4. تفسير سورة الأحقاف من 21 الي 28.
مشاري الاحقاف
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
================
الأحقاف - تفسير ابن كثير
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
{ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) } .
يقول تعالى مسليا لنبيه في تكذيب من كذبه من قومه: { وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ } وهو هود، عليه السلام، بعثه الله إلى عاد الأولى، وكانوا يسكنون الأحقاف -جمع حقْف وهو: الجبل من الرمل-قاله ابن زيد. وقال عكرمة: الأحقاف: الجبل والغار. وقال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: الأحقاف: واد بحضرموت، يدعى بُرْهوت، تلقى فيه أرواح الكفار. وقال قتادة: ذُكر لنا أن عادا كانوا حيا باليمن أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها: الشِّحْر.
قال ابن ماجه: "باب إذا دعا فليبدأ بنفسه": حدثنا الحسين بن علي الخلال، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يرحمنا الله، وأخا عاد" (1) .
وقوله: { وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } يعني: وقد أرسل الله إلى من حَول بلادهم من القرى مرسلين ومنذرين، كقوله: { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا } [البقرة: 66]، وكقوله: { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأنزلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } [فصلت: 13 ، 14] (2) (3) أي: قال لهم هود ذلك، فأجابه قومه قائلين: { أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا } أي: لتصدنا { عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ }
__________
(1) سنن ابن ماجه (3852) وقال البوصيري في الزوائد (3/204): "هذا إسناد صحيح وله شواهد في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي بن كعب".
(2) في م: "تولوا"، وهو خطأ.
(3) في ت، م، أ، هـ: "إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم"، والصواب ما أثبتناه.
(7/285)
استعجلوا عذاب الله وعقوبته، استبعادًا منهم وقوعه، كقوله: { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا } [الشورى: 18].
{ قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ } (1) أي: الله أعلم بكم إن كنتم مستحقين لتعجيل العذاب فيفعل (2) ذلك بكم، وأما أنا فمن شأني أني أبلغكم ما أرسلت به، { وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ } أي: لا تعقلون ولا تفهمون.
قال الله تعالى: { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ } أي: لما رأوا العذاب مستقبلهم، اعتقدوا أنه عارض ممطر، ففرحوا واستبشروا به (3) ، وقد كانوا ممحلين محتاجين إلى المطر، قال الله تعالى: { بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي: هو العذاب الذي قلتم: { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ }
{ تُدَمِّرُ } أي: تخرب { كُلِّ شَيْءٍ } من بلادهم، مما من شأنه الخراب { بِأَمْرِ رَبِّهَا } أي: بإذن الله لها في ذلك، كقوله: { مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ } [الذاريات: 42] أي: كالشيء البالي. ولهذا قال: { فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ } أي: قد بادوا كلهم عن آخرهم ولم تبق لهم باقية، { كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } أي: هذا حكمنا فيمن كذب رسلنا، وخالف أمرنا.
وقد ورد حديث في قصتهم وهو غريب جدًا من غرائب الحديث وأفراده، قال الإمام أحمد:
حدثنا زيد بن الحُبَاب، حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي قال: حدثنا عاصم بن أبي النَّجُود، عن أبي وائل، عن الحارث البكري قال: خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررت بالرَبْذَة، فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها، فقالت لي: يا عبد الله، إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة، فهل أنت مبلغي إليه؟ قال: فحملتها فأتيت بها المدينة، فإذا المسجد غاص بأهله، وإذا راية سوداء تخفق، وإذا بلال متقلد السيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ما شأن الناس؟ قالوا: يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها. قال: فجلست، فدخل منزله -أو قال: رحله-فاستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت فسلمت، فقال: "هل كان بينكم وبين تميم شيء؟ قلت: نعم، وكانت لنا الدبرة (4) عليهم، ومررت بعجوز من بني تميم منقطع، بها فسألتني أن أحملها إليك، وها هي بالباب: فأذن لها فدخلت، فقلت: يا رسول الله، إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزا فاجعل الدهناء، فحميت العجوز واستوفزت، وقالت: يا رسول الله، فإلى أين يضطر مضطرك؟ قال: قلت: إن مثلي ما قال الأول: "مِعْزَى حَمَلَت حَتْفَها"، حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصما، أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد. قال: "هيه، وما وافد عاد؟" -وهو أعلم بالحديث منه، ولكن يستطعمه (5) -قلت: إن عادًا قحطوا فبعثوا وافدًا لهم يقال له: قَيل، فمر بمعاوية بن بكر، فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان يقال لهما "الجرادتان"-فلما مضى الشهر خرج إلى جبال مَهْرة فقال: اللهم،
__________
(1) في م: "وقال" وهو خطأ.
(2) في م، أ: "فسيفعل".
(3) في م، ت: "ففرحوا به واستبشروا به".
(4) في ت، أ: "الدائرة".
(5) في أ: "يستعظمه".
(7/286)
إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه. فمرت به سحابات سود، فنودي منها: "اختر"، فأومأ إلى سحابة منها سوداء، فنودي منها: "خذها رمادًا رمددًا (1) ، لا تبقي من عاد أحدا". قال: فما بلغني أنه أرسل عليهم من الريح إلا كقدر ما يجري في خاتمي هذا، حتى هلكوا-قال أبو وائل: وصدق -وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافدًا لهم قالوا: "لا تكن كوافد عاد".
رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه، كما تقدم في سورة "الأعراف" (2) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا هارون بن معروف، أخبرنا ابن وهب، أخبرنا عمرو: أن أبا النضر حدثه عن سليمان بن يسار، عن عائشة (3) أنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعًا ضاحكا حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم. قالت: وكان (4) إذا رأى غيما -أو ريحا-عرف ذلك في وجهه، قالت: يا رسول الله، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية؟ فقال: "يا عائشة، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا". وأخرجاه (5) من حديث ابن وهب (6) .
طريق أخرى: قال أحمد: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئا في أفق من آفاق السماء، ترك عمله، وإن كان في صلاته، ثم يقول: "اللهم، إني أعوذ بك من شر ما فيه" (7) . فإن كشفه الله حمد الله، وإن أمطرت قال: "اللهم، صيبا نافعا" (8) .
طريق أخرى: قال مسلم في صحيحه: حدثنا أبو الطاهر، أخبرنا ابن وهب، سمعت ابن جريج يحدث عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: "اللهم، إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به". قالت: وإذا تَخَيَّلت السماء تغير لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سري عنه، فعرفت ذلك عائشة، فسألته، فقال: "لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا } (9) .
وقد ذكرنا قصة هلاك عاد (10) في سورتي "الأعراف وهود" (11) بما أغنى عن إعادته هاهنا، ولله
__________
(1) في ت: "رمدا".
(2) المسند (3/482) وانظر تخريج بقية هذا الحديث عند الآية: 73 من سورة الأعراف.
(3) في ت: "عائشة رضي الله عنها".
(4) في ت، م: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(5) في ت: "أخرجه".
(6) المسند (6/66) وصحيح البخاري برقم (4828، 4829) وصحيح مسلم برقم (899).
(7) في م: "من سوء عاقبته".
(8) المسند (6/190).
(9) صحيح مسلم برقم (899).
(10) في ت، م، أ: "هلاك قوم عاد".
(11) راجع قصة هلاك قوم عاد عند تفسير الآيات: 65- 72 من سورة الاعراف والآيات: 50- 60 من سورة هود.
(7/287)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
الحمد والمنة.
وقال الطبراني: حدثنا عبدان بن أحمد، حدثنا إسماعيل بن زكريا الكوفي، حدثنا أبو مالك، عن مسلم الملائي، عن مجاهد وسعيد بن جبير (1) ، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما فتح على عاد من الريح إلا مثل موضع الخاتم، ثم أرسلت عليهم [فحملتهم] البدو إلى الحضر فلما رآها أهل الحضر قالوا: هذا عارض ممطرنا مستقبل أوديتنا. وكان أهل البوادي فيها، فألقى أهل البادية على أهل الحاضرة حتى هلكوا. قال: عتت على خزانها حتى خرجت من خلال الأبواب (2) " (3) .
{ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) } .
يقول تعالى: ولقد مكنا الأمم السالفة في الدنيا من الأموال والأولاد، وأعطيناهم منها (4) ما لم نعطكم مثله ولا قريبا منه، { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي: وأحاط بهم العذاب والنكال الذي كانوا يكذبون به ويستبعدون وقوعه، أي: فاحذروا أيها المخاطبون أن تكونوا مثلهم، فيصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب في الدنيا والآخرة.
وقوله: { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى } يعني: أهل مكة، قد أهلك الله الأمم المكذبة بالرسل مما حولها كعاد، وكانوا بالأحقاف بحضرموت عند اليمن وثمود، وكانت منازلهم بينهم وبين الشام، وكذلك سبأ وهم أهل اليمن، ومدين وكانت في طريقهم وممرهم إلى غزة، وكذلك بحيرة قوم لوط، كانوا يمرون بها أيضا.
وقوله: { وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ } أي: بيناها ووضحناها، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَة } أي: فهلا نصروهم عند احتياجهم إليهم، { بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ } أي: بل ذهبوا عنهم أحوج ما كانوا إليهم، { وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ } أي: كذبهم، { وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } أي: وافتراؤهم في اتخاذهم إياهم آلهة، وقد خابوا وخسروا في عبادتهم لها، واعتمادهم عليها.
__________
(1) في ت: "وروى الطبراني بإسناده".
(2) في ت: "البيوت".
(3) المعجم الكبير (12/42)، قال الهيثمي في المجمع (7/113): "فيه مسلم الملائي وهو ضعيف".
(4) في ت: "فيها".
