرى، سواء كان ذلك في المدح أو القدح. ولا ينفك صاحب هذه النظرة عن الهوى والتعصب. فإن كان الشخص الذي ينظر إليه ممن يحب فإنه ينظر إلى الجوانب الحسنة فيه، ويثني عليه بها؛ كأن يكون شجاعًا أو كريمًا أو ذا مروءة ونحوه .. إلخ، ويغض الطرف عن جوانب مهمة في شخصيته تقدح فيه وتشينه؛ مثل كونه لا يحافظ على الصلاة، أو يأكل المال الحرام، أو أنه يظلم ويغش ... إلخ.

أما إذا كان الشخص ممن يكرهه ويفارقه، فإن صاحب هذا الفكر الأحادي يظهر بمظهر معاكس عن الأول، فيقوِّم الشخص من خلال سيئاته وسلبياته مع غض الطرف عن محاسنه ومحامده. وهذا اللون من التفكير يشكل إخلالاً بواجب القيام بالعدل والحق لله تعالى، ومع عباده في المنشط والمكره.

4- ومن ذلك ما وقع فيه أهل البدع في القديم والحديث حيث وقف بعضهم مع نصوص معينة، دون جمعها مع نصوص أخرى توضحها؛ كما وقف الخوارج بنظرتهم الأحادية إلى نصوص الوعيد والتكفير فانتهت بهم هذه النظرة إلى فكرهم المتطرف في تكفير المسلمين. وقابلهم في ذلك المرجئة الذين وقفوا مع نصوص الوعد والرجاء وأهملوا نصوص الوعيد، فقادتهم هذه النظرة الأحادية إلى مذهبهم المتطرف الذي نشر الفساد في الأرض وجرأ الناس عليه، وقل مثل هذا في مذهب القدرية وما قابله من مذهب الجبرية.

ولما نظر أهل السنة والجماعة إلى النصوص كلها نظرة شاملة تجمع بينها وتعمل بها جميعًا قادهم ذلك إلى المنهج العدل المتوزان الوسط الذي ارتضاه الله عز وجل لهذه الأمة وسار عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام؛ قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً...) (البقرة: من الآية143) »(16).

5- صاحب النظرة الأحادية ينظر إلى المشكلة المعروضة على فكره بأن ليس لها إلا تفسيرٌ واحد، وبالتالي ليس لها إلا حلٌ واحدٌ هو الذي يراه، وما عداه فهو مرفوض، ومهما عرض عليه من البدائل فإنه لا يقبله.

يقول الدكتور بكار: «من الواضح أن الأشخاص الأقل ثقافة لدينا يغرقون في استخدام الألفاظ الدالة على الأشياء المتوحدة؛ حيث تسمع منهم: العامل الوحيد، والسبب الوحيد، والتفسير الوحيد، والحاجز الوحيد، والعيب الوحيد ...

والظاهر أن هناك ولعًا وميلاً نفسيًا قويًا إلى التخلص من تكدس الأشيـاء، وإفـراد أحدها بالتركيـز والتعامـل. كما أن ذلك قـد يعطي تفوقًا على الأقران والخصوم في حلقات النقاش ومجالس السمر؛ حيث نثبت لهم أننا قادرون على استخلاص شيء ذي أهمية فريدة ودلالتهم عليه ...

إن اعتقادنا بتوحد العوامل أو الأسباب والمشكلات يمنعنا من البحث والتفتيش، ويفقر حياتنا وتصوراتنا، بل إنه يجعلنا نرفض ما يمكن أن يغايرها حتى لو جاءنا من جهات متخصصة ...

وهذا يفسر لنا المشاحنات التي كانت تجري من أتباع المذاهب الفقهية، والتي قد تصل إلى درجة حبك المكائد لدى السلاطين والمنفذين. كما أنه يفسر - جزئيًا - كثيرًا من التنازع الذي يقع بين الجماعات الإسلامية والجمعيات الخيرية اليوم، وذلك الاعتقاد حال دون استفادة المتنازعين من خبرات بعضهم البعض وتجاربهم، وهذا يشكل خسارة كبيرة»(17).

المظهر الثامن: الفكر التعميمي في المواقف والأحكام:

وهذا المظهر من الخلل الفكري يقود صاحبه إلى الوقوع في الظلم، وإصدار الأحكام الجائرة والتهم الباطلة على الناس؛ حيث إن من صفات صاحب هذا الفكر أنه يعمم خطأ فرد من الأفراد على عائلته كلها، أو قبيلته كلها، أو طائفته وجماعته كلهم؛ فتراه عندما يكذب عليه، أو يظلمه، أو يبخل عليه شخص من الناس فإنه يعمم ذلك على كل من وراءه؛ فيقول عن أسرة هذا الشخص، أو قبيلته، أو جماعته: أنهم كلهم كذبة أو ظلمة أو بخلاء. وهذا جور وظلم؛ قال الله تعالى: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (فاطر: من الآية18). وهذا هو ما كانت عليه الجاهلية الأولى.

يقول الأستاذ بكار: «إن الأمة تعاني اليوم من تسرع كثير من الناس إلى إطلاق الأحكام الكبيرة، والأحكام التعميمة دون أي خبرة، ودون أي وازع داخلي. وقد صار من المألوف القول بأن أبناء القبيلة الفلانية بخلاء، وأهل البلد الفلاني كسالى، وأبناء القطر الفلاني محتالون أو لصوص وهكذا ... ولذا جاء في الحديث الشريف التحذير من تعميم الشتم أو الهجاء بسبب عداوة؛ فقال عليه الصلاة والسلام: «أعظم الناس فرية لَرَجلٌ هاجى رجلاً فهاجى القبيلة بأسرها)(18)»(19).

المظهر التاسع : التقليد الأعمى والجمود في التفكير:

التقليد الجامد تعطيل للفكر وجعل العقل تابع لغيره؛ وهذا أمر مذموم شرعًا وعقلاً؛ فقد أمر الله عز وجل الناس بإعمال العقول والأفكار بتجرد وإخلاص لأن ذلك يقودهم إلى الحق.

كما ذم الله عز وجل من يسلم عقله لمخلوق مثله يتعصب له وينظر بفكره وعقله، ويقلده التقليد الأعمى المذموم؛ قال تعالى عن المشركين الذين اتبعوا آباءهم وقلدوهم في الشرك والضلال: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (البقرة:170)، وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (الزخرف:23).

أما التقليد والاتباع في الحق فهو ممدوح؛ لأنه لا يأتي إلا بعد إعمال الفكر في هذا الحق وظهور خيريته وصوابه، فحينئذ يتعين اتباع من جاء بهذا الحق والانقياد له.

ومن سمات الفكر المقلد جموده على عادات ورواسب ما أنزل الله بها من سلطان، اللهم إلا التعصب للآباء والأجداد، أو التعصب والتحزب للطائفة، أو الحزب الذي ينتمي إليه صاحب هذا الفكر.

وقد جاء الإسلام بمنهج عظيم في التفكير من أبرز سماته: رفضه لمناهج الجاهلية ورواسبها في الفكر القائم على التعصب لما عليه الآباء والأجداد، وإنشاء المنهج الصحيح للتفكير المبرأ من الخلل.

يقول سيد قطب - رحم الله تعالى -: «إن وظيفة المنهج الرباني أن يعطينا - نحن أصحاب الدعوة الإسلامية - منهجًا خاصًا للتفكير نبرأ به من رواسب مناهج التفكير الجاهلية السائدة في الأرض؛ والتي تضغط على عقولنا وتترسب في ثقافتنا. فإذا نحن أردنا أن نتناول هذا الدين بمنهج تفكير غريب عن طبيعته من مناهج التفكير الجاهلية الغالبة، كنا قد أبطلنا وظيفته التي جاء ليؤديها للبشرية، وحرمنا أنفسنا فرصة الخلاص من ضغط المنهج الجاهلي السائد في عصرنا، وفرصة الخلاص من رواسبه في عقولنا وتكويننا، والأمر من هذه الناحية كذلك يكون خطيرًا، والخسارة تكون قاتلة ...»(20).

 

 

 

المظهر العاشر : التفكير التسويغي:

ويسمى بالتفكير التبريري أو الإسقاطي. وهذا لا يظهر إلا عند حصول الأخطاء والمشاكل؛ فلأجل تبرأة النفس منها تتم الإحالة إلى أسباب خارج النفس، وإسقاط الخطأ عليها بدلاً من الاعتراف بالخطأ والشجاعة على مواجهته ومعالجته.

وعندما لا يوجد سبب ظاهر يحال إليه الخطأ فإن صاحب هذا التفكير يبادر إلى إخلاء نفسه من أي مسؤولية بإلقاء التبعة على الأقدار، وهو حق يراد به باطل.