=============
تفسير القرطبي
الأحقاف - تفسير القرطبي
الآية: 21 {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}
قوله تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} هو هود بن عبدالله بن رباح عليه السلام، كان أخاهم في النسب لا في الدين. {إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} أي اذكر لهؤلاء المشركين قصة عاد ليعتبروا بها. وقيل: أمره بأن يتذكر في نفسه قصة هود ليقتدي به، ويهون عليه تكذيب قومه له. والأحقاف: ديار عاد. وهي الرمال العظام، في قول الخليل وغيره. وكانوا قهروا أهل الأرض بفضل قوتهم. والأحقاف جمع حقف، وهو ما استطال من الرمل العظيم وأعوج ولم يبلغ أن يكون جبلا، والجمع حقاف وأحقاف وحقوف. واحقوقف الرمل والهلال أي اعوج. وقيل: الحقف جمع حقاف. والأحقاف جمع الجمع. ويقال: حِقف أحقف. قال الأعشى:
بات إلى أرطاة حقف أحقفا
أي رمل مستطيل مشرف. والفعل منه احقوقف. قال العجاج:
طي الليالي زلفا فزلفا ... سماوة الهلال حتى احقوقفا
أي انحنى واستدار. وقال امرؤ القيس:
كحقف النقا يمشي الوليدان فوقه ... بما احتسبا من لين مس وتسهال
وفيما أريد بالأحقاف ها هنا مختلف فيه. فقال ابن زيد: هي رمال مشرفة مستطيلة كهيئة الجبال، ولم تبلغ أن تكون جبالا، وشاهده ما ذكرناه. وقال قتادة: هي جبال
(16/203)
مشرفة بالشحر، والشحر قريب من عدن، يقال: شحر عمان وشحر عمان، وهو ساحل البحر بين عمان وعدن. وعنه أيضا: ذكر لنا أن عادا كانوا أحياء باليمن، أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها: الشحر. وقال مجاهد: هي أرض من حسمى تسمى بالأحقاف. وحسمى (بكسر الحاء) اسم أرض بالبادية فيها جبال شواهق ملس الجوانب لا يكاد القتام يفارقها. قال النابغة:
فأصبح عاقلا بجبال حسمى ... دقاق الترب محتزم القتام
قاله الجوهري. وقال ابن عباس والضحاك: الأحقاف جبل بالشام. وعن ابن عباس أيضا: واد بين عمان ومهرة. وقال مقاتل: كانت منازل عاد باليمن في حضر موت بواد يقال له مهرة، وإليه تنسب الإبل المهرية، فيقال: إبل مهرية ومهاري. وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم، وكانوا من قبيلة إرم. وقال الكلبي: أحقاف الجبل ما نضب عنه الماء زمان الغرف، كان ينضب الماء من الأرض ويبقى أثره. وروى الطفيل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه فال: خير واديين في الناس واد بمكة وواد نزل به آدم بأرض الهند. وشر واديين في الناس واد بالأحقاف وواد بحضر موت يدعى برهوت تلقى فيه أرواح الكفار. وخير بئر في الناس بئر زمزم. وشر بئر في الناس بئر برهوت، وهو في ذلك الوادي الذي بحضر موت. {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ} أي مضت الرسل. {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} أي من قبل هود. {وَمِنْ خَلْفِهِ} أي ومن بعده، قال الفراء. وفي قراءة ابن مسعود {من بين يديه ومن بعده}. {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} هذا من قول المرسل، فهو كلام معترض. ثم قال هود: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وقيل: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} من كلام هود، والله أعلم.
الآية: 22 - 25 {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ}
(16/204)
{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}
قوله تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا} فيه وجهان: أحدهما: لتزيلنا عن عبادتها بالإفك. الثاني: لتصرفنا عن آلهتنا بالمنع، قال الضحاك. قال عروة بن أذينة:
إن تك عن أحسن الصنيعة مأ ... فوكا ففي آخرين قد أفكوا
يقول: إن لم توفق للإحسان فأنت في قوم قد صرفوا. {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} هذا يدل على أن الوعد قد يوضع موضع الوعيد. {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أنك نبي {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ} بوقت مجيء العذاب. {عِنْدَ اللَّهِ} لا عندي {وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ} عن ربكم. {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} في سؤالكم استعجال العذاب. {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً} قال المبرد: الضمير في {رَأَوْهُ} يعود إلى غير مذكور، وبينه قوله: {عَارِضاً} فالضمير يعود إلى السحاب، أي فلما رأوا السحاب عارضا. فـ {عَارِضاً} نصب على التكرير، سمي بذلك لأنه يبدو في عرض السماء. وقيل: نصب على الحال. وقيل: يرجع الضمير إلى قوله: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} فلما رأوه حسبوه سحابا يمطرهم، وكان المطر قد أبطأ عنهم، فلما رأوه {مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} استبشروا. وكان قد جاءهم من واد جرت العادة أن ما جاء منه يكون غيثا، قاله ابن عباس وغيره. قال الجوهري: والعارض السحاب يعترض في الأفق، ومنه قوله تعالى: {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} أي ممطر لنا، لأنه معرفة لا يجوز أن يكون صفة لعارض وهو نكرة. والعرب إنما تفعل مثل هذا في الأسماء المشتقة من الأفعال دون غيرها. قال جرير:
يا رب غابطنا لو كان يطلبكم ... لاقى مباعدة منكم وحرمانا
ولا يجوز أن يقال: هذا رجل غلامنا. وقال أعرابي بعد الفطر: رب صائمة لن تصومه، وقائمة لن تقومه، فجعله نعتا للنكرة وأضافه إلى المعرفة.
(16/205)
قلت: قوله: "لا يجوز أن يكون صفة لعارض" خلاف قول النحويين، والإضافة في تقدير الانفصال، فهي إضافة لفظية لا حقيقية، لأنها لم تفد الأول تعريفا، بل الاسم نكرة على حاله، فلذلك جرى نعتا على النكرة. هذا قول النحويين في الآية والبيت. ونعت النكرة نكرة. و"رب" لا تدخل إلا على النكرة. {بَلْ هُوَ} أي قال هود لهم. والدليل عليه قراءة من قرأ {قال هود بل هو} وقرئ {قل بل ما استعجلتم به هي ريح} أي قال الله: قل بل هو ما استعجلتم به، ويعني قولهم: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} ثم بين ما هو فقال: {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} والريح التي عذبوا بها نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه، وخرج هود من بين أظهرهم، فجعلت تحمل الفساطيط وتحمل الظعينة فترفعها كأنها جرادة، ثم تضرب بها الصخور. قال ابن عباس: أول ما رأوا العارض قاموا فمدوا أيديهم، فأول ما عرفوا أنه عذاب رأوا ما كان خارجا من ديارهم من الرجال والمواشي تطير بهم الريح ما بين السماء والأرض مثل الريش، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم، فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم، وأمر الله الريح فأمالت عليهم الرمال، فكانوا تحت الرمال سبع ليال وثمانية أيام حسوما، ولهم أنين، ثم أمر الله الريح فكشف عنهم الرمال واحتملتهم فرمتهم في البحر، فهي التي قال الله تعالى فيها: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} أي كل شيء مرت عليه من رجال عاد وأموالها. قال ابن عباس: أي كل شيء بعثت إليه.
والتدمير: الهلاك. وكذلك الدمار. وقرئ {يدمر كل شيء} من دمر دمارا. يقال: دمره تدميرا ودمارا ودمر عليه بمعنى. ودمر يدمر دمورا دخل بغير إذن. وفي الحديث: "من سبق طرفه استئذانه فقد دمر" مخفف الميم. وتدمر: بلد بالشام. ويربوع تدمري إذا كان صغيرا قصيرا. {بِأَمْرِ رَبِّهَا} بإذن ربها. وفي البخاري عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم. قالت: وكان إذا رأى غيما أو ريحا
(16/206)
عرف في وجهه. قالت: يا رسول الله، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية؟ فقال: "يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا هذا عارض ممطرنا" خرجه مسلم والترمذي، وقال فيه: حديث حسن. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور". وذكر الماوردي أن القائل {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} من قوم عاد: بكر بن معاوية، ولما رأى السحاب قال: إني لأرى سحابا مرمدا، لا تدع من عاد أحدا. فذكر عمرو بن ميمون أنها كانت تأتيهم بالرجل الغائب حتى تقذفه في ناديهم. قال ابن إسحاق: واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة، ما يصيبه ومن معه منها إلا ما يلين أعلى ثيابهم. وتلتذ الأنفس به، لأنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة حتى هلكوا. وحكى الكلبي أن شاعرهم قال في ذلك:
فدعا هود عليهم ... دعوة أضحوا همودا
عصفت ريح عليهم ... تركت عادا خمودا
سخرت سبع ليال ... لم تدع في الأرض عودا
وعمر هود في قومه بعدهم مائة وخمسين سنة. {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ}
قرأ عاصم وحمزة {لا يرى إلا مساكنهم} بالياء غير مسمى الفاعل. وكذلك روى حماد بن سلمة عن ابن كثير إلا أنه قرأ {ترى} بالتاء. وقد روى ذلك عن أبي بكر عن عاصم. الباقون {ترى} بتاء مفتوحة. {مساكنهم} بالنصب، أي لا ترى يا محمد إلا مساكنهم. قال المهدوي: ومن قرأ بالتاء غير مسمى الفاعل فعلى لفظ الظاهر الذي هو المساكن المؤنثة، وهو قليل لا يستعمل إلا في الشعر. وقال أبو حاتم: لا يستقيم هذا في اللغة إلا أن يكون فيها إضمار، كما تقول في الكلام ألا ترى النساء إلا زينب.
(16/207)
وقال سيبويه: معناه لا ترى أشخاصهم إلا مساكنهم. واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة عاصم وحمزة. قال الكسائي: معناه لا يرى شيء إلا مساكنهم، فهو محمول على المعنى، كما تقول: ما قام إلا هند، والمعنى ما قام أحد إلا هند. وقال الفراء: لا يرى الناس لأنهم كانوا تحت الرمل، وإنما ترى مساكنهم لأنها قائمة. {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} أي مثل هذه العقوبة نعاقب بها المشركين.
الآية: 26 {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} قيل: إن {إن} زائدة، تقديره ولقد مكناكم فيما مكناكم فيه. وهذا قول القتبي. وأنشد الأخفش:
يرجي المرء ما إن لا يراه ... وتعرض دون أدناه الخطوب
وقال آخر:
فما إن طبنا جبن ولكن ... منايانا ودولة آخرينا
وقيل: إن {ما} بمعنى الذي. و {إن} بمعنى ما، والتقدير ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه، قاله المبرد. وقيل: شرطية وجوابها مضمر محذوف، والتقدير ولقد مكناهم في ما إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر وعنادكم أشد، وتم الكلام.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً} يعني قلوبا يفقهون بها. {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} ما أغنت عنهم من عذاب الله. {إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ} يكفرون {بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ} أحاط بهم {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}.
(16/208)
الآية: 27 {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} يريد حجر ثمود وقرى لوط ونحوهما مما كان يجاور بلاد الحجاز، وكانت أخبارهم متواترة عندهم. {وَصَرَّفْنَا الْآياتِ} يعني الحجج والدلالات وأنواع البينات والعظات، أي بيناها لأهل تلك القرى. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} فلم يرجعوا. وقيل: أي صرفنا آيات القرآن في الوعد والوعيد والقصص والإعجاز لعل هؤلاء المشركين يرجعون.