يقول الدكتور بكار: «لا يثبت العقل قدرته وكفاءته على العمل في مجال كما يثبتها في مجال التعليل والتسويغ لأفعالنا ومواقفنا؛ فالطفل ابن الرابعة يحاول أن يقنعك ببراءته من عمل غير مقبول ولا يُعرف فاعله. وأعتى المجرمين وأعظمهم أذية يجد دائمًا ما يقوله في قاعة المحكمة. والذين يمارسون ذلك يوقعون الضرر بأنفسهم أولاً؛ حيث إن المسوغات التي يدلي بها المقصرون والمتورطون في جرائم، تستخدم مرتين: مرة عند التلبس بما يتطلب الاعتذار، ومرة عند ممارسة الاعتذار. وعلى مدار التاريخ كانت أكبر مشكلة تعاني منها النظم الأخلاقية في العالم كله مشتقة من قدرة العقل على تبرير الأمور الشنيعة؛ حيث إن من السهل أن يقول فلان من الناس: سرقت لأنني كنت جائعًا، وفلان لم يسرق لأنه لم يكن بحاجة؛ وأن يقول آخر: لم أصل أرحامي لأنهم انطوائيون ولا يرغبون في إقامة علاقات معهم؛ وأن يقول ثالث: قتلت فلانًا لأنه أغضبني إلى درجة أني فقدت وعيي ولم أشعر بما فعلت، وهكذا ... وهذا في الحقيقة هو الذي يحوّل الأخلاق من أشياء مطلقة إلى أشياء نسبية، وهذا ما يذهب بالكثير من سلطانها على توجيه السلوك.

الهدف من وراء التفكير التبريري يتمثل على نحو أساسي في التهرب من المسؤولية عن التقصير في أداء واجب، أو في التهرب من المسؤولية عن عملٍ ما لا ينبغي القيام به. وبما أن كل واحد منا معرَّض للوقوع في هذا وذاك؛ فإننا جميعًا نحسن فن التبرير، ونولد فيه أنماطًا وأفكارًا جديدة؛ لكن يزيد ذلك على نحو ظاهر حين يكون الأفراد أو الجماعات أو الشعوب في أزمة شديدة أو في حالة بائسة؛ إذ يكثر لديهم آنذاك التلاوم، وتقاذف المسؤولية، ويكثر معه التنصل من تلك المسؤولية عن طريق التبرير، وبهذا يمكن القول: إن التخلف بكل أشكاله يعد أفضل وسط لنمو بكتيريا التبرير!

ولذا فإن التفكير التبريري يقوم على الدعامتين التاليتين:

1- ينطوي التفكير التبريري على نوع من الإحساس بالضعف، وهذا شيء طبيعي ما دمنا لا نلجأ إليه - غالبًا - إلا عند وجود مشكلة. الناجحون والأقوياء لا يبررون، ولكن يشرحون أسباب نجاحهم، ويشيعون في الجو العام روح الاعتزاز والتفاؤل.

2- يولد إدمان التبرير من الشعور بالدونية، واحتقار الذات اليوم لدى كثير من الخيّرين الغيورين؛ فهم يبررون تفرق المسلمين بهيمنة الغرب الذي لا يريد لنا أن نتحد. ويبررون تفوق اليهود في فلسطين - مع ضآلتهم - على العرب والمسلمين - مع كثرتهم - بدعم الغرب لهم. ويبررون التخلف العلمي والتقني في بلاد المسلمين بنهب الاستعمار لخيرات بلادنا وحجبه أسرار التقنية عنا. وهكذا إلى ما لا نهاية..!!

لا ريب أن شيئًا من هذه التفسيرات صحيح، لكن من شأن مدمني التفكير التبريري إهمال الدور الشخصي للأمة في كل ذلك؛ فهم حتى لا يتحملون أو يحملوا البلاد الإسلامية أي مسؤولية؛ لا يذكرون القصور الذاتي للأمة على مستوى الفكر والاعتقاد، وعلى مستوى السلوك والعمل. ولست أدري كيف يمكننا أن نمارس النقد الذاتي ونحن نأبى وضع النقاط على الحروف في توضيح دورنا في الأزمات التي نعيشها؟!

إن مما يجب تقريره هنا أن أزمات المسلمين ومشكلاتهم محكومة بنوعين من الشروط والموثرات: شروط ومؤثرات داخلية، وشروط ومؤثرات خارجية؛ وإن تأثير كل ما هو خارجي يظل محدودًا ما لم يزحزح بعض الشروط والمؤثرات الداخلية ويحل محلها؛ فحين يؤدي ضغط الغرب علينا إلى استلاب إرادة المقاومة، أو يؤدي إلي تقليده، أو إلى فساد أفكارنا وسلوكاتنا، فإن ضغوطه علينا تتحول من مؤثرات خارجية إلى مؤثرات داخلية، تعمل كما يعمل القصور الذاتي للأمة. وإعطاء الأهمية الكبرى للمؤثرات الداخلية واضح في قول الله - عز وجل -: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران:165)، وقوله: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (آل عمران:120))(21).

المظهر الحادي عشر: التفكير الانعزالي :

وهذا النوع من التفكير يميل بصاحبه إلى اعتزال الناس والوحشة منهم، والميل إلى الوحدة بحجة الجمعية على الله عز وجل والدار الآخرة. وهذا النوع من التفكير يكثر عند المتصوفة ومن تأثر بفكرهم مما يؤدي بهم إلى تصورات وسلوكيات مختلة؛ كترك الأسباب وترك الدنيا، والتواكل، والتفريط في كثير من الواجبات الشرعية كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى.

المظهر الثاني عشر: التفكير الهابط الدنيء :

وهو ذلك التفكير الذي يحصر صاحبه في الأمور الدونية الدنيئة البعيدة عن معالي الأمور؛ كالتفكير في زهرة الحياة الدنيا والنساء وإدمان التفكير فيها، بل يتجاوز الأمر عند أصحاب هذا التفكير إلى إعمال الفكر في الشهوات المحرمة والتحايل على الوصول إليها.

وشتان بين من فكره في معالي الأمور كأمور الآخرة وأمور الدين والدعوة والجهاد ونفع العباد، وبين من فكره يحوم على الشهوات والأماني الباطلة والخواطر الرديئة.

وفي ذلك يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - «... وهذا معنى قول بعض السلف: القلوب جوالة؛ فقلب يطوف حول الحش، وقلب يطوف مع الملائكة حول العرش. فأعظم عذاب الروح انغماسها وتدسيها في أعمال البدن واشتغالها بملاذه، وانقطاعها عن ملاحظة ما خلقت له وهيئت له ...»(22).

ومن ذلك: الانصراف عما يصيب الدين وأهله من تقتيل وتشريد، وتوجيه الهم الأكبر إلى متع الدنيا الزائلة من: مطعوم أو ملبوس أو منكوح. والسبب في وجود هذا النمط من التفكير طريقة التربية التي تربى عليها هذا النوع من الناس؛ وذلك بربطه بالدنيا وشهواتها، وبعده عن الآخرة والاستعداد لها، ومصاحبة البطالين، ورؤية صاحب هذا الفكر لقدوات هابطة متعلقة بالدنيا غافلة عن الآخرة. وكلما اشتدت الغفلة عن الآخرة تمكن هذا النوع من التفكير.

وفي ذلك يقول سيد قطب - رحمه الله تعالى -: «لا يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويحسب حسابها مع آخر يعيش لهذه الدنيا وحدها ولا ينتظر ما وراءها. لا يلتقي هذا وذاك في تقدير أمر واحد من أمور هذه الحياة، ولا قيمة واحدة من قيمها الكثيرة، ولا يتفقان في حكم واحد على حادث أو حالة أو شأن من الشؤون. فلكل منهما ميزان، ولكل منهما زاوية للنظر،ولكل منهما ضوء يرى عليه الأشياء والأحداث والقيم والأحوال. هذا يرى ظاهرًا من الحياة الدنيا، وذلك يدرك ما وراء الظاهر من روابط وسنن ونواميس شاملة للظاهر والباطن، والغيب والشهادة، والدنيا والآخرة، والموت والحياة، والماضي والحاضر والمستقبل، وعالم الناس والعالم الأكبر الذي يشمل الأحياء وغير الأحياء. وهذا هو الأفق البعيد الواسع الشامل الذي ينقل الإسلامُ البشريةَ إليه، ويرفعها فيه إلى المكان اللائق بالإنسان: الخليفة في الأرض. المستخلف بحكم ما في كيانه من روح الله»(23).

 

 

المظهر الثالث عشر: التفكير العاطفي الانفعالي:

وهو التفكير الذي تسيطر عليه في الغالب الجوانب العاطفية عند الشخص، وفي مثل هذه الأحوال يضعف سلطان العقل والعلم؛ كما يحصل عند الحب أو البغض الشديدين، أو عند الغضب السريع، أو ردود الأفعال الناجمة عن صدمات أو أخبار مفاجأة، أو عند التعرض لضغوط شديدة - سواء من داخل النفس أو خارجها - يصعب الصمود أمامها، مما يؤدي إلى الخضوع لها، وغلبة الفكر العاطفي لتبريرها. إن هذه الأحوال ومثيلاتها تجعل التفكير يبعد عن سلطان العقل والعلم الشرعي، مما يؤدي إلى انحرافات وغفلة عن المآلات التي تترتب على هذا النمط من التفكير.