الآية: 28 {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}
قوله تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ} {لولا} بمعنى هلا، أي هلا نصرهم آلهتهم التي تقربوا بها بزعمهم إلى الله لتشفع لهم حيث قالوا: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] ومنعتهم من الهلاك الواقع بهم. قال الكسائي: القربان كل ما يتقرب به إلى الله تعالى من طاعة ونسيكة، والجمع قرابين، كالرهبان والرهابين. وأحد مفعولي اتخذ الراجع إلى الذين المحذوف، والثاني {آلِهَةً} . و {قُرْبَاناً} حال، ولا يصح أن يكون {قربانا} مفعولا ثانيا. و {آلِهَةً} بدل منه لفساد المعنى، قال الزمخشري. وقرئ {قُرْبَاناً} بضم الراء. {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} أي هلكوا عنهم. وقيل: {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} أي ضلت عنهم آلهتهم لأنها لم يصبها ما أصابهم، إذ هي جماد. وقيل: {ضَلُّوا عَنْهُمْ} أي تركوا الأصنام وتبرؤوا منها. {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ} أي والآلهة التي ضلت عنهم هي إفكهم في قولهم: إنها تقربهم إلى الله زلفى. وقراءة العامة {إِفْكُهُمْ} بكسر الهمزة وسكون الفاء، أي كذبهم. والإفك: الكذب، وكذلك الأفيكة، والجمع الأفائك. ورجل أفاك أي كذاب. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن الزبير {وذلك أَفَكَهُم} بفتح الهمزة
(16/209)
والفاء والكاف، على الفعل، أي ذلك القول صرفهم عن التوحيد. والأفك "بالفتح" مصدر قولك: أفكه يأفكه أفكا، أي قلبه وصرفه عن الشيء. وقرأ عكرمة {أَفَّكهم} بتشديد الفاء على التأكيد والتكثير. قال أبو حاتم: يعني قلبهم عما كانوا عليه من النعيم. وذكر المهدوي عن ابن عباس أيضا {آفِكهم} بالمد وكسر الفاء، بمعنى صارفهم. وعن عبدالله بن الزبير باختلاف عنه {آفَكهم} بالمد، فجاز أن يكون أفعلهم، أي أصارهم إلى الإفك. وجاز أن يكون فاعلهم كخادعهم. ودليل قراءة العامة {إفكهم} قوله: {وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي يكذبون. وقيل {أفكهم} مثل {أفكهم} . الإفك والأفك كالحذر والحذر، قاله المهدوي.
=================
تفسير الطبري
الأحقاف - تفسير الطبري
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : واذكر يا محمد لقومك الرّادّين عليك ما جئتهم به من الحقّ هودا أخا عاد، فإن الله بعثك إليهم كالذي بعثه إلى عاد، فخوّفهم أن يحلّ بهم من نقمة الله على كفرهم ما حلّ بهم إذ كذّبوا رسولنا هودًا إليهم، إذ أنذر قومه عادا بالأحقاف. والأحقاف: جمع حقف وهو من الرمل ما استطال، ولم يبلغ أن يكون جبلا وإياه عنى الأعشى:
فَباتَ إلى أرْطاةِ حِقْفٍ تَلُفُّهُ... خَرِيقُ شَمالٍ يَتْرُكُ الوَجْهَ أقْتَما (1)
واختلف أهل التأويل في الموضع الذي به هذه الأحقاف، فقال بعضهم: هي جبل بالشام.
__________
(1) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة ( ديوانه طبعة القاهرة 295 ) وفي روايته : " يلوذ " في موضع " فبات " : من قصيدة يمدح بها إياس بن قبيصة الطائي ، أو قيس بن معد يكرب ، والضمير في فبات راجع إلى الثور الوحشي الذي شبه به ناقته ، في أبيات سابقة . والأرطي : شجر ضخم ينبت في الرمل. واحدته : أرطأة . ما اعوج وانعطف ، وجمعه : أحقاف . وهو موضع الشاهد في البيت . والخريق : الريح الشديدة الهبوب . والشمال : ريح باردة تهب من ناحية الشام . يقول : يلجأ هذا الثور إلى أرطأة في منعرج رمل ، تعصف من حوله ريح شمالية هوجاء ، فتترك وجهه أغبر قاتمًا .
(22/122)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:( وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ ) قال: الأحقاف: جبل بالشام.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله( إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ ) جبل يسمى الأحقاف.
وقال آخرون: بل هي واد بين عُمان ومهرة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس( وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ ) قال: فقال: الأحقاف الذي أنذر هود قومه واد بين عمان ومهرة.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كانت منازل عاد وجماعتهم، حيث بعث الله إليهم هودا الأحقاف: الرمل فيما بين عُمان إلى حَضْرَمَوْتَ، فاليمن كله، وكانوا مع ذلك قد فشَوْا في الأرض كلها، قهروا أهلها بفضل قوّتهم التي آتاهم الله.
وقال آخرون: هي أرض.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قال: الأحقاف: الأرض.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد( إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ ) قال: حشاف أو كلمة تشبهها، قال أبو موسى: يقولون مستحشف.
(22/123)
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد( إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ ) حِشاف من حِسْمَى.
وقال آخرون: هي رمال مُشْرفة على البحر بالشِّحْر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتاده، قوله( وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ ) ذُكر لنا أن عادا كانوا حيا باليمن أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشِّحْر.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله( وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ ) قال: بلغَنَا أنهم كانوا على أرض يقال لها الشحر، مشرفين على البحر، وكانوا أهل رمل.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن عمرو بن عبد الله، عن قتادة، أنه قال: كان مساكن عاد بالشِّحْر.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: أن الله تبارك وتعالى أخبر أن عادا أنذرهم أخوهم هود بالأحقاف، والأحقاف ما وصفت من الرمال المستطيلة المشرفة، كما قال العَجَّاج:
بات إلى أرْطاةِ حقْف أحْقَفا (1)
__________
(1) لم أجد البيت في ديوان العجاج المطبوع . والذي في ( اللسان : حقف ) : واحقوقف الرمل : إذا طال واعوج . واحقوقف الهلال : اعوج . وكل ما طال واعوج فقد احقوقف ، كظهر البعير ، وشخص القمر ، قال العجاج : ناج طواه الأين مما وجفا ... طي الليالي زلفا فزلفا
* سماوة الهلال حتى احقوقفا *
والمؤلف ساق هذا البيت شاهدًا على أن الأحقاف : الرمال المستطيلة المشرفة ، كما قال العجاج : " بات ... إلخ " . وأصله من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن ( الورقة 222 ) قال : " إذ أنذر قومه بالأحقاف " : أحقاف الرمال . قال العجاج ... البيت . أقول : ولست على يقين من صحة هذا الشاهد ، فإن أكثر ألفاظه من ألفاظ الشاهد الذي قبله ، فلعله اضطرب في أفواه الرواة وتداخل مع سابقه .
(22/124)
وكما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله( وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ ) قال: الأحقاف: الرمل الذي يكون كهيئة الجبل تدعوه العرب الحقف، ولا يكون أحقافا إلا من الرمل، قال: وأخو عاد هود. وجائز أن يكون ذلك جبلا بالشأم. وجائز أن يكون واديا بين عمان وحضرموت. وجائز أن يكون الشحر وليس في العلم به أداء فرض، ولا في الجهل به تضييع واجب، وأين كان فصفته ما وصفنا من أنهم كانوا قوما منازلهم الرمال المستعلية المستطيلة.
وقوله( وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ ) يقول تعالى ذكره: وقد مضت الرسل بإنذار أممها( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ) يعني: من قبل هود ومن خلفه، يعني: ومن بعد هود. وقد ذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله(وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ بَعْدِهِ) ،( أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ ) يقول: لا تشركوا مع الله شيئا في عبادتكم إياه، ولكن أخلصوا له العبادة، وأفردوا له الألوهة، إنه لا إله غيره، وكانوا فيما ذُكر أهل أوثان يعبدونها من دون الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله( وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ ) قال: لن يبعث الله رسولا إلا بأن يعبد الله.
وقوله( إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هود لقومه: إني أخاف عليكم أيها القوم بعبادتكم غير الله عذاب الله في يوم عظيم وذلك يوم يعظم هوله، وهو يوم القيامة.
(22/125)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23)
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) }
يقول تعالى ذكره: قالت عاد لهود، إذ قال لهم لا تعبدوا إلا الله: إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم، أجئتنا يا هود لتصرفنا عن عبادة آلهتنا إلى عبادة ما تدعونا إليه، وإلى اتباعك على قولك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله( أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا ) قال: لتزيلنا، وقرأ( إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا ) قال: تضلنا وتزيلنا وتأفكنا( فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ) من العذاب على عبادتنا ما نعبد من الآلهة( إِنْ كُنْتُ ) من أهل الصدق في قوله وعداته.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) }
يقول تعالى ذكره: قال هود لقومه عاد:( إِنَّمَا الْعِلْمُ ) بوقت مجيء ما أعدكم به من عذاب الله على كفركم به عند الله، لا أعلم من ذلك إلا ما علمني( وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ ) يقول: وإنما أنا رسول إليكم من الله، مبلغ أبلغكم عنه ما أرسلني به من الرسالة( وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ) مواضع حظوظ أنفسكم، فلا تعرفون ما عليها من المضرّة بعبادتكم غير الله، وفي استعجال عذابه.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ
(22/126)
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24)
أَلِيمٌ (24) }
يقول تعالى ذكره: فلما جاءهم عذاب الله الذي استعجلوه، فرأوه سحابا عارضا في ناحية من نواحي السماء( مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ ) والعرب تسمي السحاب الذي يُرَى في بعض أقطار السماء عشيا، ثم يصبح من الغد قد استوى، وحبا بعضه إلى بعض عارضا، وذلك لعرضه في بعض أرجاء السماء حين نشأ، كما قال الأعشى:
يا من يَرَى عارضا قَدْ بِتُّ أرْمُقُهُ... كأنَّمَا الْبَرْقُ في حافاتِهِ الشُّعَلُ (1)
( قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ) ظنا منهم برؤيتهم إياه أن غيثا قد أتاهم يَحيون به، فقالوا: هذا الذي كان هودٌ يعدنا، وهو الغيث.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله( فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ )... الآية، وذُكر لنا أنهم حبس عنهم المطر زمانا، فلما رأوا العذاب مقبلا( قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ) . وذُكر لنا أنهم قالوا: كذب هود كذب هود; فلما خرج نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم الله فشامه، قال:( بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ساق الله السحابة السوداء التي اختار قَيْلُ ابن عنز بما فيها من النقمة إلى عاد، حتى تخرج عليهم من واد لهم يقال له المغيث، فلما رأوها استبشروا( قَالُوا هَذَا عَارِضٌ
__________
(1) البيت لأعشى بن قيس بن ثعلبة ( ديوانه طبعه القاهرة 57 ) وفي روايته : " أرقبه " في موضع " أرمقه " ، وهما بمعنى أنظر إليه . واليت شاهد على أن معنى العارض السحاب المعترض في السماء . قال في ( اللسان : عرض ) والعارض : السحاب الذي يعترض في أفق السماء . وفي التنزيل في قصة قوم عاد : " فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا " أي قالوا : هذا الذي وعدنا به سحاب فيه الغيث . أ هـ . وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن : ( الورقة 222 ) والعارض من السحاب : الذي يرى في قطر من أقطار السماء من العشى ، ثم يصبح وقد حبا حتى استوى .
(22/127)
مُمْطِرُنَا ) : يقول الله عزّ وجلّ:( بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .
وقوله( بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم هود لقومه لما قالوا له عند رؤيتهم عارض العذاب، قد عرض لهم في السماء هذا عارض ممطرنا نحيا به، ما هو بعارض غيث، ولكنه عارض عذاب لكم، بل هو ما استعجلتم به: أي هو العذاب الذي استعجلتم به، فقلتم:( فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ )( رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) والريح مكرّرة على ما في قوله( هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ ) كأنه قيل: بل هو ريح فيها عذاب أليم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: كان هود جلدا في قومه، وإنه كان قاعدا في قومه، فجاء سحاب مكفهرّ،( قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا فَقَالَ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) قال: فجاءت ريح فجعلت تلقي الفسطاط، وتجيء بالرجل الغائب فتلقيه.
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن جدّه، قال: قال سليمان، ثنا أبو إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: لقد كانت الريح تحمل الظعينة فترفعها حتى تُرى كأنها جرادة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله( فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ )... إلى آخر الآية، قال: هي الريح إذا أثارت سحابا،( قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ) ، فقال نبيهم: بل ريح فيها عذاب أليم.
(22/128)
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
القول في تأويل قوله تعالى : { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) }
وقوله( تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ) : يقول تعالى ذكره: تخرّب كل شيء، وترمي بعضه على بعض فتهلكه، كما قال جرير
وكانَ لَكُمْ كَبَكْرِ ثَمُود لَمَّا... رَغا ظُهْرًا فَدَمَّرَهُمْ دَمارًا (1)
يعني بقوله: دمرهم: ألقى بعضهم على بعض صَرْعى هَلكَى.
وإنما عنى بقوله( تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ) مما أرسلت بهلاكه، لأنها لم تدمر هودا ومن كان آمن به.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا طلق، عن زائدة، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ما أرسل الله على عادٍ من الريح إلا قدر خاتمي هذا، فنزع خاتمه.
وقوله( فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ ) يقول: فأصبح قوم هود وقد هلكوا وفنوا، فلا يُرى في بلادهم شيء إلا مساكنهم التي كانوا يسكنونها.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة( لا تَرَى إلا مَساكِنَهُمْ) بالتاء نصبا، بمعنى: فأصبحوا لا ترى أنت يا محمد إلا مساكنهم وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة( لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ ) بالياء في(يُرى) ، ورفع المساكن، بمعنى: ما وصفت قبل أنه لا
__________
(1) البيت ليس لجرير كما ورد في الأصل ، وإنما هو للفرذدق ، من قصيدة في ديوانه يرد بها على جرير ويناقضه وهي في ديوانه ( طبعة الصاوي 442 ) ، وأول القصيدة : جَرَّ المُخْزِيات عَلَى كُلَيْبٍ ... جرير ثم ما منع الذمارًا
وكانَ لَهُمْ كَبَكْرِ ثَمُودَ لَمَّا ... رَغا ظُهْرا فَدَمَّرَهُمْ دَمارًا
أي جلب على قومه الدمار والخراب
(22/129)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)
يرى في بلادهم شيء إلا مساكنهم.
وروى الحسن البصري( لا تُرَى) بالتاء، وبأيّ القراءتين اللتين ذكرت من قراءة أهل المدينة والكوفة قرأ ذلك القارئ فمصيب وهو القراءة برفع المساكن إذا قُرئ قوله(يُرى) بالياء وضمها وبنصب المساكن إذا قرئ قوله: "ترى" بالتاء وفتحها، وأما التي حُكيت عن الحسن، فهي قبيحة في العربية وإن كانت جائزة، وإنما قبحت لأن العرب تذكِّر الأفعال التي قبل إلا وإن كانت الأسماء التي بعدها أسماء إناث، فتقول: ما قام إلا أختك، ما جاءني إلا جاريتك، ولا يكادون يقولون: ما جاءتني إلا جاريتك، وذلك أن المحذوف قبل إلا أحد، أو شيء واحد، وشيء يذكر فعلهما العرب، وإن عنى بهما المؤنث، فتقول: إن جاءك منهنّ أحد فأكرمه، ولا يقولون: إن جاءتك، وكان الفرّاء يجيزها على الاستكراه، ويذكر أن المفضل أنشده:
وَنارُنا لَمْ تُرَ نارًا مِثْلُها... قَدْ عَلِمَتْ ذاكَ مَعَدّ أكْرَمَا (1)
فأنث فعل مثل لأنه للنار، قال: وأجود الكلام أن تقول: ما رئي مثلها.
وقوله( كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ) يقول تعالى ذكره: كما جزينا عادا بكفرهم بالله من العقاب في عاجل الدنيا، فأهلكناهم بعذابنا، كذلك نجزي القوم الكافرين بالله من خلقنا، إذ تمادوا في غيهم وطَغَوا على ربهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 301 ) استشهد به عند قوله تعالى : " فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم " فقال إنها قرئت بالتاء أو بالياء مضمومة ( مع بناء الفعل للمجهول ) . ووصف القراءة بالتاء المضمومة بأن فيها قبحًا ؛ قال : لأن العرب إذا جعلت فعل المؤنث قبل إلا ذكروه ، فقالوا : لم يقم إلا جاريتك ، وما قام إلا جاريتك ، ولا يكادون يقولون : ما قامت إلا جاريتك ، وذلك أن المتروك ( المستثنى منه ) أحد أو شيء ، فأحد إذا كانت لمؤنث أو مذكر فعلها مذكر ؛ ألا ترى أنك تقول : إن قام أحد منهن فاضربه ، ولا تقول : إن قامت إلا مستكرها ، وهو على ذلك جائز ؛ قال : أنشدني المفضل : " ونارنا ... البيت " . فأنت فعل مؤنث ، لأنه للنار ؛ وأجود الكلام أن تقول : ما رؤى مثلها . قلت : وقوله " أكرما " نعت لنارا .