وفيما يلي بعض السمات التي يتسم بها مثل هذا النوع من التفكير:

السمة الأولى: شدة الحساسية والتأثر للأحداث المباشرة المفاجأة - مهما كانت صغيرة - ويقابل ذلك الغفلة عن الأحداث الكبيرة غير المباشرة.

ويوضح ذلك الدكتور بكار بقوله: «الأخطار الصغيرة المفاجأة تثير أوسع الاهتمامات إذا وصلت إلى الناس عن طريق مباشر؛ قتل محمد الدرة قد آثار كثيرًا من المسلمين في أنحاء العالم، وفتق قرائح كثير من الشعراء على نحو لم يصنعه قتل ألوف الفلسطينيين عبر سنوات ماضية.

في عالمنا الإسلامي الكبير يموت عشرات الألوف من الأطفال نتيجة سوء التغذية، وقلة الدواء، وتقع في أماكن متفرقة من العالم مجازر رهيبة يذهب ضحيتها أبرياء كثيرون؛ لكن ذلك لا يثير فينا مشاعر الحزن والغضب والثأر، كالذي أثاره قتل محمد الدرة، وما ذاك إلا لأن الناس رأوا عبر شاشات الفضائيات صورة حية لتلك الجريمة المنكرة. أما موت عشرات الآلاف من المسلمين بطرق مختلفة فإننا عرفناه وسمعنا به على شكل روايات وحكايات تتناقل، فكان أثر ذلك ضعيفًا»(24).

من أجل ذلك أجلب أعداء الإسلام بإعلامهم الموجه إثارة الناس عاطفيًا، وشحنهم بوسائل الإعلام المختلفة، ليتوجهوا إلى ما يريده أصحاب هذه الوسائل ومن وراءهم. ولذا يجب على المسلم أن يتفطن لهذا اللعب بالعواطف والشعارات الكاذبة، وأن يحكم عقله، وقبل ذلك شرع الله عز وجل في كل ما يسمع ويرى، ويزنه بميزان الحق.

السمة الثانية: تأثر الفكر عاطفيًا لما يتعرض له الشخص من ضغوط نفسية كشدة الغضب، أو القلق والهم والحزن والخوف .. إلخ، أو ما يتعرض له من ضغوط خارجية تطالبه بمسايرتها، أو قد تدفعه إلى مصادمتها قبل أوان ذلك. وفي مثل هذه الأحوال يضعف في الغالب سلطان العقل، وسلطان الشرع، وتسيطر العواطف على الأفكار، مما ينجم عن ذلك مواقف وممارسات تخالف مقاصد الشريعة وبدهيات العقول.

ولذلك ينصح من يتعرض لضغوط نفسية أن يبتعد عن ردود الأفعال، وأن يرجئ التفكير حتى تهدأ نفسه ويحضر عقله، ويستضيء بنور الشرع.

السمة الثالثة: صاحب الفكر العاطفي لا ينظر إلى مآلات الأمور وعواقبها، وإنما يحصر نفسه في الحدث أو المشكلة التي أمامه ويسعى للتعامل معها بشكل عاطفي. وهو في الغالب متسرع وقليل المشاورة، وقليلاً ما يقبل النصح، ولا ينظر إلى ما يترتب على ذلك من مصالح أو مفاسد. ولا يخفى ما في ذلك من المفاسد العظيمة، والواقع يشهد بذلك، ولو كان ذلك منطلقًا من حب الإسلام والدفاع عنه ومواجهة أعدائه؛ لأن الحماس لهذا الدين إن لم تضبطه مقاصد الدين وقواعد الشريعة فإنه يضر صاحبه والمسلمين معه.

السمة الرابعة: الاهتمام بالاستثنائي أو الشاذ، وإهمال المطرد والقاعدة، وبخاصة إذا كان الاستثنائي يلبي طموحات بعض الناس ويوافق رغباتهم، وينسجم مع عواطفهم وميولهم النفسية.

ومن ذلك ما وقع فيه أهل البدع بولوعهم بالمتشابه، وتركهم للمحكم، والوقوف مع الجزئيات والاستثناءات ليهدموا بها قواعد وكليات؛ كما كان ذلك من الخوارج والمرجئة والقدرية والجبرية وغيرهم.

ويذكر د. بكار بعض الأسباب التي تجعل بعض الناس يترك القاعدة ويتعلق بالمستثنى منها في قوله:

«1ـ نحن نحتفي بالشاذ، ونبني عليه في بعض الأحيان لأنه جاءنا من طريق مباشر، أو لأنه مأخوذ من قصة حديثة وقريبة من الذاكرة؛ هب على سبيل المثال أنك قررت شراء سيارة من طراز معين، وقرأت في كل المجلات التي تعنى بشؤون السيارات ومواصفاتها، وحدث لديك اطمئنان لذلك الطراز الذي وقعت عينك عليه بعد أن درست الإحصاءات عن تكرر الإصلاح، وعن كمية الوقود التي تستهلكها، وعن درجة الأمان المتوفرة فيها ...وبناء على كل ذلك عزمت على الاتجاه إلى أحد معارض السيارات لشراء واحدة منها، فإذا بجار لك، والذي يملك سيارة من عين الطراز الذي تريد شراءه، يزورك فجأة، ويقص عليك حكاية معاناته مع سيارته، مما جعله يترك لديك انطباعًا بأنها سيارة سيئة وليس من الحكمة اقتناؤها.

إنك غالبًا ستغير رأيك، وتعدل عن شراء ذلك الطراز إلى غيره، ضاربًا بعرض الحائط كل التقارير، والدراسات الموثقة التي قرأتها لتأخذ بكلام رجل تعرفه، وتثق به، ويمثل حديثه آخر ما يدخل في ذهنك حول السيارة المذكورة، مع أن هناك احتمالاً قويًا بأن تكون معاناة الرجل مع سيارته بسبب سوء استخدامه لها وإهماله لصيانتها، أو لكونها تعرضت لحادث كبير فيما مضى سبَّب خللاً كبيرًا في تجهيزاتها ...

2- حين يجسد الاستثنائي أحلامنا وأوهامنا، فإننا نراه ونتعلق به، ولا نرى الأشياء التي تمثل القاعدة أو الاطراد. وهذا واضح جدًا لدى مدمني المقامرة عن طريق ما يسمى بـ (اليانصيب)؛ حيث إن الذين يفوزون بجائزة لا يشكلون في كثير من الأحيان واحدًا على ألف من الخاسرين، ومع ذلك فإن مدمني المقامرة لا يرون إلا ذلك الواحد، مع أنهم هم أنفسهم خسروا عشرات المرات، لكن في كل حالة خسارة يزداد تشوقهم إلى الربح. إنها الأوهام والأحلام بالفوز بضربة الحظ التي يؤمنون بها ...

3- مداركنا تلتقط الصورة المفردة، وتتعامل معها على أنها أشياء مطردة. والشاذ في الخير والشر، والحسن والقبيح، والقوة والضعف هو دائمًا متفرد. وعلى سبيل المثال فإننا إذا رأينا رجلاً قد بنى مسجدًا فإنا نعد ذلك العمل الخير ملخصًا أمينًا لكل سيرته الذاتية ولا تتساءل في الغالب عن سلوكه الشخصي ومدى استقامته، ولا عن الأموال التي أنفقها في بناء المسجد والتي قد تكون من كسب محرم ...»(25).

وأضيف في مقابل ما ذكره د. بكار في الفقرة الأخيرة ما يقابلها وهو: أنا لو رأينا أحد المسلمين وقد ارتكب خطأً ما - سواء كان ذلك الخطأ عن ضعف منه أو اجتهاد - فإنا نقف مع هذا الخطأ الذي قد يكون استثنائيًا في حياته وننسى ما طرد في حياته، وغلب عليه من سلوك طيب، وعبادة قوية، وبلاء حسن في الدعوة إلى الله عز وجل. ومنشأ هذا يكون من الظلم والجور، أو من غلبة العاطفة ومفاجأة الموقف، وقد سبق قريب من هذا الكلام عن (أحادية النظرة) كخلل فكري منتشر بين كثير من الناس.

 

المظهر الرابع عشر: إعمال الفكر في النقد ومتابعة الأخطاء والعيوب:

ويقع في هذا الخلل بعض الناس الذين يغلب على تفكيرهم تتبع عثرات فلان وفلان من الناس، والولوع بتصيُّدِها وتقييدها، والتفكه بها. وهذا يوقع في مرض الغيبة والنميمة والحسد والحقد. ويلحق بهؤلاء من يجعل جل تفكيره وهمه في متابعة الأعمال القائمة، وبخاصة الأعمال الخيرية، والدعوية، وملاحقة أخطائها، والقائمين عليها دون أي عمل إيجابي يترتب على ذلك، أو قدرة على إيجاد البدائل المناسبة لما ينقده من أعمال، ودون ذكر لمحاسن الأعمال والقائمين عليها.

يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «ومن الناس من طبعه طبع خنزير؛ يمر بالطيبات فلا يلوي عليها، فإذا قام الإنسان عن رجيعه قمَّه. وهكذا كثير من الناس يسمع منك ويرى من المحاسن أضعاف أضعاف المساوئ فلا يحفظها ولا ينقلها ولا تناسبه، فإذا رأى سقطة أو كلمة عوراء وجد بغيته وما يناسبها فجعلها فاكهته ونقله»(26).

ولا يعني تخطأة هذا النوع من التفكير سد باب النقد والنصح. كلا بل إن النصح المتجرد من الهوى، والنقد المنصف البناء مطلوب بين المسلمين لإصلاح العيوب وتحسين الأمور. وإنما التحذير هنا من تحول النقد من بناء إلى هدم، وهوى، وشفاء غيظ، وغيبة ونميمة.

المظهر الخامس عشر: الخلل في ترتيب الأولويات أثناء التفكير :

يتميز عصرنا الحاضر بكثرة مشكلاته وهمومه، وكثرة الواردات على التفكير من أمور وقضايا بعضها أهم من بعض، وبعضها يعارض بعض. وتتزاحم الواردات على الفكر حتى لا يدري صاحب التفكير بأيها يبدأ، ولا أيها يترك عند التزاحم. ولذلك يقع كثير من الناس في الخلل الفكري في ترتيب هذه الأولويات؛ وذلك بتقديم الملح على المهم، والمهم على الأهم في تفكيره، وتقديم الصغير التافه على الكبير الخطير؛ مما ينشأ عنه فوات مصالح كبيرة أو الوقوع في مفاسد كبيرة.

وقد قعد أهل العلم قواعد عظيمة مستنبطة من الكتاب والسنة يتم بها ترتيب الأولويات، وذلك عند تعارض المصالح بعضها مع بعض أو عند تعارض المفاسد، أو تعارض المصالح مع المفاسد. وإذا تعارضت في الفكر مصلحتان بأيهما يبدأ ويهتم، فإنه ينظر إلى أيهما يغلب على الظن تحققه منهما فيأخذ بالغالب، ويترك المتوهم؛ فإن تساويتا في درجة تحققهما فإنه ينظر إلى أيهما أعظم خيرًا ومصلحة فيقدم المصلحة العظمى على الأقل منهما، وكذلك الحال في تعارض مفسدتين يخشى من الوقوع فيهما فإنه ينظر إلى أيهما يغلب على الظن وقوعها فتدفع. وإن تساوتا في تحقق وقوعهما فإن المتعين حينئذ ارتكاب أهون المفسدتين لدفع أعظمهما.

وفي ذلك يقول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: «فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين؛ فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان. ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعًا، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعًا»(27).

ثم يضرب لهذه القاعدة مثالاً فيقول: «فإذا لم يمكن منع المظهر للبدعة والفجور إلا بضرر زائد على ضرر إمامته لم يجز ذلك، بل يصلي خلفه ما لا يمكنه فعلها إلا خلفه؛ كالجُمع والأعياد والجماعة إذا لم يكن هناك إمام غيره، ولهذا كان الصحابة يصلون خلف الحجاج، والمختار بن أبي عبيد الثقفي وغيرهما الجمعة والجماعة؛ فإن تفويت الجمعة والجماعة أعظم فسادًا من الاقتداء فيهما بإمام فاجر، لا سيما إذا كان التخلف عنهما لا يدفع فجوره فيبقى ترك المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة»(28).

وقد يقول قائل: ما علاقة هذه الموازنات بالتفكير وهي مسائل عملية تطبيقية، وليست نظرية فكرية؟ والجواب أن يقال: إن مبدأ كل إرادة وعمل ينشأ عن التفكير والنظر، فإذا كانت الأولويات مرتبة في الفكر بحيث يبدأ بالأهم ثم المهم نشأ عن هذا التفكير إرادة وعمل مترتب في الواقع كما هو في التفكير.

المُهِمُّ والمُلِحُّ :

يخلط كثير من الناس في ترتيب الأوليات في التفكير بين المهم والملح؛ فيقدم دائمًا المُلِحُّ على المهم ومن هنا ينشأ الخلل. ولو جلس أحدنا مع نفسه يفكر بما يعتقد أنه في مقدمة الأمور المهمة في حياته - وبالنسبة للمسلم فإن أهم شيء في حياتـه دينـه ورضـا ربـه سبحانه - لكن لو سأل الواحد منا نفسه بعد ذلك: هل أعطى هذه الأمور التي هي أهم شيء في حياته الاهتمام والوقت اللازمين أم أنه أعطى الأمور الملحة ذلك الاهتمام والوقت؟

إننا وللأسف نلحظ فجوة واسعة بين ما نعتقد أنه هو المهم في حياتنا وبين الأمور التي نعطيها فعلاً اهتمامنا وأوقاتنا. ولتوضيح هذا الكلام أضرب لذلك الأمثلة التالية:

المثال الأول: تقديم الدنيا على الآخرة وأمور الدين:

لقد خلقنا الله عز وجل لغاية عظيمة: لنعبده ونوحده، ثم يميتنا، ثم يبعثنا ليوم الجزاء والحساب. ومن رحمته سبحانه أن سخر لنا ما في الأرض جميعًا لنستعين به على عبادته سبحانه، وإقامة دينه في الأرض. ومع هذا فقد انعكس الأمر عند أكثر الخلق، ولم يسلم منه كثير من المسلمين؛ فبدلاً من أن تكون الدنيا خادمة ومملوكة في سبيل عبادة الله عز وجل، أصبحت مالكة مخدومة، ولو تعارضت مع الدين قدمت عند كثير من الناس على عبادة الله عز وجل ومرضاته، وبذلك تنقلب الأوليات، لتصبح الغاية وسيلة والوسيلة غاية. وإذا أردنا أن نختبر أنفسنا لنكتشف أهم الأمور التي تشغل تفكيرنا فلنسأل أنفسنا عن الأمور التي تحتل مكان الأولوية في اهتمامنا وتفكيرنا وما ترتيبها في سلم الأولويات. وعندئذ سيظهر التفاوت بين الناس، ويعرف كل شخص أهم الأولويات في تفكيره - سواء كانت خطًأ أو صوابًا - وعند الامتحان يكرم المرأ أو يهان. وسنعلم حين ينكشف الغبار أخيل تحتنا أم حمار!!

فبعضنا قد تكون الأمور التي تشغل فكره حسب الترتيبات التالية: أمور الزواج ومتطلباته، ثم أمور الوظيفة وسبل ترقيته فيها، ثم مشروع تجاري، ثم أمور دينه وعبادته ودعوته.

فمثل هذا مصاب بخلل في ترتيب الأولويات، فأخرَّ المهم وهو دينه ودعوته، وقدم المُلِح الأقل أهمية، وهكذا في بقية الاهتمامات. بل من الناس من يسيطر على فكره واهتمامه توافه الأمور من هذه الدنيا الفانية غافلاً عن عظائم الأمور في دينه وآخرته.

وذلك كمن يسيطر على فكرة مثلاً منزله الجديد، وما لون الدهان المناسب، وما نوع بلاط الحمامات، وغيرها من التوافه التي تشغل فكره وتقوم وتقعد معه، غافلاً عن مصاب المسلمين وجراحاتهم في كل مكان، غافلاً عن الموت والاستعداد للرحيل.

المثال الثاني: إن تربية الأولاد تربية إسلامية يدركون من خلالها لماذا خلقوا فيعبدون ربهم ويستعدون ليوم رحيلهم ويتخلقون بالأخلاق الإسلامية الرفيعة ويجاهدون في سبيل الله عز وجل مهمة عظيمة.

وإن هذه المهمة لمن أهم المهمات وأوجبها على الآباء،ولكن كثيرًا منا اليوم قد غفلوا عن هذه المهام العظيمة والتفكير فيها، وقدموا عليها ما هو أقل منها لأنها عندهم ملحة؛ كالانشغال بالعمل والوظيفة والتجارة والانتدابات؛ فآثروها على جلوسهم مع أولادهم ليسمعوا منهم ويؤدبوهم ويربوهم.

ومن ذلك تقديم الانشغال في التفكير بدراسة الأولاد وطعامهم ولباسهم وصحتهم - مع أهميتها - على التفكير في دينهم وأخلاقهم وتربيتهم التربية الإسلامية التي تجلب لهم السعادة في الدنيا والآخرة.