(22/130)
أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) }
يقول تعالى ذكره لكفار قريش: ولقد مكنَّا أيها القوم عادا الذين أهلكناهم بكفرهم فيما لم نمكنكم فيه من الدنيا، وأعطيناهم منها الذي لم نعطكم منهم من كثرة الأموال، وبسطة الأجسام، وشدّة الأبدان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثني أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله( وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ) يقول: لم نمكنكم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله( وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ) : أنبأكم أنه أعطى القوم ما لم يعطكم.
وقوله( وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا ) يسمعون به مواعظ ربهم، وأبصارا يبصرون بها حجج الله، وأفئدة يعقلون بها ما يسرّهم وينفعهم( فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ ) يقول: فلم ينفعهم ما أعطاهم من السمع والبصر والفؤاد إذ لم يستعملوها فيما أعطوها له، ولم يعملوها فيما ينجيهم من عقاب الله، ولكنهم استعملوها فيما يقرّبهم من سخطه( إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ) يقول: إذ كانوا يكذّبون بحجج الله وهم رُسله، وينكرون نبوّتهم( وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) يقول: وعاد عليهم ما استهزءوا به، ونزل بهم ما سخروا به، فاستعجلوا به من العذاب، وهذا وعيد من الله جلّ ثناؤه لقريش، يقول لهم: فاحذروا أن يحلّ بكم من العذاب على كفركم بالله وتكذيبكم رسله، ما حلّ بعاد، وبادروا بالتوبة قبل النقمة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ
(22/131)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) }
يقول تعالى ذكره لكفار قريش محذّرهم بأسه وسطوته، أن يحلّ بهم على كفرهم( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا ) أيها القوم من القُرَى ما حول قريتكم، كحجر ثمود وأرض سدوم ومأرب ونحوها، فأنذرنا أهلها بالمَثُلات، وخرّبنا ديارها، فجعلناها خاوية على عروشها.
وقوله:( وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ ) يقول: ووعظناهم بأنواع العظات، وذكرناهم بضروب من الذِّكْر والحجج، وبيَّنا لهم ذلك.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله( وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ ) قال بيَّناها( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) يقول ليرجعوا عما كانوا عليه مقيمين من الكفر بالله وآياته. وفي الكلام متروك ترك ذكره استغناء بدلالة الكلام عليه، وهو: فأبوا إلا الإقامة على كفرهم، والتمادي في غيهم، فأهلكناهم، فلن ينصرهم منا ناصر؛ يقول جلّ ثناؤه: فلولا نصر هؤلاء الذين أهلكناهم من الأمم الخالية قبلهم أوثانهم وآلهتهم التي اتخذوا عبادتها قربانا يتقرّبون بها فيما زعموا إلى ربهم منا إذ جاءهم بأسنا، فتنقذهم من عذابنا إن كانت تشفع لهم عند ربهم كما يزعمون.
وهذا احتجاج من الله لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على مُشركي قومه، يقول لهم: لو كانت آلهتكم التي تعبدون من دون الله تغني عنكم شيئا، أو تنفعكم عند الله كما تزعمون أنكم إنما تعبدونها، لتقرّبكم إلى الله زلفى، لأغنت عمن كان قبلكم من الأمم التي أهلكتها بعبادتهم إياها، فدفعت عنها العذاب إذا نزل، أو لشفعت لهم عند ربهم، فقد كانوا من عبادتها على مثل الذي عليه أنتم، ولكنها ضرتهم ولم تنفعهم.
يقول تعالى ذكره:( بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ ) يقول: بل تركتهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها، فأخذت غير طريقهم،
(22/132)
لأن عبدتها هلكت، وكانت هي حجارة أو نحاسا، فلم يصبها ما أصابهم ودعوها، فلم تجبهم، ولم تغثهم، وذلك ضلالها عنهم، وذلك إفكهم، يقول عزّ وجلّ هذه الآلهة التي ضلَّت عن هؤلاء الذين كانوا يعبدونها من دون الله عند نزول بأس الله بهم، وفي حال طمعهم فيها أن تغيثهم، فخذلتهم، هو إفكهم: يقول: هو كذبهم الذي كانوا يكذّبون، ويقولون به هؤلاء آلهتنا وما كانوا يفترون، يقول: وهو الذي كانوا يفترون، فيقولون: هي تقرّبنا إلى الله زُلفى، وهي شفعاؤنا عند الله. وأخرج الكلام مخرج الفعل، والمعنيّ المفعول به، فقيل: وذلك إفكهم، والمعنيّ فيه: المأفوك به لأن الإفك إنما هو فعل الآفك، والآلهة مأفوك بها. وقد مضى البيان عن نظائر ذلك قبل، قال: وكذلك قوله( وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار، وذلك إفكهم بكسر الألف وسكون الفاء وضم الكاف بالمعنى الذي بيَّنا.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك ما حدثني أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا هشيم، عن عوف، عمن حدثه، عن ابن عباس، أنه كان يقرؤها(وَذَلِكَ أَفْكُهُمْ) يعني بفتح الألف والكاف وقال: أضلهم. فمن قرأ القراءة الأولى التي عليها قرّاء الأمصار، فالهاء والميم في موضع خفض. ومن قرأ هذه القراءة التي ذكرناها عن ابن عباس فالهاء والميم في موضع نصب، وذلك أن معنى الكلام على ذلك، وذلك صرفهم عن الإيمان بالله.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا، القراءة التي عليها قراءة الأمصار لإجماع الحجة عليها. ===