المثال الثالث: بر الوالدين وخدمتهم واجب شرعي لا يُقدَّم عليه إلا ما هو أوجب منه؛ ومع ذلك نجد الكثير منا من يقدم بعض النوافل على طاعة الوالدين، أو ينشغل بأصدقائه أو ببعض جوانب الدعوة الكفائية عن خدمة والديه وإرضائهما. بل قد يقدم بعض التوافه من المباحات على هذا الواجب العظيم.

المثال الرابع: في أداء الصلاة المكتوبة، أو النافلة نجد الكثير منا ينصرف بفكره عن عبادته المهمة التي يناجي فيها ربه، ويشغل فكره بأمور الدنيا التي لا تكون شيئًا عند تدبر الصلاة وأذكارها. ولذلك والله أعلم شرع لنا في الصلاة أن نقول الله أكبر بين كل ركن وآخر حتى ينتبه الشارد ويرجع الفكر إلى الأمر المهم، وكأنه يقول: الله أهم وأعظم وأكبر مما يشرد إليه الذهن وينشغل به الفكر عن صلاته.

المثال الخامس: الانشغال عن النفس ومحاسبتها والتفكير في عيوبها وآفاتها بالانشغال بالناس وعيوبهم.

المثال السادس: الخلل في ترتيب منازل الخصوم والأعداء؛ لأن الأعداء ليسوا على درجة واحدة، وليس انحرافهم على مرتبة واحدة؛ فخطورة الكافر والمنافق وعداوتهما ليست كالمبتدع من أهل القبلة. وخطورة الكافر تختلف أيضًا حسب شدة الكفر وإفساده؛ فالكافر المسالم ليس كالكافر المحارب الصاد عن سبيل الله عز وجل.

وفي ضوء هذه الأنواع من الكفرة وغيرهم نستطيع أن نحدد أولوياتنا في من نوجه إليه حربنا وصراعنا؛ لأنه كلما حصرت بؤرة الصراع وركز عليها كانت أشد أثرًا ونكاية في العدو. والعكس من ذلك فيما لو تعددت بؤر الصراع، وبخاصة في مثل زماننا اليوم الذي ليس للمجاهدين فيه شوكة قوية تستعد لمواجهة أكثر من عدو وجبهة في وقت واحد.

فتحديد الأولويات في جهادنا مع الأعداء أمر مهم ومطلوب حتى لا نترك المهم ونشتغل بما دونه، وهذا الأمر يحتاج إلى فقه عميق بالموازنة بين المصالح والمفاسد، وإلى فقه بمقاصد الشريعة وترجيح خير الخيرين، ودفع شر الشرين، وخير مثال لذلك موقف ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في تجييش الأمة بما فيها بعض المبتدعة كالأشاعرة والصوفية من أهل القبلة في حرب التتار الكفرة.

المثال السابع: الخلل في ترتيب الحقوق بحيث لا يتقدم حق على حق آخر؛ فقد يجد المسلم لذة وأنسًا في عبادة من العبادات قد تنسيه أو تجعله يغفل عن عبادة أخرى أو حق آخر يتعلق بحقوق العباد هو أوجب عليه، وأحب إلى الله عز وجل وأرضى له سبحانه. وخير مثال لذلك ما جاء في الرواية الصحيحة التالية:

عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة. فقال لها: ما شأنك؟ فقالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء فصنع له طعامًا، فقال له: كل فإني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل. فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال: نم، فنام. ثم ذهب يقوم، فقال: نم. فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا. فقال له سلمان: إن لربك عليك حقًا، وإن لنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صدق سلمان» أخرجه البخاري(29). وزاد الترمذي فيه «ولضيفك عليك حقًا»(30).

وعن التفاوت بين العبادات وكيف يرتبها المسلم حسب الأولوية عند التزاحم يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «والأفضل في وقت حضور الضيف مثلاً القيام بحقه والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل.

والأفضل في أوقات السحر: الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والاستغفار...

والأفضل في أوقات الأذان: ترك ما هو فيه من ورده والاشتغال بإجابة المؤذن ...

والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه، أو البدن أو المال: الاشتغال بمساعدته، وإغاثة لهفه، وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك...

والأفضل في أيام عشر ذي الحجة: الإكثار من التعبد - لا سيما التكبير والتهليل والتحميد - فهو أفضل من الجهاد غير المتعين.

والأفضل في العشر الأخيرة من رمضان: لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف، دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم وإقرائهم القرآن عند كثير من العلماء.

والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته: عيادته وحضور جنازته وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك ...

فالأفضل في كل وقت وحال: إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه»(31).

ويضاف إلى ما ذكره ابن القيم - رحمه الله تعالى - الأمثلة التالية:

إذا ضاق وقت صلاة حاضرة وفائتة فيقدم أداء الحاضرة على الفائتة في الأداء.

إذا تزاحم واجب بأصل الشرع وواجب بالنذر قدم الواجب بأصل الشرع؛ كمن نذر أن يتصدق وعليه زكاة ولا يمكن أن يؤدي الواجبين معًا، فإنه يؤدي الزكاة ولو فات الوفاء بالنذر.

ومثال ذلك أيضاً: لو ضاق الوقت على قضاء رمضان وهناك نذر صوم فعليه أن يقدم القضاء على النذر.

لو تزاحم واجب عيني متعلق بمصلحة عامة للمسلمين مع واجب عيني متعلق بمصلحة خاصة؛ فإن الواجب العام مقدم على الخاص، كما لو تعارض أداء الجهاد العيني مع طاعة الوالدين.

لو تعارض واجب مقطوع بوجوبه مع واجب مختلف في وجوبه فإن الواجب المقطوع بوجوبه يقدم على المختلف في وجوبه، كما لو تعارض الجهاد المختلف في وجوبه مع طاعة الوالدين المقطوع بوجوبها.


وصايا ونصائح لتجنب الخلل في التفكير

أوجهها إلى نفسي وإخواني المسلمين

أولاً : يجب علينا أن نتعلق بالله سبحانه وتعالى، ونسأله الهداية والتوفيق؛ فهو سبحانه الذي بيده قلوبنا وأفكارنا وشؤوننا كلها؛ فمن يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلا هادي له، ولو وكل العبد إلى نفسه وعقله لخاب وخسر.

والأدعية في ذلك كثيرة منها:

قوله صلى الله عليه وسلم: «يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين»(32).

ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اهدني فيمن هديت»(33).

وقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم رب جبرائيل ومكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»(34).

وقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اهدني وسددني»(35)، وغيرها من الأحاديث النبوية الجامعة. وهنا يأتي دور الاستخارة وأهميتها في الهداية إلى الحق والصواب؛ لأن الله سبحانه هو الذي يعلم ولا نعلم، ويقدر ولا نقدر، وهو علام الغيوب.

ثانيـًا: إشغال الفكر بالغاية التي من أجلها خُلقنا؛ وهي عبادة الله وحده وتوحيده، وأن يكون همنا هو تقديم مرضاة الله عز وجل في كل أمر يشغل بالنا، وأن يكون ذلك هو محور اهتمامنا وتفكيرنا، وأن نفكر في كل ما من شأنه أن يقوي هذه الغاية ويزيد في إيماننا؛ وذلك بالتفكر في المجالات الثمانية التي مرت بنا في ثنايا البحث.

ثالثًـا: إنشاء هم الآخرة وإعمال الفكر في هذه العمر القصير واشغاله في طاعة الله تعالى، والاستعداد ليوم الرحيل والوقوف بين يدي الله تعالى، ووزن كل شيء في هذه الدنيا بميزان الآخرة وبقائها واليقين بفناء الدنيا وزوالها.

رابعـًا: اجتناب الظن والهوى، ومحاسبة النفس على ذلك؛ فالهوى والظن وعدم التثبت هي من أخطر ما يكون على عقل العبد وفكره، إذ هي من أخطر الأسباب في رد الحق واتهام أهله بما هم منه براء؛ قال تعالى عن الكفار: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى) (النجم: من الآية23). وهي التي توقع صاحبها في الجور والظلم والعدوان.

وهي أيضاً السبب في كثير من مظاهر الخلل في التفكير كما مر بنا. وهنا نؤكد على أثر الإخلاص والتواضع في سلامة التفكير والانقياد للحق عند ظهوره.

خامسًا: الحرص على البصيرة في الدين، والتفقه والعلم بشرع الله عز وجل، وترسيخ المعتقد الصحيح؛ إذ إن بعض مظاهر الخلل في التفكير إنما تنشأ من الجهل، واتباع الشبهات، كما وقع ذلك لكثير من أهل البدع. ولذلك كان السلف ينهون عن مجالسة أهل البدع وقراءة كتبهم.

كما أن في الفقه بالشرع الإحاطة بمقاصد الشريعة، وفقه الموازنات بين المصالح والمفاسد، والتي تنشأ بعض مظاهر الخلل من الجهل بها وإغفالها.

سادسًا: الحرص على تدبر القرآن الكريم؛ ففيه العصمة بإذن الله تعالى من أسباب الخلل والزيغ، وفيه الميزان العدل والمنهج الصحيح للتفكير. وبقدر ما يبعد العبد عن كتاب الله عز وجل والاهتداء بهديه بقدر ما يقع في كثير من مظاهر الخلل في الفكر والقول والعمل.

سابعًا: محاسبة النفس وتهذيبها والتعرف على آفاتها، وتنقيتها من أدران الحسد والحقد والكره للمسلمين؛ إذ إن هذه الآفات تقود صاحبها إلى الهوى والجور والظلم في تفكيره وسلوكه.

ثامنـًا: التأني في جميع الأمور والحذر من العجلة في المواقف، والأحكام والقرارات، وتعويد الفكر على التؤدة والأناة، والتعمق في الأمور وكثرة المشاورة، والتفكير في المآلات؛ فكم من متعجل ومتسرع ندم على فعله الناشئ من عجلته في تفكيره وأحكامه، ولكن حيث لا ينفع الندم.

ومن ذلك الحذر من الانسياق الدائم وراء الحماسات والانفعالات والإشاعات وردود الأفعال الآنية، وضبط ذلك بضابط الشرع والعقل.

تاسعًا: تبصير النفس وتوطينها على الثبات، وعدم الطيش، والحذر من الانسياق وراء الاستفزازات، والرضوخ للاستخفافات التي قد يقوم بها المبطلون ليخرجوا المسلم عن طوقه وعقله لينساق وراء عاطفته ووراء ردود الأفعال المنفلتة من العلم والعقل. قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (الروم:60). فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم محتاجًا إلى هذه الوصية فمن دونه أولى وأحوج.

عاشرًا: البعد في أثناء العملية التفكيرية عن المشوشات الذهنية، والضغوط النفسية أو الضغوط الخارجية، والتي يكون لها تأثيرٌ مباشرٌ على التفكير والمواقف واتخاذ القرارات. ومن هذه المشوشات شدة الغضب، والقلق والهم والحزن، والجوع والخوف الشديدين، وما سوى ذلك من المزعجات. فعندما يشعر الشخص بمثل هذه المؤثرات فعليه أن يهدأ حتى تختفي أو تخف هذه الضغوط حتى يسلم من الخلل الفكري الذي يترتب عليه خللٌ في المواقف والأحكام والقرارات الناشئة من الخضوع لمثل هذه الضغوط.

حادي عشر: الحرص على تربية النشء تربية هادئة منطلقها الكتاب والسنة وسيرة سلفنا الصالح، وحفظهم من الأفكار والمناهج التي تشوش أفكارهـم وتصيبهـا بالخلل والآفـات. كما أن في رؤية المتربين للقدوات الجادة المتصفة بالتفكير السديد والعقل السليم أكبر الأثر في تنشئتهم على المنهج الصحيح في التفكير والسلوك. والتجربة أكبر شاهد لذلك؛ فمن وفقه الله عز وجل إلى أستاذ قدوة صالح، متزن في تفكيره وسلوكه، فإن المتربي في الغالب يتأثر بأستاذه وينصبغ بتفكيره. ومن ابتلي بمرب عجول مصاب بخلل في تفكيره، فإن أثر ذلك يظهر على من هم تحت توجيهه وتربيته. وهنا تأتي عظم المسؤولية على المربين، وعظم أجرهم أو وزرهم كل بحسبه.

ثاني عشر: أهمية فهم الواقعة التي يراد التفكير فيها والإحاطة بها من جميع الجوانب. وبدون ذلك يكون الفهم قاصرًا وبالتالي فالقرارات أو المواقف المترتبة على ذلك ستكون قاصرة ومتسمة بالخلل.

قال الله عز وجل: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الإسراء: من الآية36).

وهذا يجرنا إلى الحديث عن الفتيا وعلاقتها بالتفكير، حيث إنه من المعلوم أن الفتيا تقوم على فهم للواقعة المراد الحكم فيها، وعلى فهم حكم الله في مثلها، وتنزيل إحداهما على الأخرى. وفي كل مرحلة نجد للعقل دورًا مهمًا في التفكير والاستنباط.

ثالث عشر: الفهم الدقيق لما يُسمع ويُقرأ من الحق؛ لأن الخلل في الفهم يؤدي إلى الخلل في التفكير، وكلما كان الفهم صحيحًا ودقيقًا وحاضرًا كان التفاعل مع ذلك كبيراً.

قال الله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (قّ:37).

ويدخل في ذلك أثر التعبير الصحيح عن ما يدور في الذهن من أفكار ومفاهيم على السامعين؛ فالفكر الناضج والفهم الصحيح ما لم يعبر عنه بلغة فصيحة بينة فإنه ينعكس على فكر المتلقي والسامع فيفهم المسموع على غير حقيقته، وبالتالي يختل الفهم وينسب إلى المرء ما لم يقله أو يُرِدْه، وبذلك تختل المفاهيم والأفكار.

رابع عشر: الحذر من العيش في الخيالات والأوهام والأحلام الفارغة، والتعامي عن حقائق الواقع. والخيال مفيد إذا كان بقدر ما يسعى إليه الإنسان في تطويره للواقع، وتجديد ما فيه في حدود القدرة. أما إذا حلَّق بصاحبه في أجواء المستحيلات، معرضًا عن السنن الإلهية، ومدى توفر الأسباب والإمكانات من عدمها؛ فإن هذا يقود إلى خلل في التفكير والقرارات والأعمال.

خامس عشر: الحذر من اليأس والاستسلام للواقع والشعور بالعجز والإحباط؛ فإن مثل هذه الآفات تعطل فكر الإنسان وعقله طائعًا مختارًا،وهذا باب من أبواب الشيطان يؤدي إلى حدوث شلل شديد في التفكير.

سادس عشر: الحذر من التقليد الأعمى، والنظر إلى الأمور من خلال عقول الآخرين؛ فإن هذا يؤدي إلى جمود التفكير وتعويد النفس على الكسل والخمول والتخوف من التجديد والاستقلال في التفكير. كما سيؤدي إلى التعصب والتحزب المذمومين.

سابع عشر: كما أن عدم التفكير فيما خلق له الإنسان تعطيل للعقل وجحد للنعمة، فكذلك اشتغال التفكير بما لم يخلق له وما ليس في مقدوره هو تحميل للعقل بما لا يطيق؛ كمحاولة العلم بذات الله تعالى وكيفية صفاته، وبما اختص الله عز وجل به من علم الغيب والأقدار. فالحذر من اقتحام ما لم يعط العقل القدرة على إدراكه.

ثامن عشر: الفراغ نعمة من نعم الله عز وجل؛ وذلك لمن ملأه بالخير الذي يعود عليه في الدنيا والآخرة، كما أنه نقمة وغبن وخسران لمن لم يستفد منه، أو ملأه بما يعود عليه بالشر في الدنيا والآخرة، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ»(36). وليست العبرة في ملأ الفراغ، ولكن العبرة بما يملأ به هذا الفراغ. وعدم اشتغال الفكر والنفس بالعمل المفيد النافع يعود على الفكر بالخلل، وعلى العمل بالضياع؛ فالفكر جوال لا يمكن أن يهدأ ويسكن فإن لم يشغل بالحق شغل صاحبه بالباطل.

وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى-: «... فالقلب لا يخلو من الفكر إما في واجب آخرته ومصالحها، وإما في مصالح دنياه ومعاشه، وإما في الوساوس والأماني الباطلة والمقدرات المفروضة. وقد تقدم أن النفس مثلها كمثل الرحى تدور بما يلقى فيها؛ فإن ألقيت فيها حبا دارت به، وإن ألقيت فيها زجاجًا وحصى وبعرًا دارت به»(37).

تاسع عشر: البعد عن الجدل والمراء؛ لأنه يدفع صاحبه إلى التعصب لرأيه، والمماحكة بالباطل، ويثير البغضاء والشحناء ولعًا بالغلبة والانتصار على الخصم، وكل هذا تشويش على الفكر، بل يورث الأهواء التي لها الأثر الكبير في خلل التفكير.

العشرون: الحرص على الوسطية في التفكير - وهي العدل والتوازن - وذلك بأن لا يطغى جانب على آخر، وأن لا يؤدي علاج خلل معين إلى الوقوع في طرف مقابل له من الخلل؛ وذلك كمن يعالج الفكر المتسرع العجول فيقع في الطرف المقابل الذي هو الوسوسة والتردد والتخوف من النتائج، ففي هذه الحالة نكون عالجنا خللاً معينا بخلل آخر يقابله، والله أعلم(38).

 

___________________

(1) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، للألباني رحمه الله تعالى، الحديث رقم (1027).
(2) «شرح قصيدة ابن القيم»: (2/95).

(3) «خصائص التصور الإسلامي»: (ص 22).

(4) قد يكون الانعزال عن المخالفين ممدوحًا ومطلوبًا إذا كانوا مخالفين في الأصول والثوابت كما هوالحال في هجر المبتدع وهجر كتبه. ولكن المعني هنا أولئك الذين قد يخالفون في مسألة اجتهادية أو
مسألة فرعية؛ فمثل هؤلاء لا ينبغي مفارقتهم والانتقاص منهم. فصاحب الرأي المتصلب ينفر عن كل من لا يوافقه ولو كان في مسألة اجتهادية.

(5) انظر «خطوة نحو التفكير القويم» د. بكار: (67-70) بتصرف.

(6) رواه مسلم: (91).

(7) خطوة نحو التفكير القويم: (ص 73، 74) باختصار.

(8) رواه الترمذي مرفوعًا، وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي: (572)، وقد جاء موقوفًا عن ابن مسعود في تفسير الطبري: (3/88) بسند صحيح.
(9) «شرح أصول اعتقاد أهل السنة»: (1/144).

(10) «خطوة نحو التفكير القويم»: (ص 105-107) باختصار.

(11) أبو داود: (4810)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: (1794).

(12) «الصواعق المرسلة»: (4/1269، 1270).

(13) انظر «خطوة نحو التفكير القويم» د. بكار: (ص 141-144) باختصار وتصرف.

(14) انظر «خطوة نحو التفكير القويم» د. بكار: (ص 141-144) باختصار وتصرف.

(15) مسلم: في المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما يسمع، أبو داودك (4992).

(16) انظر كتاب «وكذلك جعلناكم أمة وسطًا» للمؤلف.

(17) «خطوة نحو التفكير القويم»: (ص 59-61) باختصار.

(18) رواه ابن ماجه: (2/411)، وصححه الألباني في الصحيحة (1487).

(19) «خطوة نحو التفكير القويم»: (ص 128).

(20) «في ظلال القرآن»: (2/1014).

(21) «خطوة نحو التفكير القويم: (113-116).

(22) «مفتاح دار السعادة»: (1/155).

(23) «في ظلال القرآن»: (5/2759).

(24) «خطوة نحو التفكير القويم»: (ص 51، 52).

(25) «خطوة نحو التفكير القويم»: (ص 136-139) باختصار. ولا يعني ما ذكره د/ بكار هنا الشك في نوايا المسلمين وتتبع عوراتهم وإساءة الظن بهم، لأن الأصل في المسلم لسلامة ولكن إيراده لهذا المثال هنا للتوضيح. ولو كان المثال معكوساً لكان أفضل.

(26) «مدارج السالكين»: (1/403).

(27) «مجموع الفتاوى»: (23/343).

(28) «مجموع الفتاوى»: (23/343).

(29) البخاري في الأدب، باب صنع الطعام والتكلف للضيف.

(30) الترمذي في الزهد، باب أعط كل ذي حق حقه.

(31) «مدارج السالكين»: (1/88، 89) باختصار.

(32) أورده الألباني في السلسلة الصحيحة: (227).

(33) أبو داود رقم: (1425)، وصححه الألباني في إرواء الغليل: (429).

(34) رواه مسلم في صلاة المسافرين: (770).

(35) أبو داود: (4225)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: (3556).

(36) البخاري: (6412).

(37) الفوائد: (ص 311).

(38) انظر كتاب «وكذلك جعلناكم أمة وسطًا» للمؤلف.


 

 

الخاتمـــة

الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات، والحمد لله الذي أنعم عليَّ وتفضل بإتمام هذا البحث الذي يهم كل مسلم ومسلمة. والذي لا أزعم أني قد أوفيته حقه، ولكنه جهد المقل المقصر؛ فما كان فيه من حق وصواب فمن الله عز وجل، وما كان فيه من خطأ وزلل فمني ومن الشيطان، والله تعالى بريء منه ورسوله صلى الله عليه وسلم.

أسأل الله عز وجل أن أكون في هذا البحث وغيره مخلصًا له سبحانه متبعًا لرسوله صلى الله عليه وسلم. وأسأله سبحانه أن يمن عليّ بالعمل بما فيه حتى يكون حجة لي لا عليّ. كما أسأله تبارك وتعالى أن ينفع به من كتبه وقرأه وسمعه إنه سميع مجيب.

وكما جرت العادة به في الرسائل السابقة أقف في خاتمة هذه الرسالة مع أهم ما ورد فيها من وقفات:

الوقفة الأولى :

تحدثت في المقدمة عن الدوافع التي دفعت إلى الكتابة في ضوء قوله تعالى: (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ)، وبيَّنت أنها دعوة إلى التفكير السليم، وأنها دعوة إلى استخدام العقل في التفكير فيما ينفع العبد في شؤونه المختلفة - ولا سيما أمور دينه وآخرته - وبينت أن من الدوافع لهذا الموضوع انفتاح الدنيا في هذا الزمان، وتعقيدات الحياة بحيث سيطر على تفكير كثير من عقولنا هذه الدنيا، وتشتت الذهن في وديانها مما أدى إلى الغفلة عن الآخرة، والغاية التي من أجلها خلق الله عز وجل الخلق، وتبلد الفكر أمام آيات الله عز وجل، ومن الدوافع أيضًا ما نراه من مظاهر الخلل في التفكير عند كثير منا وخطورة هذا الخلل فيما يترتب عليه من قرارات ومواقف وأحكام؛ فبيان الأسباب والعلاج هو من أهم الدوافع للكتابة في هذا الموضوع.

الوقفة الثانية :

وقفت مع أهم الآيـات التـي تدعو إلى التفكـر والتبصـر والتدبر؛ وقسمتها إلى ثمان مجموعات:

الأولى: الآيات التي تدعو إلى التفكر والتدبر لكتاب الله عز وجل.

الثانيــة: الآيات التي تدعو إلى التفكر في آيات الله تعالى في الآفاق.

الثالثــة: الآيات التي تدعو إلى التفكر في آيات الله تعالى في الأنفس.

الرابعـة: الآيات التي تدعو إلى التفكر في آلاء الله ونعمه المتواصلة.

الخامسة: الآيات التي تدعو إلى التفكر في سير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم وعاقبة الفريقين.

السادسة: الآيات التي تدعو إلى التفكر في النفس ومحاسبتها: ما عليها وما لها.

السابعة: الآيات التي تدعو إلى التفكر في حقيقة الدنيا والآخرة.

الثامنــة: الآيات التي تدعو إلى التفكر في آيات الله عز وجل الخارقة.

ثم ذكرت بعد ذلك أهم ما وقفت عليه من الأحاديث والآثار التي تدعو إلى التفكر والتدبر.

الوقفة الثالثة :

فصَّلت في الباب الأول من هذا الكتاب أقسام التفكير ومجاريه ومجالاته، وركزت على مجالات التفكير النافع الذي ذكرت أقسامه الثمانية في الوقفة السابقة، وجعلتها فصولاً وشرحتها، وذكرت أهم الثمار التي يُحصل عليها من التفكر في هذه المجالات النافعة، وهذا هو أطول مبحث في هذا الكتاب.

الوقفة الرابعة :

وهو الباب الثالث، وفيه تطرقت لما يسمى بالخلل في التفكير وذكرت أهم المظاهر التي بدت لي من نفسي ومن بعض الناس مما يدل على خلل في التفكير سواء كان ذلك الخلل صغيرًا أو كبيرًا، وضمنت كثيرًا من هذه المظاهر بعض الأسباب ووسائل العلاج ومن أهم هذه المظاهر التي تطرقت إليها:

- الغرور بالعقل والوثوق الزائد به.

- السلبية في التفكير.

- الغموض والاضطراب في التفكير.

- التعميم في المواقف.

- التقليد الأعمى والجمود في التفكير.

- التفكير التسويغي.

- المبالغة والتهويل.

- الفكر العجول المتسرع.

- التفكير المتشكك الموسوس.

- الأحادية في النظرة والتفكير.

- التفكير الإنعزالي

- التفكير الهابط الدنيئ.

- التفكير العاطفي الانفعالي.

- كثرة التفكير في نقد الآخرين وعيوبهم.

- الخلل في ترتيب الأولويات في التفكير.

وختمت الحديث عن مظاهر الخلل في التفكير ببعض الوصايا والنصائح التي وجهتها لنفسي ولإخواني المسلمين، والتي رأيت من شأنها أنها تقضي على كثير من مظاهر الخلل أو تضعفها كثيرًا.

وبعد .. « فيا أيها القارئ لهذا الكتاب: لك غنمه وعلى مؤلفه غرمه. لك ثمرته وعليه تبعته. فما وجدت فيه من صواب وحق فاقبله، ولا تلتفت إلى قائله. بل انظر إلى ما قال لا إلى من قال.وقد ذم الله تعالى من يرد الحق إذا جاء به من يبغضه، ويقبله إذا قاله من يحبه. فهذا خلق الأمة الغضبية. قال بعض الصحابة: «اقبل الحق ممن قاله، وإن كان بغيضًا ورد الباطل على من قاله وإن كان حبيبًا»؛ فإن قائله لم يأل جهد الإصابة. ويأبى الله إلا أن يتفرد بالكمال»(1).

والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الخميس 22/4/1425هـ

(1) نقلاً عن مدارج السالكين: (3/522). 
الفهــرس
الموضوع
المقدمة ....................................................
تمهيـــــد ....................................................
الباب الأول: ذكر بعض ما ورد في الكتاب والسنة
وآثار السلف في فضل التفكر والحث عليه
أولاً: ذكر بعض ما ورد في كتاب الله عز وجل من ذلك ..............
المجموعة الأولى: ما ورد في الحث على التفكر في آيات الله المتلوة ...
المجموعة الثانية: ما ورد في الحث على التفكر في آيات الله في الآفاق .
المجموعة الثالثة: ما ورد في الحث على التفكر في الإنسان وخلقه .....
المجموعة الرابعة: ما ورد في الحث على التفكر في آلاء الله ونعمه .....
المجموعة الخامسة: ما ورد في الحث على التفكر في سير الأنبياء مع أقوامهم
المجموعة السادسة: ما ورد في الحث على التفكر في النفس ومحاسبتها .
المجموعة السابعة: ما ورد في الحث على التفكر في حقيقة الدنيا والآخرة
المجموعة الثامنة: ما ورد في الحث على التفكر في آيات الله عز وجل الخارقة
ثانياً : ذكر بعض ما ورد في السنة من فضل التفكر والحث عليه ......
ثالثاً : الآثار الواردة عن السلف في فضل التفكر والحث عليه ...........
الباب الثاني: أقسام التفكر ومجاريه ومجالاته
الفصل الأول: التفكر في آيات الله عز وجل المتلوة وتدبرها ............
ذكر بعض الأمور التي تعين على تدبر القرآن الكريم ................
أولاً: معايشة معاني الآيات والملابسات التي صاحبت نزولها ..........
ثانيًا: فهم المعاني ودلالات الألفاظ وإحضار القلب عند الآيات ........
ثالثـــًا: هجر المعاصي والذنوب والتقرب إلى الله عز وجل بالطاعات ...
رابعــًا: خلو القلب من هم الدنيا والتعلق بالآخرة ...................
خامسًا: سماع القرآن من قارئ حسن الصوت .......................
سادسًا: تصحيح النية ...........................................
{ نماذج من تدبر السلف لكلام الله عز وجل وخشوعهم عند سماعه أو تلاوته
الفصل الثاني: التفكر في آيات الله عز وجل المشهودة في الآفاق .......
{ نماذج من آيات الله في الآفاق ورد الحث على التفكر فيها ...........
أولاً: من آيات الله عز وجل في خلق السماوات والأرض وما بينهما ....
ثانيًا: من آيات الله عز وجل في خلق الحيوان ......................
الفصل الثالث: التفكر في آيات الله عز وجل في الأنفس ...............
{ نماذج من آيات الله عز وجل المنظورة في الأنفس ................
الفصل الرابع: التفكر في آلاء الله عز وجل ونعمه الظاهرة والباطنة.....
أولاً: الآيات الواردة في سورة إبراهيم عليه السلام ...................
ثانيًا: الآيات الواردة في سورة النحل ..............................
فائدة: علة اختلاف خاتمة آية سورة إبراهيم عن خاتمة آية سورة النحل ..
ذكر بعض نعم الله عز وجل في خلق الإنسان وتركيبه ................
نعمة الصحة والعافية ...........................................
نعمة الله الخفية في حصول المصائب .............................
أقسام النعمة ..................................................
{ من ثمرات التفكر في نعم الله عز وجل وآلائه ....................
الثمرة الأولى: محبة الله عز وجل .................................
الثمرة الثانية: القيام بواجب الشكر لله عز وجل على نعمه .............
الثمرة الثالثة: الإزراء بالنفس والشعور بالتقصير ......................
الثمرة الرابعة: المحافظة على النعم والحذر من أسباب زوالها ..........
أقول مضيئة في شكر الله عز وجل على نعمه .......................
الفصل الخامس: التفكر في سير الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم .....
{ من ثمرات التفكر والنظر في سير الأنبياء .......................
الثمرة الأولى: الاقتداء بهم ......................................
الثمرة الثانية: التعرف على السنن الإلهية في الصراع بين الحق والباطل ..
الثمرة الثالثة: الانتظام في سلكهم والسير في قافلتهم المباركة ..........
الفصل السادس: التفكر في النفس ومحاسبتها .....................
أنواع محاسبة النفس ............................................
من ثمرات محاسبة النفس ........................................
كيف تتم المحاسبة للنفس؟ ......................................
نماذج مضيئة من محاسبة السلف لأنفسهم ...........................
الفصل السابع: التفكر في الدنيا والآخرة وحقيقة كل منهما ...........
أمثلة نبوية تدعو إلى التفكر في حقيقة الدنيا وفنائها ..................
نماذج مضيئة من تفكير السلف في حقيقة الدنيا والآخرة ..............
{ من ثمرات التفكر في الدنيا والآخرة ............................
1- الإخلاص لله عز وجل والمتابعة للرسول > .................
2- الحذر من الدنيا والزهد فيها والصبر على شدائدها وطمأنينة القلب .
3- التزود بالأعمال الصالحة واجتناب المعاصي والمبادرة بالتوبة ......
4- الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله .............................
5- اجتناب الظلم بشتى صوره ...................................
6- سلامة التفكير وانضباط الموازين .............................
7- تقصير الأمل وحفظ الوقت ..................................
الفصل الثامن: التفكر في آيات الله عز وجل الخارقة ...................
الخوارق نوعان ...............................................
الآيات الخارقة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم ...................
1- إحياؤه سبحانه للموتى ......................................
2- خلق عيسى عليه السلام من غير أب، وتكلُّمه في المهد ..........
3- مجيء الولد من المرأة وهي عجوز عقيم .......................
4- حفظ الله لموسى من فرعون .................................
5- عصا موسى عليه السلام ....................................
6- نتق الجبل وتهديد بني إسرائيل بوقوعه عليهم ...................
7- تدكدك الجبل عند تجلي الله له ..............................
8- الآيات التي أرسلت على فرعون وقومه عذابًا لهم ................
9- ناقة صالح عليه السلام ......................................
10- جعل النار بردًا وسلامًا على إبراهيم عليه السلام ...............
11- تسخير الطير والجبال يسبحن مع داود وإلانة الحديد له ..........
12- تسخير الريح والجن لسليمان وإسالة النحاس له ................
13- تعليم سليمان منطق الطير ..................................
14- إحضار عرش ملكة سبأ من اليمن إلى فلسطين في طرفة عين .....
15- نومة أهل الكهف .........................................
16- رزق مريم بغير حساب ....................................
17- إيجاد يعقوب ريح يوسف عند تحرُّك القافلة من مصر ..........
18- مسخ الذين اعتدوا في السبت قردة ...........................
19- إنجاء الله عز وجل لرسله وأتباعهم وإهلاك أعدائهم ............
20- إهلاك أصحاب الفيل بحجارة من سجيل .....................
21- خوارق ظهرت في عهد النبي > كرامة وتأييدًا له ولأصحابه ...
معجزات وخوارق أجراها الله سبحانه على يد نبيه > ولم تُذكر في القرآن
{ من ثمرات التفكر في آيات الله عز وجل الخارقة .................
1- زيادة الإيمان واطمئنان القلب ................................
2- تعظيم الله عز وجل ومحبته والخوف منه .......................
3- الثقة في وعد الله ونصره للمؤمنين ............................
الباب الثالث: الخلل في التفكير مظاهره وأسبابه
المظهر الأول: الغرور بالعقل والوثوق المطلق به ....................
المظهر الثاني: السلبية في التفكير .................................
المظهر الثالث: الغموض والتشوش والاضطراب في التفكير ...........
المظهر الرابع: التشكك والوسوسة في التفكير ......................
المظهر الخامس: التهويل والمبالغة في التفكير والتصوير ..............
المظهر السادس: التسرع والعجلة في التفكير ........................
المظهر السابـع: الأحادية في النظرة والتفكير ........................
المظهر الثامـن: الفكر التعميمي في المواقف والأحكام ...............
المظهر التاسـع: التقليد الأعمى والجمود في التفكير .................
المظهر العاشـر: التفكير التسويغي ............................
المظهر الحادي عشر: التفكير الانعزالي ............................
المظهر الثانــي عشر: التفكير الهابط الدنيء .........................
المظهر الثالـث عشر: التفكير العاطفي الانفعالي .....................
المظهر الرابــع عشر: إعمال الفكر في النقد ومتابعة الأخطاء ...........
المظهر الخامس عشر: الخلل في ترتيب الأولويات ...................
الفرق بين المهم والملح ........................................
وصايا ونصائح لتجنب الخلل في التفكير ..........................
الخاتمة ......................................................
الفهرس .....................................................

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تفسير سورة النمل

تفسير سورة النمل     تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ قَدْ اِخْتَلَفَ الْمُف...